اللغة حياة

اللغة حياة

النَحْت اللغويّ ليس صناعة

النحت، كما هو معروف، جعلُ كلمتين أو أكثر في كلمة واحدة طلباً للاختصار والاقتصاد اللفظيّ؛ لكنّ المنحوت قد يأتي مساوياً للأصل إذا شمل لفظتين قصيرتين لا يتجاوز مجموع أحرفهما الأصليّة الخمسة، وهو غاية ما تقبله اللغة العربيّة، مثل الماهيّة، من: ما هو؟ والعنعنة، من: عن وعن..

والنحت، بعدُ، ظاهرة عالميّة، في ما نعرف من لغات، لميل الشعوب إلى الاقتصاد اللفظيّ في ما يكثر استعماله من المركّبات والعبارات، لكنّه يأتي بطريقة عفويّة، موافقاً لطبيعة اللغة ومقاييسها، ومستخَفّاً في اللفظ. وهو في العربيّة ضربان: إضافيّ وجُمليّ؛ يقوم الإضافيّ على حذف حرف صامت أو أكثر من الاسم الأقلّ أهميّة في المتضايفين، ثم تمزج بقيّته بالاسم الآخر، وتزاد عليه ياء النسبة عند الضرورة، بعد إجراء ما يقتضيه الوزن الصرفيّ من حذف الزوائد والتسكين والتسهيل والقصر والإدغام وغيره، نحو: عَبْدَريّ، نسبة إلى عبد الدار؛ ويجري الجُمليّ على الكلمتين الأوليين من الجملة، غالباً، نحو البسملة، من: بسم الله الرحمن الرحيم، أو على الكلمات الثلاث الأكثر أهميّة فيها، بحيث تُختار أقوى الأحرف الصامتة منها، وتوضع في الوزن الصرفيّ المناسب، نحو: الحَوْقَلة، من: لا حَوْلَ ولا قوّةَ إلاّ بالله. علماً أنّ سيبويه خصّ الضرب الأول بالنسبة، وقاسه بوزن جعفر، وأكّد أنّه ليس قياسيّاً. أمّا الثاني فيكثر على وزن الرباعيّ (فعللة)؛ وظنّ بعضهم أنّ منه الملحقيْن بالرباعيّ فَوْعَلاً وفَيْعَلاً، وليس دقيقاً؛ وشذّ نحو: أَيْشٍ، على وزن (فَعْل)، وألفباء، وسامرّاء، إذا صح أنّ أصله «سُرَّ مَنْ رأى»، وليس العكس.

ويختلف العلماء في النحت: هل يجب الاقتصار على ما صاغه القدماء منه أم ينبغي تجاوز ذلك استجابة لحاجة العلوم والفنون الحديثة وما أشبهها؟

والحقيقة أنّ الأمرين مدفوعان؛ لأنّ الواقع اللغويّ أثبت، من ناحية، استمرار النحت في عصور مختلفة تتجاوز عصر الاستشهاد؛ ولأن النحت، من ناحية أخرى، عمل لغويّ عفويّ، وأكاد أقول ارتجاليّ، وليس صناعة علميّة. وحبّذا لو أنّ مجمع اللغة لم يُفتِ بجواز النحت إذا ألجأت الضرورة العلميّة إليه.

ولنمض بعكس المعتاد في البحث العلميّ، بادئين بلغة الحديث اليوميّ، وهي أقرب إلى العاميّة، وبعضها عاميّ خالص، لنعود، بعد ذلك، فنتناول الفصيح من القديم والمحْدَث. ففي لغة الحديث منحوتات استعملها القدماء والمحدَثون مثل: أَيْش، ولَيْش، اللذين اختُصرت فيهما عبارتا: أيّ شيء، ولأَيّ شيء، وجُعلت كلّ منهما كلمة واحدة على وزن «فَعْل». وشبه المؤكَّد أنّ الناحت لم يجلس في مكتبه ولم يعقد مؤتمراً علميّاً ليخترعهما، بل يغلب على المنطق أنّهما جاءتا عفو الخاطر، نتيجة كثرة الاستعمال وعمومه، وتلبية لحاجة الاختصار والإسراع في التعبير، وتخفّفاً من أعباء النحو والصرف.

والعربيّ لم يتورّع عن هذا الأسلوب في التخفّف حتّى في القرآن الكريم، فكان من القراءات ما يسمّى بقراءة الحَدْر، وهي قراءة سريعة يُسمح فيها بالقصر والتسكين وإدغام المتماثلين أو المتقاربين، وتخفيف الهمزة. وما يجيزه العربيّ المسلم في القرآن يجيز أكثر منه، لا محالة، في الحديث اليوميّ، سواء في الجاهليّة قبل الوحي أو في العصور الإسلاميّة؛ فالاختصار سمة طبيعيّة في اللغة تفرضها مخارج الحروف وصفاتها، وتفرضها كثرة الاستعمال أيضاً. ولذلك تبدو المطالبة برد المختصرات العاميّة إلى أصولها الفصحى المفصّلة، كأن نقول: ما عليه شيء، بدل: معلش، ضرباً من مجافاة الطبيعة اللغويّة، وهي تفضي إلى رفض كلّ كلام القدماء، ولاسيّما الحديث النبويّ، الذي ورد فيه مثل المنحوتة أَيْشٍ!

وممّا اختصرته العامّة في مصر المركّبات الإضافيّة المبدوءة بكلمة «عبْد» فقالوا، مثلاً: عَبْعال، لعبد العال (العالي)؛ واختصر اللبنانيّون مِثل سعد الدِين بسَعَدِّين، ومثل بيت الدِين ببْتِدِّين، ونسبوا إليها ببتدِّينيّ؛ وجعل الفلسطينيّون، وربما اللبنانيّون أيضاً، النسبة إلى بلدة «بيت لَهْيا» بَتْلَهِيّاً، أي اختصروا الاسم ببَتْلَهْيا؛ ويزعم ياقوت الحمويّ أنّ أصل الكلمة هو بيت الإلاهة، فيكون الاختصار قد مرّ بمرحلتين: بيت لَهْيا، ثمّ بَتْلَهْيا.

ولذلك نظائر في القديم، فقد رأينا كيف نسب العرب في الجاهليّة والإسلام إلى عبد الدار بعَبْدَريّ، كما نسبوا إلى عَبْد شمس بعَبْشَميّ، وإلى عبد القَيس بعَبْقَسيّ، الخ. وأنّ العباسيّين ربّما اختصروا اسم «سُرَّ من رأى» بسامرّا، ونسبوا إلى المختصر وليس إلى الأصل، وذلك كلّه أيسر من النسبة القياسيّة وأوضح، فالنسبة إلى أحد المتضايفين موضع لبس، وكذلك النسبة إلى فعل «سُرّ». وفي الإسلام عبارات يتكرّر استعمالها في اليوم الواحد عشرات المرات، سواء في الصلاة أو في غيرها؛ مثل آيتي «بسم الله الرحمن الرحيم» و«الحمد لله رب العالمين»، بلفظهما كله، أو بلفظ بدايتهما: بسم الله، والحمد لله؛ وتغدو أولاهما في الكلام السريع: بِسْمِلاّ، وثانيتهما: الحَمْدلاّ، ثم يشتقّ من هذين، عفواً، مصدرا البسْملة والحَمْدلة، وربما فعلي: بَسْمَلَ وحَمْدَلَ. فالاشتقاق لاحق للاختصار العفويّ المرتجل، وليس سابقاً له ولا مستقلاًّ عنه. وقياساً عليه، ربّما نستطيع اليوم نحت لفظة الحَسْقلة من عبارة: «حرية، سيادة، استقلال» التي أكثر اللبنانيّون تردادها في الخطابة والبيانات السياسيّة والإعلام.

لكن لا يساغ النحت من القليل الاستعمال والخاصّ، وغير المحوج إلى الاختصار في التخاطب، مثل مصطلحات العلوم والمهن والفنون. ونضرب على ذلك مثلاً مصطلح «المُجَوْقَل» الذي اختصروا به عبارة: المنقول جوّاً، ولاسيّما في قولهم: القوّات المجوقلة. فهذا المنحوت يخالف طريقة العرب، لأنّه يقلب نظام الأحرف الأساسيّة في العبارة - وتقتضي مراعاة الترتيب لفظ: مُنَقْلَجة، أو مُحمْلجة، عند من يقولون: المحمولة جوّاً - ثمّ لأنّ ورود هذه العبارة في الحديث وفي الأعمال الأدبيّة وما أشبهها، قليل؛ كما أنّ قلّة حروفها، مع انتفاء الضرورة إلى اشتقاق مصدر منها، أو زيادة ياء النسبة إليها، ينفي الحاجة إلى النحت منها. وأسوأ من ذلك نحت كلمات جديدة لتأدية معنى عامّ، مثل فعل «زَحْفَطَ» الذي ركّبه أحد الكتاب من عبارة: زحف على بطنه، وهي تدلّ، عنده، على التذلّل والاستجداء؛ ومثل نحت كلمة الزَمَكان من الزمان والمكان، للدلالة عليهما معاً. على أنّ أحد القصّاصين نحت كلمة متشائل من: متشائم ومتفائل، للدلالة على المضطرب بين التشاؤم والتفاؤل، ويستعملها بعضهم نادراً على سبيل التفكه.

والخلاصة أنّ النحت ليس صناعة يمكن جعلها قاعدة لاستنباط الكلمات، بل هو نتيجة استعمال جماعيّ متطاول تقوم به الأمّة، ويؤدّي إلى الاختصار العفويّ، ويخضع لمقاييس العربيّة وحدها، وغالباً ما يأتي تدريجيّاً؛ وهو لذلك لا يصحّ في ابتكار المصطلحات، إلاّ إذا جاء نتيجة استعمال كثير ومديد، واختصار مرتجل.

 

 

مصطفى الجوزو