مساحة ود

 مساحة ود

أميرة كازا بلانكا

عندما مدت يدها إلي، وامتد صوتها نحوي بلكنة أجنبية وأنا أعبر ذلك الشارع الجميل في مدينة الدار البيضاء بغبطة مستترة لاكتشاف ربيع وخضرة تشققا داخلي، وعثرت عليهما مع رذاذ زرقة المحيط النائم بأمواج ماكرة شهية على كورنيش مغربي النكهة، اعتبرت تصرفها مداعبة أو مزحة «بيضاوية»، ولكنها استمرت قائلة بأن أمدها بما يكفي لسفرها إلى مدينة أخرى تقصدها. سيدة أنيقة، وبالرغم من التضاريس المحفورة على وجهها، فإنها احتفظت بعنفوان امرأة جميلة. سيدة تتلاعب باللغات كما تشاء وتطلب مالا من العابرين، وقتها فقط استيقظت على أن هذه الملابس الجميلة التي ترتديها لاتشبه ملابس هذا الزمن، بل تنتمي لزمن آخر كانت هي فيه سيدة مجتمع وانتهى بريقه، فتحوّلت لسيدة محنّطة.

أي دهر رمى بها الى هذا الحال وأي قدر وأي اختيارات اعتقدت تحت وجاهة النضارة أنها صائبة وتحت شموس الشباب، إنها خالدة، يالغرور الأنوثة! ويالسخرية زمن غادر! ويا لوحدتها القادمة! «الآن» أردت أن أصعد إلى زمنها عبر التجاعيد المرسومة بإتقان على وجهها، أردت أن أعبر نهار عينيها الزرقاوين الآيلين للسقوط في بئر مظلمة وليل طويل. أردت أن أفك ألغاز لعبة «الانحسار»، أردت أن أعرف كيف كانت، لأتقبل ما أصبحت عليه الآن، ولأفهم كيف أكون وكيف نكون جميعاً... لكن هذا السؤال محير و أكبر من حجمي في الحياة، سألت العابرين عنها قالوا: إن عرافة رسمت لها نافدة من شمس لاتعرف الأفول ، وإشارات لم تستدل إليها وعن وصفة لم تجد عقاقيرها، «قالوا: إنها تمادت في جرعة الحياة فأفقدتها صوابها»، قالوا: إنها اكتشفت لغز الحياة فخانتها الحياة واغتالت لبها. قالوا: إنها عشقت رجلا سحرها فجنت، قالوا: إنها مسكونة بمدينة البيضاء فسكنتها المدينة وأزقتها وحواريها وبحرها وأسرارها، وعندما عقدت صفقة حب معها قتلت المدينة عقلها. هناك مدن لا ترحم من تسكن قلبه.

قالوا: إنها ترفض العودة من حيث أتت، ومن يتنظر امرأة معطوبة مسلوبة الروح منهوبة من كل المعاني ومن كل شىء ولا تعرف من الذاكرة غير النسيان ومن الجمال غير الذكريات ومن الأناقة غير القدم، قالوا: إنها سعيدة بجنونها! وقالوا! أوقفتهم وقلت: آه عمراً قادماً لا محالة ودموعاً تتحول جداول تحفر الخدود وعيوناً تأكلها الأوهام وأحلاماً تسخر منا وأوقعتنا في خطيئة الحياة وأغرتنا، كم يلزمنا من العمر حتى نستعيد بعناقنا قيماً زالت وحضناً يحمينا من برد شتاء قادم، آه يا أميرة البيضاء، يا أسيرة عمران لايدهشك، أدهشني تاريخك السري الذي لا أعرف عنه غير الأساطير، أدهشتني محطة يدك نحوي ، وأتعبني السفر عبرك حتى أصل لمدينة لاتسكنني.
----------------------------------------
* كاتبة من الجزائر

 

 

ندى مهري