رءوف عباس حامد المؤرخ والرائد في الدراسات اليابانية

رءوف عباس حامد المؤرخ والرائد في الدراسات اليابانية

في 26 يونيو 2008 غيب الموت المؤرخ المصري الكبير رءوف عباس حامد بعد صراع مرير مع المرض. وهو مفكر متميز، عميق الانتماء إلى العروبة، ومن أبرز دعاة التفاعل الإيجابي بين الثقافة العربية والثقافات الأخرى، الآسيوية منها والغربية.

ركز المؤرخ الراحل رءوف عباس أبحاثه الأولى على تطور الحركة العمالية المصرية من خلال وثائقها الأصلية، وبالاستناد إلى مصادرها المحلية وفي الأرشيف البريطاني. ثم أولى اهتماما خاصا بالثقافة اليابانية حيث أمضى سنوات عدة في اليابان وكتب دراسات علمية رصينة عن تاريخ اليابان، ونهضتها، وتطور المجتمع الياباني في عصر الإمبراطور المتنور المايجي.

إلتقيته مرارا وتباحثنا مطولا في المقارنة التي أجراها بين المجتمع المصري والمجتمع الياباني في القرن التاسع عشر، وبين رائد النهضة العربية رفاعة الطهطاوي ورائد النهضة اليابانية فوكوزاوا. ثم أشرف على عدد كبير من الترجمات المهمة لدراسات نشرها باحثون أوربيون وأمريكيون تناولوا في أعمالهم تطور المجتمعات العربية والإسلامية من داخلها، ومنهم من رصد أثر الاستعمار الخارجي في إعاقة تطورها وسجنها في إطار من التخلف المستمر، فتحولت الحداثة في كثير من الدول العربية والإسلامية إلى تغريب واستلاب وليس إلى حداثة سليمة تحمي التراث وتدفع بالمجتمع إلى المعاصرة الحقيقية لكي يصبح قادرا على مواجهة تحديات العولمة والاستفادة من إيجابياتها الكثيرة بدل الخوف الدائم من سلبياتها التي لا تحصى.

سيرة ذاتية

تشير سيرته الذاتية إلى أنه ولد في 24 أغسطس 1939 في أحد مساكن عمال السكك الحديدية في بور سعيد. ويقول عن نشأته، إنه ولد لأسرة فقيرة شأنها شأن السواد الأعظم من المصريين في تلك الحقبة. كان والده عاملا بالسكك الحديدية يشغل أدنى درجات السلم الوظيفي الخاص بالعمال. وكان جده لأبيه عاملا أيضا بالسكك الحديدية بعد أن نزح من قريته جرجا في صعيد مصر. وكانت والدته من بورسعيد، وتعود بأصولها إلى مدينة دمياط حيث كان والدها يبيع التذكارات الشرقية على ظهر قارب بجوار السفن عند دخولها قناة السويس. أنهى دراسته الثانوية والتحق بكلية الآداب جامعة عين شمس حيث درس مادة التاريخ. حين نال شهادة الإجازة في الآداب من جامعة عين شمس عام 1961، كان خريجو كلية الآداب يعانون من البطالة، لذلك عمل رءوف عباس حامد بعد تخرجه في أعمال بسيطة إلى أن عين بشركة قطاع عام تنتج حامض الكبريت وسماد السوبر فوسفات لمدة 62 شهرا. وقد استفاد من وجوده فيها لتحضير رسالة الماجستير عن تاريخ الحركة العمالية والحركة النقابية في مصر. وتمت مناقشتها في نوفمبر 1966، ونال تقديرا ممتازا مع التوصية بطبع الرسالة. وبعد أن نال الدكتوراه في التاريخ الحديث من جامعة عين شمس بمرتبة الشرف الأولى في يناير 1971، عمل مدرسا للتاريخ الحديث بجامعة القاهرة. سافر إلي طوكيو في مهمة علمية في أبريل 1972 بدعوة من معهد الاقتصادات المتطورة. فأحدثت تلك البعثة انقلابا مهما في حياته العلمية، وتركت أثرا بارزا في تكوينه العلمي وفي منهجه البحثي. فانصرف إلى دراسة التاريخ المقارن، وتعمق في دراسة تاريخ اليابان في القرن التاسع عشر. واكتسب مهارات بحثية جديدة وفرصة نادرة للتعامل باللغة الإنجليزية في مجال التفاعل الأكاديمي وفي الكتابة بالإنجليزية. بات على احتكاك المباشر بالمجتمع الياباني والتعرف إلى ثقافته مع الإلمام بمباديء اللغة اليابانية. وعاد أستاذا زائرا إلى مركز لغات وثقافات آسيا وإفريقيا التابع لجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية. ثم نشر كتابين باللغة الإنجليزية للمقارنة بين الطهطاوي وفوكوزاوا، ومجتمع الساموراي في اليابان ومجتمع الأعيان في مصر. وبعد عودته إلى مصر عمل على صياغتهما ونشرهما باللغة العربية. ودعي باستمرار للمشاركة في ورش عمل وندوات ومؤتمرات عقدتها جامعات ألمانية وفرنسية وبريطانية وأمريكية، وقدم لها بحوثا بالإنجليزية. شغل رءوف عباس حامد منصب رئيس قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة لسنوات طويلة. كما شغل مركز رئيس اللجنة العلمية لدار الوثائق المصرية. وتولى الإشراف على مركز تاريخ مصر المعاصر التابع لدار الكتب المصرية. ورئس وحدة الدراسات التاريخية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية. وتم اختياره ضيف شرف على المؤتمر السنوي لجمعية دراسات الشرق الأوسط بأمريكا الشمالية الذي عقد في نوفمبر 1990 بولاية تكساس. ورئس مجلس إدارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية منذ العام 1999. فجمع تبرعات مالية لبناء مقر جديد لها بكلفة قاربت الأربعة ملايين جنيه. وهي تعد اليوم مركزا ثقافيا مساعدا للبحث العلمي. ترك مؤلفات عدة ذات قيمة علمية متميزة، أبرزها «تاريخ جامعة القاهرة»، و«ثورة القاهرة: إيجابياتها وسلبياتها بعد نصف قرن»، و«المجتمع الياباني في عصر المايجي». وأشرف على تحرير أو ترجمة كتب عدة منها «مصر في عصر محمد علي: إصلاح أم تحديث»، و«التاريخ المقارن للشرق الأوسط»، و«الأصول الاجتماعية للسياسة التوسعية لمصر في عهد محمد علي»، وكثير غيرها. وأصدر عام 1992 كتابا بعنوان: «حرب السويس بعد أربعين عاما»، وذلك في إشارة ذات دلالة إلى العدوان الثلاثي البريطاني - الفرنسي-الإسرائيلي على مصر عام 1956. بعد أن زار اليابان مرارا، كتب عن التجربة اليابانية، كما ترجم كتاب «يوميات هيروشيما». وقد حظي رءوف عباس حامد باحترام عدد كبير من المثقفين الذين تعرفوا إليه، أو استمعوا إلى محاضراته، أو قرأوا له. نال جائزة الدولة التقديرية في مجال العلوم الاجتماعية عن العام 1999.

مؤرخ موسوعي ومترجم متميز

قدم رءوف عباس حامد خلال مسيرته الثقافية الغنية أبحاثا متميزة عن تطور الحركة العمالية في مصر وعن نظامها الاجتماعي في ظل الملكيات الكبيرة، ونشر مذكرات محمد فريد، وألقى أضواء علمية مهمة على تطور الحركة العمالية المصرية في ضوء الوثائق البريطانية خلال الفترة ما بين 1924- 1937. واشتغل على تاريخ جماعة النهضة القومية. وتناول بالتحليل والنقد مواقف السياسة الأمريكية تجاه العالم العربي. كتب مسيرة جامعة القاهرة من خلال مقارنة دقيقة بين ماضيها وحاضرها. وشارك في تحرير كتب عدة منها «مصر للمصريين: مائة عام على الثورة العرابية»، و«العرب في إفريقيا:الجذور التاريخية والواقع المعاصر»، و «العلاقات المصرية - البريطانية 1951-1954»، و«الأحزاب المصرية: 1922- 1953»، و«أربعون عاما على ثورة يوليو: دراسة تاريخية»، وكتب عن النهضة اليابانية وقارن بينها وبين النهضة المصرية. وأشرف على نشر دراسات تاريخية مترجمة إلى العربية للمؤرخ الأمريكي المتميز والمعروف بموضوعيته بيتر جران الذي اتسمت أعماله بالموضوعية تجاه تطور التاريخ العربي والإسلامي، فأشرف على ترجمة أبرز كتبه في هذا المجال وهما: «الجذور الإسلامية للرأسمالية»، و«ما بعد المركزية الأوربية». له أكثر من تسعة كتب مترجمة، أبرزها: «توجهات بريطانية شرقية»، و«ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية»، و«يوميات هيروشيما» وغيرها. أخيراً، صدرت مذكراته الشخصية بعنوان «مشيناها خطى» فلاقت اهتماما كبيرا وكتبت عنها دراسات علمية عدة بعد فترة وجيزة من صدورها. وقد تحدث فيها عن سيرته العلمية الغنية، واتساع دائرة أبحاثه بشكل موسوعي لتضم موضوعات متعددة أبرزها: تطور الحركة العمالية في مصر، ونظامها الاجتماعي، ومذكرات بعض القادة المصريين من خلال أوراقهم الخاصة، وبالاستفادة من الوثائق المحلية والبريطانية. كان كثير الانشغال بدراسة النهضة القومية العربية في مصر وعلاقتها بالدول العربية والإسلامية والإفريقية من جهة، وبمواقف السياسة الأمريكية والأوربية تجاه العالم العربي والنهضة العربية من جهة أخرى، وأسهب في تحليل الحقبة التاريخية زمن الثورة العرابية ومدلول شعار : «مصر للمصريين». وقدم دراسة متميزة عن الجذور التاريخية للوجود العربي في إفريقيا وأسباب تراجع دور العرب في الدول الإفريقية في المرحلة الراهنة. وحلل تطور العلاقات المصرية - البريطانية التي طبعت تاريخ مصر الحديث والمعاصر منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، ودور الأحزاب المصرية من خلال تاريخها الطويل على الساحة المصرية، وتحليل أزمتها المستمرة لأسباب ذاتية وموضوعية، وركز على الجوانب المضيئة في تاريخ النهضة العربية. وتابع باهتمام بالغ نهضة اليابان ومدى استفادة العرب منها لبناء نهضة جديدة. وترجم شخصيا أو أشرف على ترجمة كتب ودراسات علمية لتنشط الروح القومية لدى الشعوب العربية، ومنها كتاب «يوميات هيروشيما» الذي نشره على نفقته الخاصة. وأبدى اهتماما بالغا بمقولات بيتر جران عن الجذور المحلية لتطور الرأسمالية في المجتمعات العربية والإسلامية، وبمقولات المؤرخ العربي المشهور شارل عيساوي بعد أن ترجم كتابه المشهور جدا: «التاريخ الاقتصادي للهلال الخصيب 1800 -1919 «وهو من الأعمال العلمية الرصينة في التاريخ الاقتصادي لمنطقة بلاد الشام في القرن التاسع عشر. وقد نشر عيساوي كتابا آخر بعنوان: «تأملات في التاريخ العربي»، تضمن دراسة بعنوان «لماذا اليابان وليس مصر»؟. وهي بحق من أهم الدراسات العلمية التي تناولت النهضة اليابانية بالتحليل المعمق في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين.

بقي أن نشير إلى أهمية المقدمات النقدية التي قدم بها رءوف عباس لترجماته، والتي تكشف عن حس علمي دقيق لعمل مترجم يمتلك خبرة رفيعة. فقد مارس التدريس الجامعي بكفاءة عالية، وكانت لديه أبحاث تفوق أحيانا أعمال من ترجم لهم في الموضوعات عينها.

التجربة اليابانية

سافر رءوف عباس حامد إلى طوكيو في مهمة علمية في أبريل 1972 بدعوة من معهد الاقتصادات المتطورة. فأحدثت تلك البعثة انقلابا مهما في حياته العلمية، وتركت أثرا بارزا في تكوينه العلمي وفي منهجه البحثي. فانصرف إلى دراسة التاريخ المقارن، وتعمق في دراسة تاريخ اليابان في القرن التاسع عشر، واكتسب مهارات بحثية جديدة من خلال التفاعل الأكاديمي، والاحتكاك المباشر بالمجتمع الياباني. وتشير سيرته الذاتية إلى أنه أثناء وجوده في اليابان، ساهم في إنشاء قسم للغة اليابانية وآدابها بكلية الآداب جامعة القاهرة الذي فتح أبوابه للدراسة في العام الجامعي 1974 - 1975، بعد أن كان مقررا إنشاؤه بجامعة تل أبيب. ثم عاد لاحقا أستاذا زائرا إلى مركز لغات وثقافات آسيا وإفريقيا التابع لجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية. ونشر فيه كتابين باللغة الإنجليزية للمقارنة بين الطهطاوي وفوكوزاوا من جهة، وبين مجتمع الساموراي في اليابان ومجتمع الأعيان في مصر.

ثم أتيحت له زيارة اليابان مرات عدة للتعرف إلى مختلف جوانب الحياة فيها. وكانت لديه مقولات مهمة عن نقاط التشابه والاختلاف بين المجتمعين المصري والياباني. تميزت أبحاثه اليابانية المنشورة بالعربية بطابع الجدة، لأنها من الدراسات العلمية الأولى التي نشرها باحث عربي عن اليابان متجاوزا الانطباعات الشخصية السابقة إلى الدقة في البحث العلمي والموضوعية في التحليل. فقد نشر كتابين : الأول - «المجتمع الياباني في عصر مايجي»، الذي طبع في القاهرة للمرة الأولى عام 1980، وصدرت الثالثة عن دار ميريت في العام 2000. والثاني -«التنوير بين مصر واليابان : دراسة مقارنة في فكر رفاعة الطهطاوي وفوكوزاوا يوكيتشي»، الصادر عن دار ميريت، القاهرة، 2001. ومادة الكتابين كانت في الأصل دراستين للمقارنة بين مصر واليابان في القرن التاسع عشر، صدرتا بطوكيو، وباللغة الإنجليزية. تعتبر أعماله اليابانية من الدراسات المهمة التي حاولت الخروج من دائرة الانبهار إلى التحليل العلمي المعمق حول اليابان. فهي دراسات موثقة ومقرونة بالمشاهدة العيانية.

لكن السؤال المنهجي الذي طرحه رءوف عباس مازال دون جواب علمي وعقلاني. فإلى أي مدى يمكن أن تستفيد دول العالم الثالث من تجربة التحديث التي شهدتها اليابان في عصر مايجي، «وهل يمكن أن تتكرر هذه التجربة في مجتمعات «شرقية» أخرى؟. وكان موقفه الضمني أقرب إلى السلبية، لأن النهضة اليابانية اتخذت مسارا فريدا جعلها نموذجا لا يمكن أن يتكرر نمطيا لأسباب عدة, أبرزها أن اليابان كانت قد طورت السوق المحلية الخاصة بها بالقدر الذي جعل النمو الاقتصادي الحديث ممكنا، ويسر سبل الانتقال إلى الرأسمالية. في حين كانت بلاد العالم الثالث مستعمرة أو شبه مستعمرة. وبفضل إصلاحات مايجي تحولت اليابان إلى دولة إمبريالية، لا بل الدولة الإمبريالية الوحيدة في منطقة جنوب وشرق آسيا، ثم حققت نموا اقتصاديا سريعا بفضل ما نهبته من ثروات البلاد الآسيوية التي وقعت تحت نيرها، وخاصة كوريا والصين. وقد اعتمد نمو اليابان، في فترة ما بين الحربين العالميتين، على موارد الشعوب التي قهرتها. أما بلاد العالم الثالث فكانت عرضة للنهب الإمبريالي، وكان تخلفها نتيجة طبيعية لما تعرضت له من استنزاف اقتصادي. فتجربة التحديث اليابانية ذات خصوصية محلية تصعب الاستفادة منها خارج اليابان لأنها وضعت على قياس الشعب الياباني، وبالتركيز على خصوصية التقاليد والعادات اليابانية المستمرة منذ قرون طويلة.

ختاما، كان رءوف عباس حامد مؤرخا إنسانيا عميق الالتزام بقضايا الطبقات الشعبية، والقوى الوطنية المناضلة ضد السيطرة الخارجية، وكان شديد الإيمان بقدرة العرب على بناء حركة تحديث ناجحة، فبحث عن جذور النهضة العربية وأسباب فشلها، ومدى استفادة العرب من تجارب الشعوب الأخرى لبناء نهضتهم المرتقبة. كان مؤرخا سجاليا بامتياز، ذاق مرارة الظلم لسنوات طويلة فأمضى حياته مدافعا صلبا عن حقوق العمال والفلاحين وسائر الفئات الشعبية المسحوقة. وكان داعية صلبا لنهضة عربية جديدة طال انتظارها ولم تأت في حياته، فأوكل مهمة قيامها إلى جيل عربي جديد أهداه آخر أجمل أعماله: «مشيناها خطى».

 

 

مسعود ضاهر