القـنـفذ مصطفى أبوالنصر

اندفعت أجري كالملسوع تجاء الصوت الذي اخترق أذني، وأنا قابع في مكاني المعهود في أقصى الحارة. كانت الظلمة قد اكتنفت الكون، بحيث قُدرِّ لي أن أخوض في مياه المستنقعات الأسنة، التي مرّت عليها آلاف السنين، وهي تنشر بيننا الأمراض- فى دأب وإصرار- من خلال الذباب والبعوض والصراصير والفئران والقُمل. لم أستطع أن أكبح نفسي، فأتصامم أو أدعي اللامبالاة. وحين رأيتني في الوسط، توقفت. لم يكن ذلك بإرادتي، وإنما لعدم قدرتي على تحديد المصدر. ساد السكون ثانية. غُمَّ عليّ، فجعلت أتلفت في الظلمة الحالكة، دون أن أرى بصيصًا من ضوء، فرفعت بصري تجاه الفُرجة التي تدخل منها أشعة الشمس نهاراً، وضوء القمر ليلاً، إلاّ أن الظلام، كان متراكبّا بعضه فوق بعض، حتى النجوم التي كانت تومض فيما مضى، قد توارت وراء طبقة كثيفة من الغبار العالق في الجو. لا حيلة ولا مخرج. عليك أن تعود من حيث أتيت، فتقعد في مكمنك، منتظراً أول خيط من النور.

عند صياح الديك، فتحت عينيّ. زرقة الفجر تزف إليّ بُشرى الرؤية والوضوح. انطلقت عيناي بلا حائل، لتقع كل وجوه البيوت الرمادية المتلاصقة خوفاً من الانهيار أو الفضيحة، لتدرك أن من بالداخل ما زالوا تحت ثقل كابوس أرضي، يجثم فوق صدورهم بكُتلٍ- لا يمكن زحزحتها- من الفقر والبطالة. بعد فترة، أسمع صوت مصاريع الشبابيك وهي تضرب الجدران على أمل أن يدخل جحورهم- مع الهواء- ضوء الشمس الذى لا يعرف الاختباء أو التمييز، لينير لهم ظلمتهم، فعسي أن يصلوا إلى بعض ما يأملون. ولكن الأمل بعيد، بعيد، فما أن يدرك أحدهم منه شيئًا، حتى يرفع عن كاهله ما ينوء به، ويولي هارباً. من بقي منهم، أو من أجبر على البقاء، هم أولئك الذين ضاقت بهم السبل، وسدت في وجوههم الأبواب. ولكن حين تخدع بعضهم الأماني، يطلون من خنادقهم ظانين أو آملين في شيء مجهول، قد يفد عليهم، حاملاً- من أجلهم- ما ظلوا يتطلعون إليه القرون العديدة، فتتناثر الكلمات والضحكات والصرخات، غير أنها لا تخدعني، فأنا أعرف ما تعنيه. إنها لا تصرح، ولكنها تشي بما تحت السطح.

أنحني لألتقط كسرة خبز جافة، رزقني بها الله من حيث لا أدري. أمسح بباطن كفي طبقة من طين عالقه بها؟ فيظهر وجهها الأسمر وقد شابته بقع سوداء لا تريد أن تبرح. شيء خير من لا شيء. وأحاول أن أكسر صلابتها بأصابعي، وإذ أنجح في ذلك، ألقي بها في فمي، تاركاً إياها تمتص ريقي حتى تلين وتخضع، فألوكها وتظل تتأرجح بين الفكين حتى يصيبها الملل، ولا تجد لها مهرباً إلاّ أن تنزلق في يأس إلى معدتي الخالية، ولكن ما عسى أن تفعل كسرة في معدة طال عليها الانتظار؟ دعك من هذا، فلا أحد يموت من الجوع، ولو صح ذلك، لما وجدت في هذه الحارة جسدًا يتحرك، أو نفسا يتردد سأقول لك ما يؤلمك، أو بالأحرى سأقول لك الحقيقة. في الماضي، كان عليك أن تشق طريقك فحسب. الآن، إما أن تكون بهلواناً وإما لصًا، وليس لك أن تلعب إلا في المساحة التي بينهما.

الصرخة التي اخترقت سكون الليل، مازالت تدوي في أذني. أردت أن أعرف حقيقتها ولكني فشلت.

ما كان لي أن أقتحم البيوت أو أدخلها. الكل يتعامل معك من بعيد. التحية أو الإيماءة، وحتى إذا دار بينك وبين أحدهم حديث، فهو لا يقترب منك يقف بعيداً، ثم يتمتم بكلمات متناثرة لا تجمعها وحدة. شيء ما كان مقطوعاً بيننا. ولما كنت لا أعرف لي مكاناً آخر- في هذه الدنيا- غير هذه الحارة، فإنني لم أفكر في أن أخرج منها ولو مرة واحدة.

خرجت جارة لي من جحرها، حاملة على صدرها طفلها. رأسه صغير، وعيناه الجاحظتان تحملقان فيما حوله من فوق كتفها. ما أن وقع بصرها علىّ، حتى ازورت عني وكأني مجذوم. تمضي في طريقها بقدمين حافيتين، غير عابئة بالمياه الآسنة والحشرات الزاحفة. ثوبها الأسود الطويل يحجب جسداً هزيلاً، أملس من أمام ووراء. إلى أين؟ سيكون في خروجها مدعاة للتساؤل، ولكن لا وقت للانشغال بالغير، فما أن ينجح الفرد منهم في الحصول على ما يملأ بطنه فقط، حتى يتهيأ له أن صار الآمر الناهي، فيقف في وسط الحارة، واضعاً كفيه على جنبيه متلفتًا في تحد وهو يضرب ماء المستنقع بقدميه، رافعًا عقيرته بصوت أجش مبحوح لاعناً الحارة وسكنيها ومعهم الحظ العاثر، ولكن صوتًا واحدًا لا يرد أو يستجيب، فيندفع في خطوات طائشة، خائضًا في قذارتها، تاركًا الحارة ومن فيها خلفه.

ما الذي يمكن أن أقوله أنا أو غيري؟ الصلة المقطوعة، كانت هي الصلة الوحيدة، ومن خلال سخريات بعض الصبية والأطفال، أدركت موقفي تمامًا. ما أنا إلا جزء من رصيف أو أرض، شيء ما لا يؤبه به، وعليه فلا ضرورة لتعنيف الصبية، ما دمت أنا نفسي لا أحس ولا أتذمر ولا أثور. أتقبل ما يقولون في صمت كامل، وبلا أية حركة إنذار أو وعيد. هل يمكن لحجر أن تبدو عليه آيات التذمر أو السخط أو الاحتجاج؟ يقف الصبية أمامي، ولكن من بعيد. في البداية يقفون ساكنين، يحدقون فيّ، كما يحدقون في عجيبة من العجائب. تساورهم شكوك في حقيقتي. هل أنا مثلهم أو مثل أهليهم، أم تُرى ماذا أكون؟ وتظل نظراتهم مصوبة تجاهي، وكأنها تريد أن تخترق كياني كله. لا يعنيني ذلك في قليل أو كثير. أتشاغل عنهم بالتحديق في الأرض، ولكنني بين حين وآخر، أسرق إليهم نظرة جانبية فأراهم على حالتهم من الرهبة والرغبة في الإقدام. لا شك أن أحدهم قد راودته رغبة ملحة في أن يقربني بل وأن يلامسني. حب استطلاع دفين. يتقدم خطوة، ثم خطوة، إلاّ أن الصرخات العالية المحذرة تنطلق من الحناجر فيرتد بسرعة كما لو أن عقربًا لسعته. وينطلق الصبية مبتعدين في جلبة مصحوبة بتهليل، مؤثرين الخوض في المياه العطنه. أمّا أنا فأعود إلى النظر إليهم من بعيد دون أن أتفوه بكلمة، أن تحدثني نفسي أن أفعل شيئًا.

ظهر الشيخ متوكئًا كل عصاه. برز من باب بيته ليقف محملقًا فيما تحت قدميه وهو يبسمل ويحوقل. وراح ينكت الأرض بعصاه، لتدله على الطريق الذي سيسلكه.التفت نحوي عن قصد، وألقى في سلامًا اعتاد أن يهبني إياه كل صباح. أرد التحية دون أن يكون لذلك أي معنى. لا فائدة، لا فائدة على الإطلاق. التحية لا تُشبع من جوع. إنني أطوي كل ما فى ذاتي على ذاتي، وأظل حبيس قعدتي بلا هدف معين أو غرض محدد،والله هو الرزاق الكريم يتلمس الشيخ طريقه. بين كل خطوة وأخرى، يتوقف، وتدور رقبته يمينًا وشمالاً، ثم يرفع رأسه عاليًا، وينطلق الدعاء من فمه، ولكن في نبراته ما يشي بالإنذار والتحذير. من هم الذين ينذرهم ،ومن أولئك الذين يحذرهم ؟ حتى إذا ما اجتاز الحارة ووصل إلى نهايتها؟ تمهل وهو يلتفت تجاهها، وبصق بصفة غليظة، يتركها على عتبتها علامة على أنه كان هنا.

أطلت امرأة من ثسباك بالدور الأرضي من البيت المقابل لي مباشرة. كانت تفعل ذلك بين حين وآخر، فكنت، عندما أراها، يسيل لعابي، وأدرك من فوري، أنها ستلقي إليّ بلفافة صغيرة، كما يفعل الإنسان مع كلب من كلاب السكة. في بادئ الأمر، كنت أشعر كما لو أنها تتخلص من زبالتها في مقعدي. يبدو ذلك واضحًا، عندما ترمي باللفافة، وبسرعة تدخل وتغلق الشباك في عنف وكأنها لا تريد حتى أن تنتظر نتيجة فعلتها. تحركت في نفسي تلك الرغبة الدفينة في أن أبدو كآدمي وكبقية خلق الله. نظرت إلى اللفافة الملقاة على الأرض دون أن أقربها. ربما كانت على ثقة من أنني سآخذها، أو ربما لأنها لا تريد أن تخجلني، أو ربما لأي سبب آخر. تلفت حولي كما يفعل اللص منتهزاً فرصة أنشغال الناس عنه. وإذ تأكدت أفى أحدًا لا يراني، وأن الحارة قد خلت، فقد زحفت مادًا يدي حتى أطبقت عليها بأصابعي وأخذتها في خطفة سريعة، وكأنني أنقض على فريسة، وعدت إلى مكاني. ولكي أستمتع بالأمنية، دون أن أعرف ما إذا كانت ستتحقق أم لا، فقد ظلت قابضًا على اللفافة، دون أن تواتيني الشجاعة على فضها. وتمنيت- في هذه اللغة - لو كان لي بيت أو حتى جدار أتوارى وراءه. عدت ثانية، فدرت بعينيّ في أرجاء الحارة، ثم رفعتهما إلى الشبابيك.. ولا أحد،لا أحد يراني أو يرفبني. فتحت اللفافة. رغيف وقرصان من الطعمية. الحمد لله، هذا ما جادت به السماء.

عند العصر، أطلت الفتاة الجميلة من الشباك. ارتكزت بمرفقيها على حافته، وأنحت قليلاً تنظر يمينًا وشمالاً. في أثناء تحول عينيها يقع بصرها عليّ إنها لا تطيل الوقوف عندي. مجرد نظرة عابرة. أقتنص هذه اللحظة، لأعبر لها عما في أعماقي، ولا يكون ذلك إلاّ بأن أظل معلقًا عيني عليها. تناثرت أقاويل حولها. أسمعها طائرة بين الشبابيك، فأتغافل عنها وأطرق. لا تطاوعني نفسي على الإصغاء أو التصديق، فأقف حيال ما أسمع واجمًا. أبوها رجل مقعد، هدّه المرض والفقر. أمها هي التي تسعى. تخرج في الصباح بجلبابها الأسود، وشبشبها الأسود، وقد اتشحت بطرحة سوداء، تحتها منديل أسود تظهر من طرفه بضع شعيرات بيضاء. وجهها ممصوص قد دمرته التجاعيد. تقف عند عتبة باب البيت. تلقي على نظرة خالية من أي معنى، ثم تتخذ وجهتها خارج الحارة. تمشي في خطوات وئيدة، ثم تنعطف وتغيب. أين تذهب؟ وقبل الغروب، أراها عائدة، حاملة صُرة. عندما تقترب تتمهل قليلاً وتتوقف لتلتقط أنفاسها، ثم تدخل البيت. كنت حزينًا ولا حيلة لي. أطرقت أحملق في الطين والأرض. رأيت صفًا من النمل يمشي في دأب نحو خُرم قد حُفّ بتل صغير من تراب ناعم. لم تخرج نملة عن الصف أو تتوقف أو تتلكأ. كان الأمر قد صدر وليس لواحدة أن تتمرد أو تحتج. وحين غاب الصف كله، حولت بصري، ولكن الأرض كانت خالية إلاّ من الطين والحجارة والمياه العطنة. رفعت بصري ثانية، محاولاً أن أخترق بخيالي الشبابيك المغلقة، ولكنها كانت منطوية على ما بداخلها، لا تريد أن تفصح عن شيء. في هذه اللحظة، التي كنت فيها كالمعلق بين السماء والأرض، سمعت ضجة قادمة من ناحية الشارع. رأيت حسدًا من الناس يدخل الحارة، حاملاً شيئًا ما، شيئًا ما أسود، وإذ أخذ الحشد يقترب، حتى تبين لي أن حملهم ليس إلاً جسد امرأة. كان يقود هذا الجمع شرطي طويل فارع، يرتدي بدلته الرسمية السوداء، وقد لمعت أزرارها النحاسية. من بين أذرعتهم، لمحت جانبًا من الوجه، عرفته، إنه ذلك الوجه الممصوص. أم الفتاة الجميلة. توقف الجمع. وأخذت الرءوس تتلفت مستنجدة. على أثر الضجة، انفتحت الشبابيك في دفعات متلاحقة سريعة. هممت- بالفعل- أن أقوم متجهًا نحوهم، إلا أن أصوات النساء تعالت تدلهم على البيت، فاتجهوا إليه : الشرطي في المقدمة، وهم من ورائه يحملون المرأة. هل ماتت، أم مجرد إغماء بسيط؟ خرجت النساء- من بيوتهن- مهرولات حفاة نحو البيت. انطلقت صرخة حادة. قدرت أنها للفتاة. لم أسمع صوتها من قبل، ولكني عرفته. سادت فترة صمت وسكون، طالت نوعًا ما، وكأن الحارة قد أصيبت بالخرس. ثم تناهت إليّ همهمة- على أثرها- ظهر الحشد خارجّا. انتبهت إلى أنني لم أر الشرطي من بينهم. مازال فوق. ما الذي يفعله؟ لا شك أنه رأى زوجها المقعد وابنتها. ألم يؤد مهمته، ففيم إذن بقاؤه؟ حلت في عينه الفتاة، ومن يدري؟ لعله الآن منهمك في حديث، ظاهره الاهتمام بحالة أمها، وفي حقيقته وصل حبال ودها. حيلة مكشوفة. ما هذا القلق الذي يعتريك؟ إذا كان الأب موجودًا، فما شأنك؟لا تدس أنفك بحجة أنك من أهل الحارة. لم يطلب أحد منك أن تعاونه أو تحميه. هل سيبيت عندهم أم ماذا؟ لم تتحول عيني عن الباب. أخيرًا، ظهر الشرطي. بدا فارع الطول، فوق رأسه الكاب، وعلى ذراعه ثلاثة أشرطة بيضاء. توقف لحظة يتلفت، فما أن وقع بصره علىّ، حتى أشاح بوجهه عني، وأخذ يخوض في الماء والطين، وهو يبتعد رويدًا رويدًا، إلى أن انعطف يمينًا واختفي. بعده بقليل، خرجت النساء وعلى وجوههن ابتسامات دلتني على أن المرأة قد أفاقت.

هبطت ظلمة الغسق، وبدت الحارة في غلالة رقيقة من ضوء شاحب أخذ يخفت شيئًا فشيئًا حتى أطبق الظلام عليها ساد السكون، وآوى الجميع إلى جحورهم. تكورتُ في مكمني، وانحنين إلى الأمام مسندًا رأسي على ركبتي متأهبًا للنوم. شعرت ببرودة قارسة تخترق عظامي. رفعت رأسي، وفتحت عيني. رأيا الشرطي يقف أمامي، بدا لي أكثر طولاً وعرضّا عما كان. حجب عني الرؤية، وكانت عيناه مفتوحتين عن آخرهما، وقد رفع يده مهددًا إياي بهراوته الغليظة التي كاد يهوي بها عليّ، لولا أن دوت الصرخة المعهودة، فانتفض في وقفته، وهوت ذراعه واختفى. انتظمتني رعشة، وأخذت أسناني تصطك. أغمضت عيني وفتحتها، واتجهت ببصري تجاه أول الحارة. تذكرت- في هذه اللحظة- أنني لم أر الشيخ- كما اعتدت أن أراه كل يوم- عائداً يدب بعصاه متلمسًا طريقه. تُرى ما الذي أخّره؟.