«الربيع ومواسم أخرى» قصص تدعو للتواصل مع الآخرين!

«الربيع ومواسم أخرى» قصص تدعو للتواصل مع الآخرين!

عندما أعلنت الأكاديمية السويدية عن فوز الكاتب الفرنسي جان ماري جوستاف لوكليزيو بجائزة نوبل في الآداب، لم يكن ذلك مفاجأة لأحد، لأنّه كان من أهم الكتاب الفرنسيين المعاصرين، لما يتمتع به من غزارة وخصوبة في الإنتاج، وهو يدعونا بشكل (فني) أن نتواصل مع الآخرين، وأن نولي مزيدا من الاهتمام لهم، بغضّ النظر عن أوجه الاختلاف التي قد تتبدى ظاهرة واضحة للعيان، وأيّا كانت مكانتهم في المجتمع، وهو ما تبدى جليّا في مجموعة قصصه القصيرة «الربيع ومواسم أخرى»، التي صدرت عن دار شرقيات عام 1995، من ترجمة محمد برادة، وفيما يلي تناول نقدي لقصصها.

«افتتان»

هي أصغر قصص المجموعة، وأروعها على الاطلاق، لأنّها تعبّر عن (جوهر) عالم لوكليزيو ببساطة ويسر، وبتقنية (فنية) بديعة!

تنطلق هذه القصة من (مشهد) عجيب، لراو شاب يجلس في منتصف مطعم، وإذا بعجوز غجرية تقتحم المكان بصحبة شابة بالغة الجمال. يحسّ الشاب أن هذا المشهد لا يعني سواه، لأنّه موجود داخله، «كما لو أن المرأتين المرتديتين للسواد لم تدخلا إلى قاعة ذلك المطعم لتبيعا الورد، وإنما لتبحثا عني». وسرعان ما أصبح يحسّ بنشوة، «لأنّ تلك المرأة المجهولة كانت تنظر إليّ، كانت تُغطس عينيها في عينيّ».

وإذا به يستعيد مشهدا (موازيا)، لم يكن وليد الساعة، بل حدث منذ زمن طويل، «ثماني عشرة سنة فصلتني عنها، عن نظرتها، عن هذه الشعلة المغتمة التي كانت تشعّ في حدقتيها، وعن جمالها البالغ الاكتمال لدرجة أنّه كان خلودا وحقيقة». ورجع صبيا في الثالثة عشرة من عمره، وهو يعود إلى منزله بعد الدرس، حاملا كتبه ودفاتره المحاطة بسلك مطاط، صاعدا نحو التل، نحو الممر الجبلي، ليشاهد العمارة ذات الطوابق السبعة على حافة الطريق. لم يكن يحبّ تلك العمارة، لكن الأقباء السفلى هي التي كانت تجتذبه، «هناك تحت الأرض، كان يعيش أناس كنت ألمحهم فقط، وكانوا يتجمهرون في جحورهم المعتمة»، وهناك وجدهما «المرأة العجوز المتدثرة بالسواد، الشبيهة بالساحرة في نظرتها، جالسة على كرسي من القشّ. وأمامها البنت الصغيرة واقفة، نحيلة داخل ثيابها السوداء، ثابتة لا تتحرك وكأنها تنتظر أحدا أو شيئا ما. وجهها جد شاحب»، هكذا، كان يحبّ أن يرى البنت الصغيرة المرتدية السواد في كلّ مرّة يعود فيها من المدرسة، لكنه لم يتساءل أبدا عن السبب في وقوفها هناك، أو عمّا كانت تفعل.

وذات يوم، لم يجد مقعد القش هناك، فكّر في أنهما لم يعودا هناك، وأنهما رحلتا. كان خائفا، «ربما لم يكن خوفا، بل وحدة في ذلك اليوم تحت سماء شاسعة وفارغة». لكنه حين اقترب من باب القبو، ظهرت أمامه فجأة، «كان الضوء يلمع فوق شعرها وداخل عينيها، ولأول مرّة كانت تبتسم، وكان وجهها يعبّر عن الحرّية، عن نوع من الفرح الوحشي». لم تكن طفلة، بل كانت امرأة حقيقية، جميلة، حرّة، مشتهاة. خطت إليه، حتى بلغته، ولمسته بيديها، «وبقينا، للحظة، جامدين وسط فراغ الريح، ووسط ممر الحصى»، «أحسست بالخوف من جديد من أن أكون قد تواريت وصرت شخصا آخر، وغيّرت مصيري. لاشك أنني تراجعت، وهي، الفتاة المرتدية للسواد، أحسّت بالتأكيد ذلك البرود المستقر في داخلي، والذي كان ينتصر علي». و«سألتني بصوت البنت الصغيرة عمّا أريد، كانت تسألني بالحاح، وتبحث في أعماقي عن الحقيقة، إلا أنني لم أكن أريد أن أقولها. كنت أفكر فقط في أنني سأنصرف لألتحق بأصحابي في المدرسة، الذين كانوا ينتظروني على الرصيف». كانت مازالت تتكلم، والانفعال يبرز لكنتها الغريبة، لكنه كان يتراجع، حتى انصرف في النهاية ماشيا أول الأمر، ثم مهرولا بعد ذلك.

وبعد فترة من الزمن، هدمت العمارة التي كان البوهيميون قد تملكوا قبوها. ولم ير ثانية تلك الفتاة المرتدية السواد، ولا جدتها، لقد ابتلعهما الزمان، حتى كانت الليلة، حين ظهرتا من جديد. «توقفت المرأة الشابة أمامي، ونظرت إلي، ثم أدارت نظرها، دفعة واحدة، بتعبير قاس فيه ازدراء وغضب»، وسرعان ما تسللا واختفيا.

هنا، فتى في الثالثة عشرة من عمره، حدث له (افتتان) بفتاة بوهيمية، أو (غجرية)، من عالم آخر، تسكن مع عجوز قبو إحدى العمارات الشاهقة، فكان يسعى وراءها دائما، وحين يجدها يطمئن باله، ويمضي إلى مشاغله، ثم أتيح له أن يقابلها وجها لوجه. كان المفروض أن ينتهز الفرصة ليطوّر افتتانه بها، لكنه هرب من اللقاء، وربّما أحس بسوء ما فعل، فحمل فعله صليبا على كتفيه، يعذبه، وينوء بحمله لمدة ثمانية عشر عاما. وإذا (المشهد) يتكرر بعد مضي تلك المدة الطويلة، فأيقن أن ما يحدث يخصّه وحده، لكن الفتاة التي صارت الآن امرأة «نظرت إليّ، ثم أدارت نظرها، دفعة واحدة، بتعبير قاس فيه ازدراء وغضب». الآن، لن يكتب له الغفران، لأنّه سبق أن أهدر الفرصة وهو مازال بعد صبيا يافعاً!

كان لوكليزيو موفقا غاية التوفيق، حين جعل بناء هذه القصة (دائريا)، بحيث تبدأ من نقطة وصول العجوز والشابة الى المطعم، وتنتهي في النقطة ذاتها وهما يعودان إلى الظلام، تعبيرا عن أنّ عالم هذا الشاب عالم مغلق، لا فكاك منه، وسيظل دوما حبيس ذكري تطارده أنّى مضى، مسربلا بذنبه حيث لا مهرب، لأنّه لم يتدارك الأمر في صباه ويقبل على لقاء الفتاة، كما كان يقتضي الأمر!

«الزمن لا يمر»

يقدم لوكليزيو في هذه القصة الوجه (المقابل) للقصة السابقة، ففي حين لم يقم الفتى في قصة «افتتان» أيّ علاقة مع البنت الغجرية، نجد أن بطل قصة «الزمن لا يمر»، وهو صبي يدعي «ديفيد»، يسكن مع والديه في حي محترم، كان يتتبع بنتا جميلة، فقيرة، متفردة، هي «زبيدة» (قد يوحي الاسم بأنها عربية، خاصة لو عرفنا بأنّها كانت تعيش هناك في أعلى حجرات عمارة مع أمّها، التي «لم تكن تخرج أبدا، لأنها لم تكن تتكلم سوى العربية»، أو بمعنى آخر، عربيتان في أرض أجنبية!). رآها ذات يوم عند الساحة الصغيرة الموالية لزقاق روستي. وخلال غيابه كان والداه يعتقدان أنّه يغازل ابنة الجيران، «ماري جو»، ذات الشعر الأصفر في الطابق السفلي (من نفس مستواهم الطبقي!). لكنه كان مشدوداً إلى تلك الفتاة، فقد كان كلّ ما فيها غامضا. تتبعها في البداية حتى يعرف أين تسكن، حتى وصلت إلى عمارة ملاصقة للسكة الحديد، وتحمل اسم «أيام سعيدة»، وكان تعليقها حين كشفته، «لعلك تظن أنني لم أرك تسير خلفي مثل كلب جعيد(كنيش)؟»، وربما من تعليقها ذاته ضحكت، وبدأت علاقتها معه. كان في السادسة عشرة، وكانت تكبره بعامين. كانا يسبحان معا في الصباح الباكر، أو عند المساء حين يفرغ الشاطئ. ومعها عرف القبلة، وهو الاتصال الأكثر حميمية، الذي لم يسبق أن عرفه مع أيّ كائن بشري آخر!

كانت قد قررت أن ترحل، وتهجر كل ما كانت تعرفه، وأنّ على أمها الصامتة أن تذهب لتشتغل هناك حيث تكون مقبولة، وأنها لن تضع قدمها مرة أخرى في الشقة الصغيرة بالأجزاء العلوية من عمارة «أيام سعيدة». والتقيا في تلك الليلة، حيث تفرجا علي احتفالات 14 يوليو، وحين حدثت مشاجرة جريا بعيدا، وصعدا عمارة تحت الانشاء، وهناك في الدور العلوي أرادها، لكنها رفضت، وأخبرته بأنّها تريد أن تنام، وطلبت منه أن يضمها بشدة، ونامت فعلا، وأحسّ بثقلها على فخذه. وأستيقظ عند الفجر، كان يحس بالألم في كلّ جسده، وفي البيت وجد أن والداه لم يناما بعد، فاستمع إلى عتابهما، ثم نام بكلّ ملابسه. ظلّ مريضاً بعد ذلك لمدة ثلاثة أيام، ولم ير زبيدة مرّة أخرى، واختفى اسمها من فوق صندوق البريد، وأصبح كل صيف منطقة فارغة، تكاد تكون قدرية. الزمن لا يمر، وهو ما زال يتجوّل في الشوارع محاولا أن يكشف سر زبيدة، ويظل يسير حتى يصل إلى تلك العمارة، لكنها لم تعد هناك، لأنّ كلّ شيء تغيّر الآن، بعد أن هدمت المباني القديمة. لكنه لم ينس أبدا ذلك الزمن، الذي تعلم فيه كل ما يمكن أن يأمله «من الحياة: الحب، والحرية، ورائحة الجلد، ومذاق الشفتين، والنظرة الداكنة، والشهوة التي ترجف الجسد مثل الخوف»!

هنا، فتي (غربي) كسر قيود المجتمع، وخرج على رقابة الأبوين، وأقام (علاقة) مع فتاة (عربية)، وعلى الرغم من حزنه من أنّها لم تكتمل، فإنه اغتنم كل ما يمكن أن يأمله من (خبرات)!

في هاتين القصتين، قام لوكليزيو بتناول شخصيتين هامشيتين، هما الفتاة الغجرية (قصة «افتتان») و«زبيدة» (قصة «الزمن لا يمر») من الخارج، ومن بعيد، دون الغوص في عالمهما الخاص من (الداخل)، وعن قرب، وهو ما قام به في القصص الثلاث الأخرى.

« ربيع»

في قصة «ربيع» تنويعة أخرى على الجانب (المقابل)، عندما تكون بطلة القصة، «سابا»، التي تنحدر من قبيلة «زايان» البربرية بالأطلس المتوسط المغربي، تتمتع بحياة ثريّة في فيلا عتيقة فوق الهضاب، بحقولها الواسعة، والحدائق، تصدح بها الشحارير كل مساء، وذلك بضيعة «نايتنجال» بمدينة «مهدية» في المغرب، مع الكولونيل هيرشيل، وزوجته، اللذين كانا قد تبنياها بموافقة من أمها. وهناك، صادقت «حسن»، ابن رئيس عمال الكولونيل هيرشيل. كان يصغرها بسنة، ولم يكن يتكلم سوى الأمازيغية، لغة الشلوح، وكانت تنطلق معه جريا عبر الحقول.

لكن ذلك لم يدم طويلا، إذ سرعان ما رجعت الأم، وهي في الحادية عشرة من عمرها، واستردتها، وارتحلا إلى مدينة «نيس» في فرنسا، ليعيشا معا في منزل مبقع بزقاق «لالوج»، أحد الأحياء الفقيرة. سكنت مع أمها شقة في الطابق السادس، تحت سقوف من دون منظر، وبلا شمس تقريبا. أصبحت مريضة اثر هذا الانتقال طريحة الفراش. كانت أمها سوداء الطلعة، فقيرة جدا، لا تملك موردا للرزق سوى أجرتها كعاملة ميكانيكية، في ورشة تركب فيها عروات على البناطيل، وتخيط فتحاتها ذات الاغلاق بالسحاب، وذلك بعد أن فارقها زوجها قديما، ذهب يوما ولم يعد، ويقال إنه مات بفرنسا في مكان ما، وهو يعمل بإحدى الورش. لم تكن تبلغ سنة واحدة من عمرها حين رحل. عندئذ رحلت أمها، وهي في السادسة عشرة، بدورها وحيدة تماما إلى فرنسا، وذهبت إلى باريس وألمانيا. في تلك الفترة التقطتها مدام هيرشيل، بعد أن تركتها أمها في صندوق من الورق المقوى، لأنّها لم تكن تملك مهدا. وأخذت مالا مقابل تركها، وهو ما حكته لابنتها بعد ذلك وهي تبكي.

كانت أمها وحيدة، بعد أن تخاصمت مع مجموع عائلتها، ولم تكن تتحدث عن أشقاء وشقيقات زوجها، وهم لا يهتمون بها. ربما لم يكن أحد منهم مسرورا من زواجها (وهو نفس ما حدث مع جابي بعد زواجها، عندما قاطعتها أسرة زوجها!)

في بداية انتقالها عند أمها، كان هناك «جياني» عشيق أمها، إيطالي، بحار، كان يعمل فوق السفن، ويأتي فقط يومين أو ثلاثة في كل شهر. لم تكن الابنة تطيقه، فكانت تجلس على الدرج إلى أن يغادر.

كانت هناك امرأة تونسية جميلة، تدعى «سميرة»، تسكن شقة من غرفة واحدة بالطابق الأول، كانت تجلس أثناء وجود أمها بعملها إلى جوار سريرها، صامتة كأنها بكماء. لم تكن تتكلم من الفرنسية سوى عدة كلمات. ربما كانت هي السبب في أن البنت استأنفت حياتها.

ولحسن الحظ، كان يوجد ابن مدام تريشي «لوسيان»، الذي يسكن الجانب الآخر من الزقاق فوق مخبز والديه، الذي يعمل به بعد أن انقطع عن الذهاب إلى الليسيه. عمره سبع عشرة سنة، وعندما سكنت هناك، بدأ يرسل إليها رسائل، كان يتركها على الباب عندما يعرف أنها على وشك الخروج. وذات يوم حدثها، وأعارها دراجته النارية، التي كانت ماركتها «بيبي بوجو»، كل صباح، طوال شهر إبريل، فتلتمع عيناها، وتنطلق بها بسرعة (مفرطة) بين السيارات على الرصيف المحاذي للبحر (أهي، مرة أخرى، محاولة لاستعادة عالمها القديم المفقود، مثلما كانت تفعل «جابي» في العربة «الدودج«؟!). توقفت تلك العلاقة إثر دعوة لوسيان إلى زيارة شقتها خلال وجود أمها بورشتها، وحين حاول مضاجعتها فشل، فكان ذلك إيذاناً بانقطاع علاقتهما.

في تلك المدينة تعرفت على «كرين»، الذي كان يقول لها إنه صحفي حر متخصص بالريبورتاج، وكانت فتيات الليسيه تناديه بلقب جرين، لأنه يرتدي باستمرار اللون الأخضر. وذات يوم، دعاها، وأركبها وراءه، وانطلقا بسرعة (مفرطة) على الطريق، ثم توقف على البحر.

وانظر إليها، وهي تلخص حالتها «لم أستطع النوم. أنا اثنتان. هناك واحدة هنا، في شقة اللوج، ممددة على السرير الذي يطوي، تسبح وسط البروق والشرارات، وواحدة أخرى بقيت هناك، في «نايتنكال»، قرب البحر مع السماء الصافية، مختبئة وسط أجمات التلال، تستمع إلى نشيد الجراد وموسيقي الأمواج».

هنا، مرت «سبا» بثلاث مراحل أيضا، تمتعت بثراء لا حدّ له، عندما عاشت طفولتها (المتبناة) في كنف الكولونيل وزوجته، ولم تدم تلك المرحلة إلا إحدى عشرة سنة، عندما عادت أمها، وأستردتها، لتبدأ مرحلة ثانية في مدينة «نيس» بفرنسا، في عيشة شديدة البؤس، مرضت في بدايتها، لكن معاناتها استمرت، فقد كانت تفكر في موطنها القديم، مدينة «مهدية» المغربية، كفردوس مفقود! ثم كانت المرحلة الأخيرة، التي حاولت أن تهرب فيها من أمها، لتكتشف في النهاية أنّه لابد أن تعود ثانية إلى كنفها، فهي الملاذ، والملجأ الأخير!

وبعض هذه المحات من عالم لوكليزيو الفن وهي تدعونا لقراءته من التمعن.

 

 

عرض: حسين عيد