جمال العربية

جمال العربية

محمود درويش:
بين جغرافيا الوطن وانكسار الحلم

يلخص شعر محمود درويش، وحياته العاصفة، حقيقة المشهد الفلسطيني: شعرًا ونضالاً، منذ بروز اسم محمود درويش على الساحة الأدبية العربية لأول مرة بعد عام النكسة (1967)، مقرونًا بأسماء سميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران باعتبارهم شعراء المقاومة الفلسطينية. وكان نزار قباني صاحب الفضل الأول في إطلاق هذه الأسماء الجديدة على الأسماع من خلال قصيدته المدوّية التي أنشدها في أول مهرجان شعري عربي أقيم في القاهرة بعد النكسة مباشرة، وكان يقول فيها:

شعراءَ الأرض المحتلة
يا أجمل طير يأتينا من ليل الأسْر
محمود الدرويش سلاما
توفيق الزياد سلاما

كان توجّه المهرجان على ألسنة جميع الشعراء المشاركين: مصريين وعربًا يقوم على رفض الهزيمة وانبعاث روح الأمل في جسد الأمة الجريحة، ويقينها الذي تزلزل. وكانت بشارة الأمل عند نزار تتمثل في هذه الكوكبة من شعراء المقاومة الفلسطينية، الذين تمثلت في قصائدهم ودواوينهم الأولى محاولة رسم خريطة فلسطينية، وجغرافيا فلسطينية، لوطن لم يعد له وجود.

ووجد جمهور الشعر في دواوين محمود درويش الأولى: أوراق الزيتون، وعاشق من فلسطين، وعصافير بلا أجنحة، وأحبك أو لا أحبك، معجمًا شعريًّا جغرافيًّا يُثبّت في الذاكرة أسماء الأماكن والأشجار والطرقات والقرى التي خُلعت عليها أسماء عبرية فضلاً عن مفردات الزعتر والزيتون وخبز أمي وقهوة أمي، والعصافير، والجداول، والتلال، والجبال، والصخور، والكروم، والسنابل، والتنّور، إن هذا العاشق من فلسطين يفرش جغرافيا الوطن الغائب، ويشعل في الذاكرة جمر الحضور:

أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبرُ فيّ الطفولةُ
يومًا على صدر يوم
وأعشق عمري، لأني
إذا متُّ أخجلُ من دمع أمي!

***

خذيني إذا عدت يومًا
وشاحًا لهدبك
وغطّي عظامي بعشب
تعمد من ظهر كعبك
وشدّي وثاقي
بخصلة شعر
بخيط يلوّح في ذيل ثوبك
عساني أصير إلها
إلها أصير
إذا ما لمست قرارة قلبك

***

ضعيني إ ذا ما رجعتُ
وقودًا بتنّور نارك
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدت الوقوف
بدون صلاة نهارك
هُزمت، فردّي نجوم الطفولة
حتى أشارك
صغار العصافير
درب الرجوع
لعشّ انتظارك

كان محمود درويش مهمومًا باستعادة هوّية الأرض، وغرس اسم فلسطين من جديد، واستعادة هوية الفلسطيني العربي، في وجه التهويد والعبْرنة، كان غضبه ساطعًا، وحضوره الشعري والنضاليْ لافتًا، وكان يصيح بملء صوته:

سجّلْ
أنا عربي
ورقم بطاقتي ستون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم سيأتي بعد صيف
فهل تغضب؟

***

سجّل..
أنا عربي
سُلبت كرومَ أجدادي
وأرضًا كنت أفلحها
أنا وجميع أولادي
ولم تُترك لنا، ولكل أحفادي
سوى هذي الصخور
فهل ستأخذها
حكومتكم كما قيلا؟
إذن
سجّل برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على أحدٍ
ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي
حذار، حذار، من جوعي
ومن غضبي!

وكانت مرحلة تأكيد هوية الأرض والإنسان هي التي جعلت محمود درويش يتجاوز كل رفاقه: شعريًّا ووجوديًّا، وهو يلتفت إلى مرحلة العمر، ومسار الإبداع ويقول:

يوم كانت كلماتي
تُربةً
كنت صديقًا للسنابل
يوم كانت كلماتي
غضبًا
كنت صديقًا للسلاسل
يوم كانت كلماتي
حنظلا
كنت صديق المتفائل
حين صارت كلماتي
عسلاً..
غطّى الذباب
شفتيّ

في التسجيل التليفزيوني الوحيد الذي أجريته مع محمود درويش، بعد أن قام بمهمة التعريف بيننا الناقد الدكتور غالي شكري، كان درويش في أحد ملتقيات المجلس الأعلى للثقافة منذ أكثر من عشرين عامًا في مقره القديم، وبعد انتهاء إحدى الجلسات تآمرنا أنا وغالي على اجتذابه إلى إحدى حجرات المجلس لتسجيل حوار تلفزيوني معه، من دون ديكور أو ترتيبات إضاءة، ونظر درويش إلى ما حوله مستريبًا، وحين شرح له غالي أن البرنامج الذي سنسجله «الأمسية الثقافية» هو أهم برنامج ثقافي في التلفزيون المصري، انبسطت أساريره، حتى فوجئ بسؤالي الأول والصادم: «هل أصبحت القضية الفلسطينية قيدًا على حركتك وحريتك كشاعر؟ وهل أصبحْتَ سجينًا للهمّ الفلسطيني؟» تردد قليلاً، ثم قال: «هذا سؤال شاعر لا سؤال محاور. أنت الآن تتسلل إلى داخلي. إني أحاول جهدي أن أحقق مغامرتي الشعرية دون أن أتجاوز أفق القضية، والقضية نفسها مفتوحة بلا نهاية، تتغير وتتجدد موجاتها باستمرار. ليس هناك ثبات أو جمود، وأنا بدوري أتغير وأتجدد. لا تنْسَ أنها القضية منحتني شهادة ميلادي الشعرية، وبطاقة هويتي إلى العالم، وسوف أتابع ما بدأته بلا ندم أو توقف». كانت هذه الإجابة لمحمود درويش سابقة على حدوث كارثة «أوسلو» التي لا تقل في آثارها المدمرة عن النكبة والنكسة. وبدأ الحلم الذي كان يخايل محمود درويش يتأرجح، ويشي بالاختلاط والفوضى والانتهازية . كان يقينه الثابت والدائم أن الوجود الإسرائيلي الصهيوني هو وجود عابر وزائل، ومهما طال أمد الصراع، ورجحت كفة الاستعمار الاستيطاني فمآله إلى زوال. من هنا ، كانت لطلقته الشعرية النافذة «عابرون في كلام عابر» آثارها المزلزلة في صدور قادة الكيان الصهيوني، وكان «شارون» أشرسهم تعبيرًا عن غضبه من قصيدة درويش التي قالت كل شيء دون أن يستطيع إدانتها بكلمة أو عبارة:

أيها المارّون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا
وانصرفوا
واسرقوا ما شئتمو من صورٍِ
كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا
سقْفَ السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرةَ
منكمو السيف، ومنّا دمنا
منكمو الفولاذ والنار، ومنّا لحمنا
منكمو دبابة أخرى، ومنّا حجرٌ
منكمو قنبلة الغاز ومنّا المطرُ
وعلينا ما عليكم من سماءٍ وهواء
فخذوا حصّتكم من دمنا،
وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقصٍ
وانصرفوا
وعلينا نحن أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا نحن أن نحيا كما نحن نشاء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المرّ، مرّوا أينما شئتم
ولكن، لا تمرّوا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في أرضنا ما نعملُ
ولنا قمح نُربّيه ونسْقيه ندى أجسامنا
ولنا ما ليس يُرضيكم هنا:
حجرٌ أو حَجلُ
فخذوا الماضي إذا شئتم
إلى سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظميّ للهدهدِ
إن شئتم على صحن خَزفْ
فلنا ما ليس يرضيكم:
لنا المستقبلُ
ولنا في أرضنا ما نعملُ
أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدّسوا أوهامكم في حجرة مهجورةٍ
وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلى شرعية
العجل المُقدّس
أو إلى توقيت موسيقى المسدّس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا،
فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم وطن ينزفُ
شعبًا ينزفُ
وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن
لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم، ولكن
لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعملُ
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الماضي، لنا الحاضرُ والمستقبلُ
ولنا الدنيا هنا، والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برّنا، من بحرنا
من قمحنا
من ملحنا
من جرحنا
من كل شيءٍ، واخرجوا
من ذكريات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة!

السؤال الذي راوغ محمود درويش وابتعد عن الإجابة المباشرة عنه، وجد إجابته الشعرية في دواوينه الأخيرة، عندما بدا وكأنه يستبق الرحيل، وينتظر النهاية، بعد أن أدرك أن القضية كلها ترحل، وتنتظر النهاية. ورأى بعينيه صراع الفرقاء على الغنيمة، والغنيمة جثة يقتاتها أبناؤها المسعورون تحت مُسمّيات شتى. الحضور الكامل الآن في المشهد هو للموت والعدم والشرذمة والتشظي والوحشية، والغياب الكامل الآن هو للوطن والأرض والحلم والغد. إنه الشاعر الرائي الذي يرى الأفول منذ أكثر من عشرين عامًا، وهو يقول نازفًا:

وأريد شيئًا واحدًا لا غير
شيئًا واحدًا
موتًا بسيطًا هادئًا
في مثل هذا اليوم
في الطرف الخفيّ من الزنابق
قد يعوّضني كثيرًا أو قليلاً
عن حياة كنت أُحصيها
دقائق أو رحيلا
وأريد موتًا في الحديقة
ليس أكثر أو أقلّ!

لذا، فإن الديوانين الأخيرين لمحمود درويش يكشفان عن الشاعر والإنسان، لاعب النرد: «حياته كُلّها رميات زهر متعاقبة كان يمكن أن تغير حياته أو تعجّل بموته.» لقد اختفت مفردات فلسطين ومعجمها في الجغرافيا والتاريخ، وتحرر الشاعر أخيرًا من عبء القضية الذي ألهمه وأعاقه، حقق له حضوره وقيّده بحدوده. القضية الآن حياة بكاملها، ووجود بكامله، ومواجهة مع القضايا العظمى حين يتسع الأفق الكوني، ويطل محمود درويش قرب ساعة الرحيل على فضاء العدم:

ومن حسن حظّيَ أني أنام وحيدا
فأصغي إلى جسدي
وأُصدّق موهبتي في اكتشاف الألم
فأُنادي الطبيب قبيل الوفاة بعشر دقائق
وأُخيّب ظنّ العدم!

لقد انصبّ شعر محمود درويش كلُّه على حضور الحياة، وتأكيد معنى الأمل وولادة المستقبل، لكن المخاض الهائل الذي واجه الثورة الفلسطينية بفعل أبنائها أنفسهم ولايزال، يوشك أن يقطع الخيط الرفيع الباقي بين الحياة والعدم.

وسيبقى دومًا جمال شعر محمود درويش وجلاله، في بساطته وعمقه معًا، في شفافيته وتعدّد طبقاته معًا، في غنائيته ورمزيته معًا، في عروبيّته وانفتاحه على شعر الدنيا معًا.

--------------------------------------------

هنالكَ والنبعُ ساهٍ حزيـنْ
كحُلمٍ تخطاهُ صحوُ الجفونْ
رأيتُ الخطايا عرايا تسيرُ
وتنسلُّ من أعينِ التائهيـنْ
وتزحف حيّاتها في الدروب
لتنهشَ بالتيهِ ظلَّ السكونْ
وتبذرُ فيه عواءَ الرياحِ
وتسقي أعاصيرها بالجنونْ

محمود حسن إسماعيل

 

 

فاروق شوشة