الحب والشعر في رواية: «تحت سقفٍ واطئ»

الحب والشعر في رواية: «تحت سقفٍ واطئ»

في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، التي هي من أشد الحقَب التي مرّت على سورية في العقود الأخيرة حرجاً، وفي واقع استنفر الكلّ ضدّ الكلّ. تدور أحداث هذه الرواية في مدينة حلب، التي هي العاصمة الاقتصاديّة، وتحوّلت حينها إلى قارب نهباً للصراعات والتناحرات.

تقع «تحت سقفٍ واطئ»، في 190 صفحة من القطع الوسط، لوحة الغلاف للفنّان طاهر البنّي.. والزمن هو نفسه الزمن الذي يشكّل أرضاً وعرة قليلة الوطء في الرواية السوريّة، أمّا المكان فهو حلب، بداية الكلام عنها والختام.. يبتدئ الكاتب بمسح طبوغرافيّ لأحيائها وحاراتها وخاناتها وجوامعها وكنائسها، يسرد بعضاً ممّا جرى على أرضها، يذكّر بقادة وشعراء وشخصيّات فاعلة في تاريخها استوطنوها، ومنهم المتنبّي وسيف الدولة، وغيرهما، كأنّه بصدد التحضير لبانوراما تاريخيّة للمدينة، يشير إلى المناطق التي علت منها صيحات الانتفاضات والنضالات ضدّ الفرنسيّين، يوطّد علاقة من نوع خاصّ مع قلعتها، التي هي المَعْلم الأبرز فيها، وهي الشاهدة على تجذّرها وصلابتها وثباتها بالمكان. يشهر الكاتب عظمة المكان وقصوره عن بلوغ تلك العظَمة في آن، يناقض أشخاصه في الرؤى بعضهم بعضاً، بحسب خلفيّة كلّ منهم، وفي كلّ مرّة يكون الكلام: حلب قصدنا وأنت السبيل، فكلّ ما يرد من أمكنة مكمّل لحلبه، غير مغنٍ عنها، سواء في الداخل أو في الخارج، لأنّها تبقى حلبَةَ الحبّ والشعر والسكر والطهر والعهر معاً، تبقى مدينة تختصر الكمال في ذاتها.. وقد يسعى إلى قلبٍ للأمكنة بقلب لمعانيها، كأن يتحوّل «بئر الدم» في قلعة حلب إلى بئر للحبّ، لكنّ الاسم لا يلبث أن ينتصر لنفسه ومعناه المتجذّر تاريخيّاً، وهو في توصيفه للقلعة عندما يتجوّل فيها كأنّه يلخّص أو يشرح قصيدة المتنبّي عنها، فيأتي وصفه وصفَ العارف بخباياها، الولهان بها.. ليعيد، بعد سياحة تاريخيّة، الإيقاع بقارئه في فخّ الواقع بتجلّياته السيّئة ومكائده المؤذية والمودية بالجميع.

حياة شاعر

يتّخذ الكاتب من حياة الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين وعدد من أصدقائه وأبناء جيله محوراً دراميّاً لروايته التي اختار عنوانها من ضمن الفصول الأخيرة، والتي يتحدّث فيها عن حفلة تعذيب في السجن، «رقص ودماء، رقص وماء، رقص وشتائم، رقص وإغماء، رقص.. كلّ ما حولنا يرقص، كلّ ما حولنا يغنّي: يا ليل.. ياعين، لا بأس سنرقص ونرقص حتّى نرى نجوم الظهر، لم يعد فينا مَن يرفع رأسه، فالسقف واطئ و«الكابل» قريب، والرحمة بعيدة، والحفلة الصاخبة في أوّلها. هل جرّب أحدكم الرقص تحت سقف واطئ؟.. .. تعالوا إذن لنرقص معاً، شاركونا حفلتنا الصاخبة هذه تحت سقف حياتنا الواطئ...» ص172. العنوان شبه جملة متعلّق بخبر لمبتدأ محذوف تقديره المصرّح به بين طيّات الكتاب هو: الرقص، هنا، كما ورد في الجمل السابقة، لكنّ الكاتب، أراد العنوان أكثر تعميماً، فحذف المبتدأ: الرقص، حين ثبّت عنوانه، ليصحّ القول: الحبُّ أو الشعر أو الحياة أو الموت أو الجنون أو التسكّع أو التَصَعلُك أو العري أو التعرية ..إلخ «... تحت سقف واطىء»، تلك المعاني التي تعبّر الرواية عنها.. وتأتي العناوين الفرعيّة صادمة، مهادنة، مفاجئة، كلاسيكيّة، ومن تلك العناوين: «الملكة، منديل أبيض.. ناصع البياض، لبنى والذئب، شاهو، تفّاحة رئيفة، على أبواب حياة جديدة...».

من الشخصيّات الأنثويّة: رؤى، لبنى، شاهو، الآنسة «س»، ميسون، رئيفة، بثينة.. ومن الشخصيّات الذكوريّة: رياض، سعد، بشير، فاضل السرحان، الدكتور صبحي، حامد، ماجد، وسيم.. وشخصيّات ثانوية تنسلّ منسحبة بهدوء، بعد أداء أدوارها.. وكأنّ الكاتب قد سطا سطواً أدبيّاً على دفاتر يوميّات ومذكّرات شخصيّاته، فيترك لكلّ واحدة منها الحرّيّة في التعبير عن نفسها، ورسم خطّة عملها، لكنّه يحرمها من حقوق تقرير المصير، لأنّه يلقي بمصائرها إليها، كرفع عتب، لأنّه يخيّرها إلى حينٍ، ثمّ يتدخّل بودّ، فنرى تنوّع الرواة في الرواية، فالسارد يختلف من فصل إلى آخر، وقد يعاود أحدهم السرد هنا وهناك، في خطوط أفقيّة وعموديّة، يشرف عليها الروائيّ، الراوي الرئيسيّ «سعد»، الممسك بكلّ الخيوط، والمشتغل على كلّ الخطوط معاً، دون أن يغلب أحدها، وهو السارد بضمير المتكلّم الحاضر، والغائب، والمخاطَب معاً، إذ يكون التنويع في السرد ناتجاً عن لوعة وتلوّع يطغيان على الأحداث ويتسربان إلى الشخصيّات التي تقاد إلى مصائر مرسومة، معلومة ومجهولة.

ظلال السجن

هناك عدّة خطوط متوازية تسير عليها الرواية، لكنّ أبرز الخطوط هو السجن، حيث ظلاله جاثمة على صدور الأبطال كلّهم، فالسجن يجتاح كلّ الفصول، ويعدي بوبائه كلّ الشخصيّات، وكلّ من موقعه، فمن لم يكتوِ بالسجن، اكتوى بالأسف على عزيز، صديق أو أخ أو أخت أو ابن أو ابنة، وكأنّ الكاتب أراد انتماءً، إلى مجموعة الكتّاب الذين فضحوا عوالم السجون الكابوسيّة، وعرّوا الممارسات التي تمارَس فيها، ومنهم عبدالرحمن منيف خصوصاً في تنويعه للساردين والتمحور حول جريمة السجن، وذلك في «شرق المتوسّط»، و«الآن هنا»، وكذلك ناظم حكمت، يلماز غوني، نور الدين ظاظا، مليكة أوفقير، وغيرهم كثر مَن صوّروا مأسويّته والإجرام المرتكَب فيه، حتّى ليظنّ أيّ قارئ، أنّه لم يبقَ شيء عن السجن إلاّ وقد كتب أو صوّر بطريقة ما، لكنّ الكاتب يرفض ذلك، ويخالفه في روايته، ويؤكّد أنّ هناك جوانب لم تصوَّر بعد في هذا العالم الكبير بقدر صغره، ومن ذلك مثلاً، الاتّفاق على إعلان الخطبة بين سجينين، «فاضل ولبنى»، والإعداد للحفلة، على طريقتهم وحسب المتوافر، فكانت ثورة على السجن، وإيلاداً للفرح من قلب الظلمة والظلم، ليتحوّل السجن القبو/ القبر بين لحظة وأخرى إلى جحيم، تتبع حفلة الخطبة حفلة تعذيب تليق بالمحتفلين، فتحت سقف القبو الواطئ، وبعد أن أخذ الجميع وضع الرقصة الروسيّة، وهي طريقة في التعذيب مطوّرة، بدأت الحفلة، وبدأ ارتقاب الموت، وقتل الإنسانيّة في الإنسان.. فالسجن يلتهم الأجساد والأرواح والأحلام ويطلب المزيد في كلّ لحظة.(ص42). وهو الذي يقبع في داخله عدد كبير وخليط منوّع من الجميع: اشتراكيّون، إسلاميّون، فلسطينيّون، لبنانيّون، عراقيّون، أردنيّون، وأكراد.(ص46). وهو الذي يجعل المرء شفّافاً واضحَ السمات مشوَّهَ القسمات، ففيه تعابث المرءَ الذكرياتُ، وهو العالم اللامتوازن اللاعقلانيّ، حيث يغدو فيه كلّ أمر عاديّ عظيماً، وهو رهان يتطلّب من السجين أن يشغل نفسه ما أمكن، وأن يتخلّى عن بعض العادات قبل الأسر ويجترح لنفسه أخرى بديلة، ويتقهقر السجين إلى عالمه الجوّانيّ، متحدّياً العالم الخارجيّ بما يقوّيه من الداخل. (ص50 - 52). كما أنّه يؤكّد أنّ التغلُّب على كارثة السجن الكبيرة ممكن ببعض المعدّات الصغيرة، وذلك عندما يقول على لسان لبنى: «لو توفّرت هنا بعض الكتب أو الجرائد ومسجّلة صغيرة لهزمت السجن والخوف والشوق..».(ص112). وقد استأنس الكاتب في أحد فصوله عن السجن بشهادات لمجموعة من سجينات الرأي كانت قد نشرتها الكاتبة روزا ياسين حسين في وقت سابق، حسب ما وثّق في هامش الصفحة 114. ويكبر السجن أو يصغر بحسب حامله، لا المسجون فيه، فحتّى مَن يفلح في الخلاص منه إلى المنفى يسجنه المنفى في سجن روحيّ لا فكاك منه، إلاّ بالعودة إلى الحقيقيّ.

رؤى شعرية

أمّا على الخطّ الآخر يكون الشعر، حيث تُطرَح حوله الرؤى المختلفة، بين حداثيّ، وما بعد حداثيٍّ، وتقليديّ وثائر، ومؤدلج وملتزم، فأحدهم يقدّم أصالة التجربة، لا انتماءها إلى هذا المكان أو ذاك، والآخر، رياض، يثور على القافية والوزن قائلاً: «نحن الآن في الألفيّة الثالثة، ولسنا في العصر الجاهليّ حتّى نلزم الشاعر بالوزن والقافية، فالشاعر لم يعد لسان حال القبيلة، والحروب الآن بالطائرات والقنابل النوويةّ لا بالسيف والرمح وثكلتك أمّك يابن زياد!». ثمّ مضيفاً: «القصيدة العموديّة تابوت، نحن نحبّ الشعر الجميل والقصائد العظيمة.. ولا نحبّ المستطيلات والمربّعات والدوائر الموزونة المقفّاة..».(ص15). وباعتبار أنّ معظم الشخصيّات إمّا شعراء أو ينهمّون بالشعر، فتتدخّل الآنسة التي آثر الكاتب إبقاءها مجهولة «س»، لتدلي بدلوها، مؤكّدة على ضرورة توافر الإيقاع الداخليّ ليكون من سبيل إلى التمييز بين الشعر والنثر..(ً16). أو تعلّق في مكان آخر، على أنّ الشعر الحقيقيّ لا يخفي نفسه.. مثل الحبّ والشمس والموت تماماً. (ص30). ولا ينسى بشير، الذي هو وجه آخر من الوجوه المتوارية خلف الكلمات، أن يتدخّل إذ يقول: «لا وظيفة للشعر إلاّ أن يكون شعراً فحسب». وأن يكون قادراً على مفاجأة القارئ وخلخلة توقّعاته وذائقته التقليديّة»، (ص31 - 32).

والمكانُ، كما الشخصيّات، مضطربٌ، فضمن الفصل الواحد، هناك انتقال من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، منها الارتحال الجماعيّ لمعظم شخصيّات الرواية بين هذه المنطقة أو تلك، في الفصل المعنون بـ: شاهو، مثلاً، ثلّة الأصدقاء تنتقل إلى قرية روهلات في منطقة الأكراد، ويعرّج الكاتب أثناءها على جانب من مأساة الكُرد التي هي جزء من المأساة العامّة، ويذكّر بانقسامهم، وتشتّتهم، والخلافات التي لا تفارقهم، ومن تلك القرية إلى مخيّم للفلسطينيين، فيصوّر سوء أحوالهم، وفقر مخيّماتهم، كأنّه بانتقاله هذا وجمعه بين الكُرد والفلسطينيّين في فصل واحد، يذكّر بتاريخ مشتَرك بين الشعبين، ولا سيّما عندما يتحدّد مصير شاهو، بالانضمام إلى الثوّار الكُرد في الجبال، ومصير بشير بالانضمام إلى الفدائيّين الفلسطينيّين في لبنان..

يطرح الكاتب في روايته واقعاً يضجّ ويعجّ بالمفارقات، ويسقط ذلك الواقع على شخصيّاته التي تعيش مفارقات حادّة بدورها، مثلاً، الدكتور صبحي، شخص ذو ميول إخوانيّة، حيث كان فيما سبق عاملاً معهم، وبقي متعاطفاً معهم، تخرج ابنته؛ رؤى، عن سيطرته لتكون على النقيض تماماً، إذ إنّها تكون متطرّفة، ولكن في الجانب الآخر، وهي برجوازيّة، كما يقال عنها، لكنّها تهيم بأحد الصعاليك، كما يقول عن نفسه، أي هناك قلق يعمّ وإقلاق مبثوث لا يهدأ، ولا يريد الكاتب له تهدئة.

يقدّم الكاتب في روايته نماذج متعدّدة مختلفة، شخصيّات حالمة، وأخرى واهمة، منها العدميّ ومنها الثوريّ غير المحتسب، منها المجنون ومنها المستجنّ، الفقير والمُفقََر، الظالم والمظلوم، المنتمي واللامنتمي.. كما أنّ هنالك نماذج نمطيّة مكرّرة في الرواية، من ذلك شخصيّة «رئيفة»، التي كانت بنت هوى سابقة، ألقت بها خيانة رجل ما إلى قارعة الطريق، لتكون الناقمة الودود، ذات جراح منكوءة لا تلتئم، وقد تكون ذات ثوابت خاصّة بها، كأن تبتعد عن الجيران لتبقي الاحترام قائماً، وهذه الشخصيّة تذكّر بشخصيّة «فلّة بوعنّاب» من رواية «وليمة لأعشاب البحر» لحيدر حيدر، وشخصيّة «هورتنس»، مع فارق بينهما، من رواية «زوربا» لنيقول كازانتزاكيس، وخاصّة عندما تقول رئيفة وتكرّر: «حبيبي أنا عشت وشفت كلّ الأشكال والألوان، سياسيّين كبار وأدباء وفنّانين، وكلّكم مثل بعضكم، الواحد منكم يشرب من البئر ويبصق فيه!». (ص96 - 97).

يثير نذير جعفر أسئلة لم تعثر أو تهتدِ بعد إلى إجابات شافية لها، رغم الاجتهاد فيها، ومن ذلك مشروعيّة أو جواز الاتّكاء على شخصيّة لها اعتبارها الأدبيّ، وهي هنا شخصيّات عدّة، منها، حامد بدرخان، حيث يستشهد بديوانه «على دروب آسيا»، والشاعر رياض الصالح الحسين، لتحدَّث روائيّاً وتقوَّل رؤى وآراء الروائيّ، ومستعاناً بها في الحوارات والأحداث، حيث يكون السارد أيضاً في فصل محدّد يحكي كوميديا الحياة الدامعة التي حياها، ومصيبة فقده السمع، وقصّة عمره الضائع، كجوابه على مَن تسأله عن عمره: «عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة، وسرب من العصافير والدبّابات». «أنا تراكتور معطوب، أقرأ الأبراج والمذابح والشفاه، وأحلم بفتاة تردّ لي روحي ولا تسألني: كم الساعة الآن». وجمل أخرى مقتبسة من قصائده، كـ «بسيط كالماء واضح كطلقة مسدّس».. ثمّ تعلّقه بالمرأة التي آثر الكاتب تلغيزها بـ «س»، وتنقّله بين امرأة وأخرى، وبعض تصرّفاته الشاعريّة/ المجنونة، ككسره لواجهة محلّ ليهدي محبوبته فستاناً لم يستطع شراءه.. إلخ ما هنالك من سلوكيّات قد يقول عنها البعض، إنّه كان يُستَحبّ لو أنّه غضّ طرفه عنها، ذلك أنّه يقدّم رياض الشاعر الإنسان بخطاياه وعظمة أشعاره، بجنونه وبساطته ووضوحه.. وهل يحقّ للروائيّ ذلك أم لا؟ أم أنّ مجرّد التفكير في حقوق الروائيّ وواجباته هو محض خيال، على اعتبار أنّ الروائيّ صاحب الحرّيّة المطلقة فيما يختاره ويكتبه، ويشكّل ذلك إحياء، بمعنى ما، للشاعر، وإعادة بثّ الروح في قصائده، وتذكير قرّائه به، وتعريفه بمَن لم يتعرّفوا عليه بعد، بإدراج مقتطفات ومقاطع من قصائده التي انغوى الكاتب بها ويسعى إلى أن ينقل انغواءه إلى القارئ، بعيداً عن فرض وجهة نظره، أو إرغامه على تقبّل حكمه..

همسٌ دون غَمزٍ أو لمزٍ

في الفصل المعنون بـ: شاهو، يكتب: «ثمّ انتقل الحديث إلى الشعر وكانت شاهو قد حفظت بعض المقاطع لجكرخوين وشيركوه بيكه س فألقتها علينا بالكرديّة كما طلب رياض، لأنّه في الحالتين سيقرأ تعابير وجهها وشفتيها. وتواصلنا مع القصيدتين عبر اللغة الإيمائيّة التي أبدعت في إيصال دلالاتها إلينا».(ص64). بالتأكيد فإنّ في التذكير بثقافات أخرى، إغناء للرواية، وتبادل مثاقفة جميلا.

ترد في الرواية جملة تقول: «كنت مغتاظاً إلى حدّ العماء».(ص183)، والعماء بحسب تعريف ابن عربى «هو الغيم الرقيق الذي يحول بين الناظر وبين الشمس»، وهو نفسه المنادَى المناجَى في ديوان «طيش الياقوت» لسليم بركات، عندما يكرّر لازمته: أيّها الأب العماء. فهل يا ترى يقصد الكاتب تلك المرحلة المائيّة البدائيّة ـ وأظنّ أنّ الكاتب لا يقصدها، وذلك بحسب المعنى المفهوم من السياق ـ أم أنّه يقصد العمى، الذي هو (فقد البصر أو في حالات الغضب فقد التبصّر كما هو متداوَل)..

أمّا النهايات فتأتي موجزة، وكأنّ الكاتب انقاد لقدرٍ لم يتحمّل عناء تقريره، فالمصائر محدَّدة سلفاً، وهي تتفرّع في مفترق الطرق، ووداع إلى العالم الآخر لكلّ منهم، والقارئ حرّ في تتبّعها أو عدم تتبّعها.. أي أنّ النهايات سينمائيّة، فهنا قطار يصفّر حاملاً معه أحدهم، وهناك باص يحمل الآخر.. وهكذا هناك رجع صدىً لصوتها، وتشظية لها في كلّ الاتّجاهات، ونثر على كلّ الطرقات.. لينتج الاشتراك في العيش افتراقاً في المصير..

يبقى أن أقول، إنّ رواية «تحت سقفٍ واطئ»، للكاتب نذير جعفر، هي انتصار للغة الروائيّة الشاعريّة، وهي رفع لسقف الحرّيّات في الكتابة، وهي محاولة لإزالة هذا السقف تماماً، حيث الآمال تطوّح بهذا السقف، حتّى يفترش القارئ العشب ويلتحف السماء، في فضاء منفتح غير مسوَّر بأسوار أو أسقفٍ تكمّ الأفواه، وتغتال الفرح، وتقضي على الحبّ، وتروِّج للفوضى.

إنّ هذه الرواية هي إغراق للشخصيّات في عبثيّة مريرة وتزيين لها بعدم الاكتراث، ردّاً على واقع أكثر مرارة يلفّه الاستبداد ويشينه، وهي توثيق لزمان ومكان يراد تجاهلمها وتناسيهما، لأنّهما يشيان بجرائم كثيرة معلَّقة، ويفشيان بأسرار يعرفها الكثيرون، ويتجاهلون الحديث عنها في الوقت نفسه.. إنّها نوع من التحدّي، بوضع الجرس في عنق القطّ لترويضه، والإنذار أو التبشير بانتهاء الخربشة والتخميش، لأنّ الكتابة صارت الحكم والفصل هنا.. وهي حديث الدواخل والذواكر معاً، في رياض المحبّين، في جنّة (جحيم) اخترعها الكاتب لأبطاله، أو خلقوها هم بإرادتهم وحبّهم للحياة، متحدّين بذلك سُعاراً لم يُستثنَ منه إلاّ القلائل، رافضين الانصياع لطلقات غير واضحة، وتعقيدات تلوّث بساطة وصفاء المياه، وتعكّر أجواء العشّاق.

 


نذير جعفر