إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

شابلن أكل حذاءه!

يطبخ «شارلي شابلن» في فيلم «الذهب الروسي» فردة حذائه لصديقه المُشرَّد الذي تخيَّل تحت قرْصة جوع معدته «شارلي شابلن» وقد تحوَّل إلى دجاجة بريش كثيف. يجلس الصديق المُشرَّد إلى المائدة بعينين مُتلهفتين، ويقف «شارلي» قريباً منه، أمام الإناء الكبير يقلِّب فردة الحذاء، اليسرى على ما أعتقد، وتحت ضغط العينين المُتتبعتين يأتي «شارلي» إلى المائدة حاملا فردة الحذاء يتصاعد منها البخار، ويبدأ في تقطيعها بكل البروتوكول المُتَّبع من سن سكين التقطيع وتهيئة سرفيس المائدة وتقسيم الحذاء إلى وجبتين، ظهر الحذاء، وباطنه، وبلمحة لياقة ساخرة من «شابلن» يختار لصديقه لحم ظهر الحذاء الأكثر ليناً، مع الاحتفاظ بحق الصديق في تغيير رأيه إذا أراد لحم بطن الحذاء الأكثر سُمكاً. لا يبقى لإقناع الصديق المُشرَّد بصلاحية الطعام سوى تناول الطعام، ومن ناحيته يبدأ «شارلي» في تقطيع ستيك النعل السميك، ثم قضم القطع الصغيرة مع مصمصة عظام المسامير الرقيقة. هذا هو أشهر مشهد في فيلم «الذهب الروسي». كثير منّا يتذكر هذا المشهد، فهو مشهد لا يُنسى، بسبب الاستخدام البارع للحذاء، وكأنّ الحذاء حقاً صُنع كي يُؤكل. يشبه هذا المشهد أيضاً في أيقونيته مشهداً آخر في فيلم «العصور الحديثة»، عندما تم اختبار آلة الطعام، التي من المُفترض أنها توفر الوقت، على «شارلي شابلن». أخرج الممثل «رتشارد أتنبرو» فيلماً عن «شابلن». وكانت ابنة «شارلي شابلن» الممثلة المنطفئة بامتياز «جيرالدين شابلن» تقوم في الفيلم بدور أم «شارلي شابلن». ظلت المفارقة معي سنوات. الابنة هي الأم في الوقت ذاته. ولمَّا كانت الحقائق الواقعية تستوي عندي مع الحقائق الخيالية، فقد بقيتْ المفارقة تضغط على عقلي من حين إلى آخر مثل أعراض مرض يزدهر بشكل دوري، وبصرف النظر عن تفكير «أتنبرو» في المفارقة، وبصرف النظر أيضاً عن معناها الفرويدي، وهو بالمُنَاسَبَة من أضعف المعاني وأكثرها فقراً، فقد بقيتْ المفارقة تحمل لي معنى قدرياً غامضاً إذا أردتُ التحديد. كنتُ أفكِّر هكذا. هل كانت «جيرالدين» تعرف أنها ستقوم في يوم ما بدور أم الأب؟ والسؤال ذاته كنتُ أوجهه بشكل معكوس وبأثرٍ رجعي إلى «شابلن». وكانت كل الإجابات المنطقية هي ما أزهدُ فيها، ومع هذا لم أكن أتخيَّل إجابةً أخرى. عند «جويس» في «عوليس» شيء من هذا القبيل. يستخلص «ستيفن ديدالوس» بطريق المعادلات الجبرية على حد تعبير «بوك ماليجان»، صديقه الطبيب الذي كان ظهوره في أول الرواية عاصفة رومانية من الفرح المشمس ثم انطفأ في ظهوره الثاني بعد صفحات كثيرة، أن حفيد «هامليت» هو جد «شكسبير» وأنه هو ذاته شبح والده نفسه. وفي هذا العالم الذي تستوي فيه الحقائق جميعاً على قدم المساواة يبقى المعنى مُغامَرة، ولعبة تباديل وتوافيق لا تنتهي.

 

 

مصطفى ذكري