الإعلام.. وتصنيع المستقبل محمد الرميحي
حديث
الشهر
في ذكرى أغسطس
يروي الصحفي الأمريكي نيكولاس دانيلوف، وكان يقوم بتغطية أنباء الاتحاد السوفييتي من موسكو، لحساب بعض الصحف الأميكية يروي الطرفة الروسية التالية:
"المحقق: إيفان ايفانوفيتش، كيف ترى العلاقات السوفييتية الأمريكية؟
- إيفان: حسنا، أراها كما كتبت عنها صحيفة برافدا، وما قالته "برافدا" هو ما أعتقده تماما.
المحقق: إيفان إيفانوفيتش، كيف ترى العلاقات مع الصين؟
- إيفان: حسئا، إن ما قالته صحيفة " أزفستيا " عن العلاقات مع الصين يعكس تماما وجهة نظري.
المحقق: وكيف ترى الرئيس ريجان؟
- إيفان: حسئا، إن ما ذكرته وكالة "تاس" يوم أمس عن ريجان يعبر حرفيا عن رؤيتي له.
المحقق: إيفان ايفانوفيتش، ألا تملك أفكار خاصة بك؟
- إيفان: بلى، ولكنني لا أتفق مع هذه الأفكار".
ويعلق مدير الإدارة في هيئة الإذاعة البريطانية جون توسا على هذه الطرفة السوداء بقوله: "كانت مهمتنا أن نقول للمستمعين في الاتحاد السوفييتي: إن هناك عالما آخر غير العالم الرسمي".
ويضيف توسا في كتابه الذي صدر أخيراً ويحمل عنوان "عالم كامل في أذنيك" تعليقا على التغطية الإخبارية إبان احتلال وتحرير الكويت: إن الحرب في الخليج أثبتت أن لدى المستمعين رغبة هائلة في المعرفة، فقد ارتفع عدد المستمعين إلى القناة الرابعة من " بي. بي. سي" مليونا ونصف المليون مستمع لأن المحطة اختارت لها موضوعا وحيدا وهو تغطية أنباء احتلال الكويت ثم تفاصيل حرب التحرير. وأسقطت بالتالي مقولة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفل تشامبرلين الذي وصف الحرب التي شنها هتلر على تشيكوسلوفاكيا عام 1938 بأنها "حرب في بلاد بعيدة بين أناس لا نعرف عنهم أي شيء"، وهذه الحاجة إلى المعرفة التي تلبيها وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، ربما تحل مشكلة إيفان ايفانوفيتش ومن هم مثله، ولكنها، بالمقابل تطرح مشكلة أخرى، يعبرعنها توسا بقوله: (إن المشاهد اليوم أو المستمع يمكن أن يقلب عبارة تشامبرلين كالتالي "إن هناك أزمات تقع في أماكن بعيدة، نعرف عنها الكثير ولكننا لا نستطيع أن نفعل حيالها إلا القليل... والمطلوب هو أن نربط بين المعرفة وبين الفعل").
العالم من حولنا يضج بوسائل الإعلام المختلفة، وأصبح من المؤكد أن يسقط البث المباشر التليفزيوني كل الحواجز ويقرب المسافات ويصبح أخطر سلاح لتوجيه الرأي العام وصناعته.
وفي هذا الشهر، حيث تتجدد الذكرى الثانية لاحتلال الكويت مع حرب تحريرها لن نطرح الدور الذي قام به الإعلام بحيث كادت الحرب تتحول إلى حرب تليفزيونية، بقدر ما نحاول الكشف عن قدرات هذا الإعلام اللامتناهية في صياغة توجهات وقناعات الإنسان العادي وتأثير ذلك الإعلام الضخم في عصرنا الذي نعيش والذي يطرح مفاهيم جديدة عن الحرية وقدرة الإنسان على "الربط بين المعرفة و.. الفعل"، وأكثر من ذلك استخدام التاريخ كمادة أولية لبناء المستقبل.
هذا يحدث الآن
تيد تيرنر هو الزوج الثالث للممثلة الشهيرة جين فوندا، وهو في الوقت نفسه مؤسس شبكة "سي. إن. إن" وعندما قررت مجلة "تايم" الأمريكية اختياره "رجل العام" على غلافها في الأسبوع الأخير من عام 1991، فإنها كانت تحدد معالم العصر المقبل، وهو عصر الاتصالات والمعلومات المنقولة عبر أجهزة الإعلام، وعبر القارات والبلدان والحدود وبذلك كان تيرنر وليس بوش ولا شوارزكوف، هو من يكشف عن ملامح العالم في القرن الواحد والعشرين. لاشك أن القرار الذي اتخذه الرئيس بوش وشارك في تنفيذه الجنرال نورمان شوارزكوف مع نخبة من القادة في عالمنا العربي وفي الغرب هو قرار تاريخي، ولكن ما فعلته "سي. إن. إن" هو ا،ها حملت التاريخ إلى منازلنا ودفعته داخل بيوتنا لتجعله حاضراً معيشا، وبالتالي فإن ما كمنا نشاهده "لم يكن شيئا حدث ولكنه شيء يحدث الآن"، ونتائجه ستنعكس علينا جميعا، وهو ما تجسده حادثة رواها مراسل صحيفة "التايمز" البريطانية اليومية واسعة الإنتشار، فقد كتب يقول : "كنت في الرياض، وكان الهاتف يرن فجأة في منتصف الليل، وأنا نائم في سر يري في الفندق، عندما أرفع السماعة، يفاجئني زميلي على الطرف الآخر من الخط في لندن، ليصيح بانفعال "غادر غرفتك حالأ، لأن صاروخ سكود انطلق من العراق، وصفارات الإنذار في الرياض تدوي... " وعندما كنت أسأل: ومن أين لك هذه المعلومات؟ كانت الإجابة تأتي هادئة: إنها أمامي تعرضها "سى. إن. إن "... بعد ذلك لم أعد أسأل، فقد صرت أعرف أن أحدا لن يصدقني إذا قلت إنها إعادة لمشهد حدث قبل ساعات".
شبكة " سي. إن. إن" تعرض في 150 بلدا، وهيئة الإذاعة البريطانية تبث ب 38 لغة يستقبلها ما يزيد على 120 مليون إنسان، أما وكالة رويتر فإنها تملك 117 مكتئا موزعة في 78 دولة، ومما فعله "الإعلام الحديث" هو أنه لم يغير فقط "وحدة الزمن" ولكنه غير أيضا ل"وحدة المكان"، فالمشاهد يتابع عاصفة الصحراء من حاملة طائرات في مياه بحر العرب، ومن قمر اصطناعي يبث 130 ألف صورة أسبوعيا، ومن مقر الأمم المتحدة والبيت الأبيض، ومن خيمة الأمير خالد بن سلطان في الخفجي في وقت واحد، وكل هذا "يحدث الآن" ونحن نتابعه من غرفة فندق في بريطانيا أو من شاشة صغيرة داخل خيمة في إحدى دول الخليج أو مقهى شعبي في القاهرة. وعندما يلحق هذا التغيير بوحدة الزمان والمكان فإن الإنسان، بما هو فكر وثقافة وتواصل مع العالم، يتغير أيضا، وتتغير حتى لغته وسلوكه تبغا لتغير وسائل الاتصالات، وأذكر مرة أن صحيفة "واشنطن بوست" قالت في تعليق لها. حول رفض أحد كبار القضاة أن يقوم بحوار مباشر وعلى الهواء فى أحد البرامج التليفزيونية قال مبررا: "لأنني في شئون القضاء أفضل ألا أخطئ نتيجة السرعة"، فقالت الصحيفة "كان حسب القاضي أن يرتدي أفضل بذلة لديه وأن يصلح شعره وأن يملأ وجهه بتلك الابتسامة العريضة الواثقة... أما ما سوف يقوله... فإن كل مشاهد سوف يختار العبارة التي يعتبر أنها الأهم في دعم موقفه... قبل أن يظهر نجم آخر على الشاشة يلغي من سبقة ...".
والتعليق يكاد يلخص ثقافتين، ما يميز إحداهما عن الأخرى هو وسيلة الاتصال والتواصل مع الآخرين والعالم، اعتماداً على وحدتي الزمان والمكان، ولا أدري لماذا تندفع إلى الذهن صورة صدام حسين وهو يحاول أن يداعب ذلك الطفل الرهينة، خلال ثوان ظهرت علامات الرعب في عيني الطفل، بعدها نجح صدام في جذبه واحتضانه، وبينما كان صدام يعتقد أن المشهد بدا ناجحا تماما، كانت تلك الثواني القليلة من رعب الطفل هي ما رآه العالم وتحدث عنه مطولا، وما حرصت شبكات التليفزيون على تكراره، وتشبيهه بهتلر وهو يحتضن أحد الأطفال، إن صدام يعيش في عالم من الزمن الميت ومن الشمولية حيث تغيب فيه التفاصيل تحت الشعارات العامة والغامضة، بينما العالم الحقيقي يرى في هذه التفاصيل المفتاح الحقيقي للمعرفة ومن ثم... الفعل.
الحرب أولها إعلام وآخرها أيضا
قال الضابط "إنه لشيء فظيع، الملل، العزلة، العقارب... لا يمكنك تخليص جسدك من الرمال، البرد قارس جدا، مدينتك الملعونة تهتز بكاملها، الخيام تتساقط، إنني أشعر بقلق هائل، فإلى متى يستطع جنودنا الانتظار... إنهم سيصابون بالجنون"، هذه العبارات وردت في تقرير تليفزيوني من جبهة القتال في أثناء حرب تحرير الكويت، وقالها أحد ضباط القوات المتحالفة، وسمحت بها الرقابة العسكرية، وسمعها وشاهدها أهالي الجنود والضباط في العالم الغربي وربما شعروا بالهلع، ومع ذلك، فقد أكدت حرب تحرير الكويت أن انتصار قوات الشرعية الدولية كان بدوره انتصارا للإعلام العصري، وقد طرح هذا الانتصار على بساط البحث أسئلة كثيرة أبرزها: هل إذاعة وإعلان الحقائق أهم من حياة الضباط والجنود؟ وأين تنتهي حرية الصحافة لتبدأ قيم الإنسان وحقه في منع العدو من الاستفادة من أي معلومة؟
الإجابة يلخصها
الباحث الأمريكي "لوستارنين" الذي يقارن بين حربين، الأولى خاضتها الولايات المتحدة
في "غرينادا" حيث منعت رجال الإعلام من تصويرها، ونقل وقائعها، إلا في مراحلها
المتأخرة، وبين حرب تحرير الكويت، حيث وجد آلاف من رجال الإعلام وعلى جميع الجبهات
قبل وأثناء العمليات، وفي كل مكان تقريبا، حتى داخل بغداد، ويقول الباحث، إن
التنسيق بين العسكرين والإعلاميين قام على ثلاث ركائز هي:
-
التغذية Feeding : استخدمت القوات الأمريكية
مجموعة من الاختصاصيين لتقديم المعلومات والصور والأفلام لوسائل الإعلام، وأنتج
هؤلاء المختصون أفلاما رائعة عن الهجمات الجوية استخدمتها مختلف وسائل الإعلام. كما
قدمت المعلومات من خلال المؤتمرات الصحفية الدورية المنقولة على الهواء مباشرة مما
أتاح للقيادة العسكرية فرص توصيل المعلومات التي تريدها للجمهور دون وسيط أو شرح
وتفسير وتعليق من رجال الإعلام.
- التنافس Competing: استخدمت قيادة قوات التحالف الدولي نظام الفرق الإعلامية الصغيرة media Pools لنقلها إلى جبهات القتال برفقة ضباط اتصال، ولم تكن هذه المجموعات تستوعب أكثر من عشر (1/ 10) رجال الإعلام والصحافة الموجودين في مسرح العمليات، وعندما يقوم أحد أفراد الفريق بالإخلال بتلك القواعد تعاقب المجموعة الإعلامية كاملة وتستبدل مجموعة أخرى. بها، وتقوم القيادة باختيار أفراد الفرق الإعلامية، وهو ما أدى إلى خلق تنافس قوي بين الصحفيين أدى إلى التقيد بتعليمات القيادة العسكرية.
- التقييد Restricting: كانت أهم قاعدة مقيدة لعملية التغطية تقضي بمنع إجراء أي مقابلة في الجبهة دون الحصول على إذن مسبق، ووجوب إجرائها بحضور مندوب القوات وكانت عقوبة سحب الامتيازات المقدمة لرجال الإعلام كافية لتقيد رجال الإعلام بالتعليمات بدقة. وفي بداية الأمر طلبت قوات التحالف إمداد ا لقيادة بأشرطة مسجلة لجميع المقابلات التي يجريها المندوبون، ولكنها اكتفت بعد ذلك بحضور ضباط الاتصال تكل المقابلات. أما القاعدة الثاني فتتعلق "بالمراجعات الأمنية" "Security Reviews" إذ لم يسمح بإرسال أي تقرير ما لم تتم مراجعته. وتبرر قيادة التحالف هذه العملية الرقابية بأن الهدف منها منع حصول العدو على أي حقائق عسكرية مهمة، يستفيد منها في شن هجوم أو الوقاية من هجوم محتمل. وبالإضافة إلى ذلك، وبسبب اعتماد المراسلين على القوات في الانتقال والنقل اللاسلكي، قام الجنود المسئولون بتأخير إرسال بعض التقارير الإخبارية.
وقد نجحت قيادة قوات التحالف الدولي باتباعها تلك القواعد في المحافظة على تدفق المعلومات من الميدان إلى الجمهور، وأثبتت التجربة نجاحها في الحفاظ على تأييد الرأي العام الغربي والامريكي ووقوفه بحماسة إلى جانب سياسات الرئاسة الأمريكية.
ويقول الخبير الأمريكي هيبرت: إن استخدام الاتصال الجماهيري أصبح جزءا أساسيا في حروب الوقت الحاضر، وإن العلاقات العامة أصبحت سلاحا قويا في هذه الحروب. وفي حرب الخليج، حاول الطرفان توظيف الكلمات والصور الذهنية للمعارك، وهو أمر لا جديد فيه، فالدعاية كانت دائما جزءا من الحرب، ولكن الجديد في "عاصفة الصحراء" هو شدة اهتمام الحكومة الأمريكية ووزارة الدفاع الأمريكية بالإعلام من أجل الحصول على التأييد الجماهيري في الداخل وذلك باستخدام جميع الممارسات التقليدية للعلاقات العامة بما في ذلك الاستراتيجيات السياسية واستخدام عدة وسائل لتوصيل الرسالة الإعلامية، وعلاقات المجتمع المحلي، وعلاقات الموظفين وإدارة الأزمات إن الحرب، كما قالت العرب قديما، أولها كلام، أما اليوم فإنها من أولها وحتى آخرها... إعلام.
نشرة الأخبار
"غوتنبرغ" عندما اخترع أول مطبعة في العالم أحدث ثورة، الكتاب بعدها لم يعد وقفا على الخاصة من رجال "الأكليروس" سواء في أماكن العبادة أو في مختبرات الأبحاث، فقد صار الكتاب "شعبئا"، وهذه الشعبية فرضت بدورها قوانينها ومزاجها على جميع نشاطات الفكر والثقافة والفنون والعلوم، ومن هذه الكلمة "المكتوبة" خرجت مدارس في الشعر والنثر والقصة والرواية والدراما والنقد، وتنوعت وتعددت وتناقضت، ولكنها في الحالات كلها كانت تعتمد الكلمة المكتوبة. وبعد حوالي أربعة قرون ارتعش العالم وهو يستمع في مطلع هذا القرن إلى صوت ينطلق من جهاز الراديو، بينما المتحدث يجلس هادئا على بعد مئات بل وآلاف الأميال وراء الحدود، وأطل "الترانزيستور" ليضع في جيبك، وحيثما كنت، عشرات الإذاعات دفعة واحدة، وليجعل من الكلمة "المسموعة" وسيلة اتصال أكثر شعبية وجماهيرية من الكلمة المكتوبة، وكانت هذه الكلمة غالبا هي كلمة "الآخر"، وأطل "الكاسيت" ليمنح كل فرد في العالم ليس حقه في أن يجعل كلمته هو مسموعة بل لأن يختار أيضا ما يريد أن يسمعه في أي لحظة من كلمات الآخرين، ولم يكن في الأمر مبالغة عندما أطلقوا على الثورة الإسلامية في إيران لقب "ثورة الكاسيت" لأن كلمات الإمام الخميني التي ألهبت الجماهير كان يتم تناقلها عبر الكاسيت، وهذه الثورة كانت تعبيراً جزئيا عن قدرات الكلمة "المسموعة" على تغيير العالم، وعلى تغيير الإنسان ثقافة وفناً وذوقا وقيما وسلوكا. ثم جاء التليفزيون ليرفق الصورة مع الصوت وليضيف إليهما بعدي الزمان والمكان، فإذا العالم كله أمامك على الشاشة الصغيرة، وما يجري فيه إنما "يحدث الآن"، أما قمة هذه الثورة الإليكترونية في الاتصالات، فقد عبر عنها فيلم تم إنتاجه في الولايات المتحدة أخيراً وهو يحمل عنوان "نشرة الأخبار"، البطل فيه هو التليفزيون، أما الأبطال الثانويون فهم الناس في واقعهم اليومي حيث ترافق الكاميرا قوة من الشرطة تداهم وكرا لعصابة من المجرمين، ويبدأ إطلاق النار، ويسقط أحدهم من الطابق الرابع قتيلاً، بينما يندفع الشرطي وينقض على مجرم آخر فيسقط مضرجا برصاصة، وعيناه تحدقان في الكاميرا، وتحسبه الممثل الرئيسي أو البطل في الفيلم، ولكن ليس هناك فيلم ولا تمثيل، بل اقتحام حقيقي، وقتلي وجرحي... وصرخات رعب تنطلق من حناجر جافة و... حقيقية... أمام عدسة كاميرا تقوم ببث مباشر على الهواء.
"نشرة الأخبار" هو الوجه الآخر لتلك المناظرات الحقيقية بين المرشحين 11 لرئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بات واضحاً أن قدرة المرشح على التواصل مع العالم، من خلال هذه المناظرات، تحدد إلى حد كبير حظة في الوصول إلى سدة الرئاسة. ولعل وصف الرئيس رونالد ريجان بأنه "المتواصل العظيم "The great communicater" ، يلتقي مع وصف عن ريتشارد نيكسون بأنه ضحية الإعلام مرتين، مرة في المناظرة مع خصمه جون كنيدي في عام 1960 ومرة في فضيحة ووترجيت، وهذا اللقاء بين الوصفين يؤكد إلى أي حد بات الإعلام المرئي قادراً على تحديد مصير الشعوب ومستقبل العالم. وقد تطورت هذه الظاهرة وانتقلت إلى ظهور المرشحين في برامج شعبية من نوع "لاري كينغ شو" أو "برنامج الليلة"، حيث يكون المرشح على تواصل مباشر مع الجمهور، وعندما رفض الرئيس بوش المشاركة في هذا النوع من البرامج قال أحد المعلقين: "لعله لم يشاهد فيلم "نشرة الأخبار" فهو ما زال يتابع الحرب في الخليج". والظاهرة ليست سياسية فحسب، ولكنها تتناول جميع مناحي الحياة، وعندما تبرع سمو أمير الكويت جابر الأحمد الصباح بمبلغ مليون جنيه استرليني لإنقاذ أقدم حديقة حيوان في بريطانيا، أحتل النبا مساحة 3 أعمدة في الصفحة الأولى من صحيفة "الاندبندنت"، بينما خصصت له صحيفة "الديلي تلغراف" افتتاحية كاملة. وقد فعلت ذلك الصحف البريطانية في الإشادة بالتبرع السخي للملك فهد بن عبد العزيز عندما أنقذ حياة طفله بريطانية تحتاج إلى عملية دقيقة وعاجلة، وأحتل الخبران المكان الأول في نشرة الأخبار المتلفزة، أما أبرز مشهد عاشة المشاهدون في أنحاء العالم فقد وقع عندما كانت إحدى مراسلات شبكة "سي. إن. إن" في لوس أنجلوس تغطي من الاستديو أنباء الهزة الأرضية التي حدثت في كاليفورنيا يوم 28 يوليو الماضي، وفجأة اهتزت الصوة وانزلق مكتب المراسلة من أدنى الغرفة إلى أقصاها بينما كانت تحاول أن تتشبث به عبثا. فقد وقعت هزة أرضية في تلك اللحظات، وعلقت المراسلة برعب حقيقي "أعتقد أن هذه الهزة هي أسوأ من سابقتها... ولعل من الأفضل أن نغادر المبنى".
لقد تخطى عصر التليفزيون الحدود وأصبح بالإمكان مشاهدة أطفال جوعي تلتصق جلودهم بعظامهم في إفريقيا وأنت في مدينة كندية، كما أصبح بالإمكان مشاهدة أغتيال الرئيس الجزائري على الهواء مباشرة وأنت في أي مدينة في العالم. العصر التليفزيوني الجديد تخطى الحدود والأيديولوجيات وأصبح مؤثرا في الإنسان أينما كان.
تصنيع المستقبل
يقول بيار سالينغر السكرتير الإعلامي للرئيس الراحل جون كنيدي، وقد أمضى 50 عاماً في حقل الإعلام، إنه سأل ليخ فاليسا (الرئيس معرفة الإعلام لا تقتصر على المواطن العادي، وإنما تصل إلى أعلى مراكز صنع القرار. البولندي حاليا) عندما كان قطب المعارضة في بولندا: "ما هي أبرز الأسباب التي أدت إلى هذه التغييرات المتسارعة في بولندا؟"، فأشار فاليسا إلى جهاز التليفزيون أمامه وقال: "هذا أهم الأسباب".
وسئل بيتر أرنيت نجم "سي. إن. إن" الذي غطى حرب تحرير الكويت من بغداد، كيف تصف مدى القوة التي حققها الإعلام الحديث، وخاصة إبان حرب الخليج؟ فأجاب أرنيت: "الرئيس الأمريكي بوش علم بالقصف من "سي. إن. إن" قبل 30 دقيقة من الموعد المحدد، فالرادارات العراقية التقطت الطائرات القاذفة وهو ما نب قوات الدفاع الجوي العراقية فأخذت تطلق نيران مدفعيتها بكثافة شديدة. كان الرئيس بوش مع هيئة أركان يعرف أن الطائرات في طريقها إلى قصف بغداد. لكنها كما أعتقد، وصلت في وقت أبكر مما كانت قد حددته الخطة".
إذن فإن المعرفة التي يوفرها الإعلام لا تقتصر على المواطن العادي وإنما تصل حتى إلى أعلى مراكز صنع القرار في العالم، وهذه المعرفة التي لعبت دوراً بارزاً في إنها حرب فيتنام تزايدت تأثيراتها إلى حد أن تبني المجتمع الدولي لقضية أكراد العراق مثلاً جاء نتيجة للتقارير المتلفزة التي كانت شبكات التليفزيون تبثها إلى جميع أنحاء العالم من مدى معاناة هؤلاء الأكراد في جبالهم النائية وصراعهم المرير مع النظام المتسلط عليهم من جهةة وقسوة الطبيعة من جهة أخرى، والمهم أن هذه المعرفة لم تنتظر أكثر من أيام فقط كي تقترن بالفعل وبإرسال قوات دولية لحماية الأكراد، بينما استغرقت سنوات لإنهاء حرب فيتنام. ومثل هذا حد\ث في البوسنة والهرسك، حيث كانت مشاهد الدمار والتقل في تقارير المراسلين في سراييفو تشكل ضغطا يوميا على صانعي القرار في الغرب وتدفعهم إلى ضرورة التدخل، كما دفع الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران إلى المغامرة بحياته وزيارة منطقة الصراع، هذا التطور يطرح مسألة تبدو ثانوية اليوم ولكنها سوف تنال أهمية متزايدة يوما بعد يوم، وهذه القضية هي: إذا كان الإعلام العصري والإليكتروني قادراً على التأثير في المستقبل، فإلى أي حد هو قادر على التأثير في الماضي، وفي التاريخ؟
مدير شبكة "أي. بي. سي" الأمريكية يقول : "نحن نعمل في الوقت الحاضر على تجهيز الأرض للقرن الواحد والعشرين عبر تواصل الزمن، وذلك باستخدام "الفيديو المزدوج" مع ربطة بجهاز الكمبيوتر، فإذا أراد الطالب مثلا معرفة ما جرى في حرب تحرير الكويت، فالكمبيوتر سوف يعطيه الإجابة مكتوبة، وإذا ضغط على زر آخر، فإن الإجابة سوف تترافق مع الصورة، وهذا ما سوف يكون له تأثير كبير على جميع حقول التعليم في المستقبل، وسوف يساهم في تصنيع المستقبل باستخدام المواد الأولية للتاريخ".
الإعلام المحلي وغياب "الأب"
تقول إحصائية أملانية إن الأب الألماني يمضي 3 دقائق في اليوم "متفرغا" لولده، بينما يتفرغ لمشاهدة التليفزيون مدة 3 ساعات. وأعتقد أن "الولد" يتفرغ للتليفزيون ضعف هذه المدة. هذا يعني أن التربية التقليدية التي كانت تقول إن الطفل يبني شخصيته عبر ثقافتين: الأولى في المنزل والثانية في المدرسة، تتهاوى، فالمنزل أو الأسرة تتخلى عن دورها للتليفزيون الذي يقوم بدور الوالد أو "الأخ الأكبر" لملايين الأطفال، وهكذا فإن نائب رئيس الولايات المتحدة "دان كويل" كان جاداً عندما برر أحداث العنف في لوس أنجلوس بأنها نتيجة لمسلسل تليفزيوني يشجع على إنجاب الأطفال من دون زواج (!). قال إن هذا يؤدي إلى تدمير أخلاق العائلة، وإلى إيجاد جيل ضائع قادر على التخريب أكثر مما هو قادر على البناء، ربما كان نائب الرئيس الأمريكي مبالغا، ولكن المبدأ في هذا الطرح هو أن التليفزيون يقوم بتربية "جماعية" للأطفال، ويحشرهم، كما يفعل الزعيم الكوري كيم إيل سونغ، في يونيفورم أو "زي موحد" يلغي ملامحهم الشخصية ويجعلهم أقرب إلى "الستيريو تايب"، وهو ما يحذر منه نائب مدير المكتب الصحفي للمستشار الألماني، الصحفي يوخن ثيس بقوله "أخاف التليفزيون... فهو قد سيطر على عقولنا جميعا ولم يعد يسمح لنا بحرية التفكير لتحديد حياتنا الخاصة. الأخطر من ذلك أنهم في ألمانيا الشرقية - سابقا - لا يملكون ثمن شراء صحيفة، وبالتالي فإنهم يعتمدون على التليفزيون كمصدر وحيد للمعرفة... هذا خطر".
إن غياب الإعلام المحلي قد يكون ذا نتائج متشابهة لغياب "الأب" عن الأسرة، ولا فائدة من "المنع" أو "المصادرة" كوسيلة للاحتفاظ بدور لهذا الإعلام المحلي، بل عبر المنافسة مهما كانت شاقة. وكما أن "الأب المتنور" يفوز بثقة أبنائه، فإن هذا الإعلام المتنور يتمتع بهذا الامتياز مقارنة مع الإعلام الخارجي.
إن العاملين المتمرسين في الإعلام العربي يشكون مر الشكوى من غياب تناسب إعلامي في الوطن الواحد وفي مجمل الدول العربية، ويشاهدون أما عيونهم قدرة الإعلام (العالمي) على الفعل والتأثير، ويتارجح الموقف الإعلامي العربي المحلي بين عدم (القدرة) ونقص (الرغبة) في إيجاد إعلام حقيقي وفعال. أما تلك "المنارات" الموجودة على الساحة الإعلامية العربية فهناك ألف يد ويد تمتد تريد إطفاءها، إنها معضلة التخلف التي نعاني منها.
حرية تداول "الحقائق"
هذا يقودنا إلى وقفة تحليلية مع إعلامنا العربي "المحلي" سواء المسموع أو المقروء أو المتلفز، ونبدأ من تعريف بسيط لهذا الإعلام، وهو أنه صناعة معقدة تعتمد أربع ركائز هي: الإنسان، والتقنية، والفكرة ثم المجتمع المتلقي، فهو إذن عدة علوم تندمج في علم واحد، وتتكيف حسب معطيات المجتمع والعصر، والإعلام العربي "المحلي" يتميز عن الإعلام الخارجي ويمتلك خصوصية معينة، هي نتيجة معرفته بالمجتمعات التي يتواصل معها، ولكن هذه الخصوصية لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة حرية تداول "الحقائق". وفي هذا السياق يمكن أن نشير إلى تلك الواقعة الشهيرة بين واشنطن وموسكو، في أيام تصاعد الحرب الباردة، فقد بني السوفييت في واشنطن سفارة جديدة فوق تلة عالية في قلب العاصمة الأمريكية، ورفضت الولايات المتحدة السماح للدبلوماسيين السوفييت بالانتقال إلى المبنى بعد أن اكتمل، تحت ذريعة أنه سوف يكون باستطاعة هؤلاء الدبلوماسيين اعتراض الاتصالات بين البيت الأبيض والمقرات الحكومية الحساسة الأخرى بما فيها البنتاغون و"السى. آي. إيه".
وثار جدل في وسائل الإعلام وشاركت فيه شبكة التليفزيون التي استضافت إحداها شخصيتين معنيتين بهذه القضية هما مسئول في مكتب التحقيقات الفيدرالية (F.B.I) والثاني من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (C.I.A) وفيما تحدث الأول بإسهاب عن خطورة موقع السفارة والأسرار التي يمكن أن يحصل عليها السوفييت إذا دخلوا على خطوط الاتصالات فإن الثاني قال بهدوء: دعوهم بحق السماء يسكنون أين ما شاءوا في واشنطن، ولكن فقط امنعوا عنهم اشتراكهم في جريدة "واشنطن بوست".
الصحافة العصرية
الحقائق والمعلومات هي ما يمكن أن يمنح إعلامنا العربي المحلي القدرة على المنافسة. والتقنية، كما تثبت التجارب التليفزيونية والإذاعية والصحفية العربية القائمة حتى الآن في ا لخارج، يمكن توفيرها. ولا بديل عن هذه المنافسة، فأطباق استقبال البث التليفزيوني العالمي تنتشر من حولنا كغابة من الفطر الأسود، حتى في البلدان الفقيرة نسبيا، وخاصة بعد حرب تحرير الكويت، إما الإذاعات، وبكل اللغات فلا يمكن إحصاؤها، وبالتأكيد فإن الإعلام المقبل هو إعلام صورة، في الصحافة أو في التليفزيون، والمجتمع المقبل هو ليس مجتمع "الفرجة" وحدها بل مجتمع المعرفة المقرونة بالفعل، ومع ذلك فإن الكلمة في الثقافة العربية، مسموعة كانت أو مكتوبة، ستبقى وسيلة تحريض وخطابا يثير العواطف، تحفز طاقة الجمهور ولكن تأثيرها في المدى المتوسط والبعيد سوف يبقى أقل من تأثير الصورة، ومن هنا فإن المناقشات التي تدور حول إنشاء قناة فضائية مشتركة هي خطوة على الطريق الصحيح، كما أن شراء مركز تليفزيون الشرق الأوسط لوكالة "يونايتدبرس انترناشيونال" هو خطوة متقدمة على طريق قيام إعلام عربي متقدم ومتطور قادر على أن يساهم في تصنيع المستقبل، شرط أن يتوافر له العنصر البشري الذي يستطيع أن يرصد الواقع ويعيد إنتاجه، ويحدد أولوياته أعتمادا على الربط العميق بين النظرة المتجددة وامتداداتها في مجال الإعلام وبين مبادئ الليبرالية السياسية والانفتاح الاقتصادي مقرونا بالعدالة الاجتماعية.
إن الإعلام العراقي وامتداداته استطاع أن يحقق نجاحا تكتيكيا في إحدى المراحل لأسباب متعددة، ولكنه بالتأكيد فشل في تحويل هذا النجاح النسبي إلى نجاح استراتيجي، وإلى تعبئة حقيقية لأن اعتماد الخطاب العاطفي المتاقض قد يحقق نجاحا لبعض الوقت لدى قطاع من الجمهور بمواصفات معينة، ولكنه وعلى المدى البعيد يتهاوى أوراقا صفراء، أمام عواصف الحقائق التي لا يمكن اعتقالها أو حصارها أو قتلها... فهي موجودة في كل بيت.
وكانت تجربتنا الشخصية في إصدار صحيفة "صوت الكويت الدولي"، مليئة بالخبرة ومصقلة بالدروس، وكان تصميمنا على أن تكون الصحيفة عصرية تقدم الحقائق وتتابع الخبر من كل جوانبه، وتعطي هامشا كبيراً لحرية الرأي، مما أكسبها احترام القارئ والمؤسسات الإعلامية الدولية، فأصبحت أحد المصادر التي تنقل عنها وكالات الأنباء العالمية، وهي حصيلة جهد وإيمان القائمين عليها بالتفاعل مع معطيات العصر عن طريق بيان الحقائق والالتزام المهني والأخلاقي مما عزز موقعها - رغم حداثة سنها - بين أقرانها.
إن أغسطس - آب - يذكرنا بعد عامين، بأن التاريخ عبر الإعلام يتحول إلى مادة أولية لتصنيع المستقبل، وأننا قدرون على المشاركة فيه بفعالية متى قرنا المعرفة ... بالفعل.