عزيزي العربي

عزيزي العربي

النفس وأزمة التقاعد

قرأت في مجلة العربي العدد 599 الصادر في شهر أكتوبر 2008م موضوعاً من الموضوعات اللافتة للنظر (النفس وأزمة التقاعد) للكاتب د.محمد حسن غانم. تناول فيه كاتب الموضوع الأزمة النفسية التي تنشأ لدى الفرد عقب إحالته للتقاعد (المعاش) الإجباري بسبب تقدم العمر أو ربما لعلة أخرى. يوجد العديد من الأزمات في حياتنا التي نعيشها فهناك الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية... كذلك توجد أزمة نفسية قد تتفاوت وتتدرج من حيث البساطة (أزمة نفسية بسيطة) والحدة (أزمة نفسية حادة)، فمن الأزمات ما يحتاج معه المريض إلى ملازمة سرير المستشفى فترة من الزمن، ومنها ما لا يستدعي أكثر من المواساة للتخفيف من أثر الأزمة. أما الأزمة التي يدخل في غياهبها المتقاعد فهي تعتمد على الظروف المحيطة بالمتقاعد إذ ربما تسبب له الكثير من الاضطرابات النفسية والبدنية كما أن بإمكانه أن يتجاوزها بكل يسر وسهولة. وقد قيل قديماً: إن كل شيء يولد صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة تولد كبيرة ثم تصغر، كذلك يكون شعور المتقاعد في أول الأمر ثم يتناقص تدريجياً إلى أن يتوافق الفرد مع ظروف حياته الجديدة. لا شك أن هناك العديد من العوامل التي قد تتجمع حول الفرد مسببة له نشوء أزمة نفسية، وفي اعتقادي أن الأزمة النفسية لدى كثير من المتقاعدين تنشأ حينما تتوافر بعض العوامل المساعدة التي قد تعمل على تفاقم الوضع الذي يؤدي بدوره إلى إشعال جذوة الأزمة النفسية بين ضلوع المتقاعد:

1 - القدرة على العطاء: تنشأ الأزمة النفسية حين يشعر المتقاعد بأنه قد تحول إلى طاقة متعطلة، لاسيما إن كان يحس في دخيلة نفسه أنه لم يزل قادراً على العطاء بالرغم من بلوغه السن المعاشية أو التقاعدية.

2 - الفقر والحاجة: كذلك تشتعل جذوة الأزمة النفسية حينما يكون المتقاعد من الفقر بحيث لا يستطيع تحمل نفقات المعيشة وتكاليف الحياة المتصاعدة مع الأيام؛ عند ذلك يلازم المتقاعد شعور قاس بالعجز، وهو شعور شديد الوطأة على النفس الإنسانية، خاصة أنه لا يملك له دفعاً ليدفعه عن نفسه، ومن أقسى ما يسبب للفرد الآلام في حياته الإحساس بالعجز عن تحقيق أبسط متطلبات الحياة من مأكل ومشرب أو ملبس أو مسكن، سواء كان ذلك للفرد نفسه أو لمن يعوله من أفراد أسرته.

3 - الشعور بالوحدة: ولا ننسى الألم أو الآلام النفسية التي تنشأ عن الشعور بالوحدة؛ إن لم يكن للمتقاعد من يؤنس وحدته ويشاركه في تخفيف الألم الناجم عن هذا الإحساس الجديد وهو الشعور بالوحدة، ويتصاعد هذا الإحساس عند المتقاعد في الصباح؛ وذلك حين يرى الجميع وهم في طريقهم للعمل الذي فقده هو ولم يعد يملك أن يعود إليه.

4 - الشعور بالإحباط: يتملك المتقاعد شعور وإحساس بالإهمال بعد أن كان بالأمس القريب محط أنظار الجميع الذين يتنافسون على كسب وده ونيل رضاه، ليجد المتقاعد نفسه، بعد التقاعد، وقد أصبح نسياً منسياً حتى من أقرب الناس إليه: أفراد عائلته، وأصدقائه.

5 - المفاجأة وعدم التخطيط: من الملاحظ أن دوامة العمل وزحمته قد تأخذان الفرد حتى أنه ينسى نفسه إلى أن يفاجأ بأنه قد بلغ سن التقاعد دون أن يشعر، وبالتالي لم يخطط لهذا اليوم الذي ظن أنه لن يأتي أو أنه على أسوأ الفروض بعيد ولن يأتي في القريب؛ لذلك لم يعد العدة لمواجهة مثل هذا الموقف الجديد، وكيف سيتعامل معه؛ الأمر الذي سيسبب له أزمة نفسية ليست من السهولة بمكان في المستقبل.

6 - الفراغ والشعور بالملل: قد يشكل الفراغ الكبير في حياة المتقاعد نوعاً من الصدمة القوية تجعله يشعر بكثير من الملل؛ خاصة إن لم يهيئ نفسه لمثل هذه الظروف المستجدة على حياته ليتوافق مع ما طرأ على حياته من تغيير كبير لابد وأن يكون له أثره الواضح على سلوكه؛ مما سيشعره بالضيق والتوتر ويسبب له بعض إن لم يكن الكثير من الشعور بالقلق النفسي.

7 - المرض: تعد الشكوى من الإصابة بالأمراض البدنية واحدة من أبرز سمات المتقاعد سواء كانت تلك الشكوى من علة بدنية حقيقية، وهو أمر وارد بل وحتمي مع تقدم العمر، أو كانت ناشئة عن علة نفسية سببها التقاعد من العمل، حيث يشعر المتقاعد بالحاجة إلى الشعور بشيء من العطف ليتمكن من مواصلة مشوار حياته الجديد.

8 - الموت: كلما تقدم العمر بالفرد شعر باقترابه من الموت ودنو الأجل منه، وهو شعور قد يراود الكثير من أفراد المجتمع من المتقدمين في السن. وحتى نتفادى شبح هذه الأزمة النفسية الناشئة عن التقاعد الإجباري من العمل أو أي أزمة نفسية أخرى ناجمة عن أي من الأزمات التي قد تعتري الفرد في أثناء مسيرته. علينا أن نتشبث دوماً بأهداب الأمل وأن نجعل من إيماننا بالله سياجاً نحتمي به من كل ما يعترينا من أزمات، ويرشدنا القرآن الكريم إلى التمسك بالأمل وعدم اليأس من رحمة الله، يقول تعالى: ... وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ .

يقول الشاعر:

ولربّ نازِلة يَضيق بِها الفَتى
ذَرعاً وَعند اللَّه مِنها مَخرَج
كَمَلَت فَلَمّا اِستكملَت حَلَقاتُها
فُرجت وَكانَ يَظُنُّها لا تُفرَج

د. حسن محمد أحمد
سوداني مقيم بالسعودية

حالة ولادة متعسرة

لا مفر من أن أطردك لأحميك وأنفصل عنك لأحافظ عليك. أنا أشعر بك كلما أوشكت على الإفلات من أسري، عدت لتسبح في ظلامي، يضيق عظمي برأسك وتعجز قواي عن دفعك.

نبضي يزداد صعوداً والعرق يتفصد من جبيني بارداً، تنفسي صار أسرع وجفناي يزدادان ثقلاً، ووعي تشوشاً. المولدة ترجونـــي أن أساعدك والطبيـــب رشق الإبرة في ذراعي وأوصلني بسائل معلق وقال إنه سيجعلني أستعيد طاقتــــي لدفعك، مازلت بحاجة لمساعدتي وطاقتي:

دعني أتحسسك بداخلي وأمرر يدي عليك، بقاؤك بداخلي سيؤذيك، حياتك في خروجك مني، بقاؤك في داخلي سيؤذيني، حياتي في خروجك مني.

لو تعرف كم أحبك، كم أشعر بك، شعرت بك منذ نبتت خلاياك في لحمي، آمنت بوجودك حتى قبل أن يجزم الطبيب أني أحملك. وعندما انتابني النزف أول عهدي بك، جلسوا حولي مثلما هم الآن وقالوا:

- لا تبكي، لا تحزني، سيعوضك الله خيراً منه.

وحدي آمنت بوجودك وقت لهم: إني لأجد ريحك فسخروا مني، حتى جاء البشير بنتيجة التحليل وأكد لهم أنك لاتزال حياً بداخلي وأن النزف لم يكن إجهاضاً وإنما كان منذراً. وضعت الإنذار نصب عيني واجتهدت لأحافظ عليك، رأيتك تكبر بداخلي يوماً بعد يوم، فَرِحْت بك وانتظرتك حتى جاءت اللحظة فخانتني قواي. لابد أن تخرج، أريد أن أراك، أن أسمع صرختك، أرى ضحكتك، أضمك إلى حضني إلى جوار قلبي، ألصق خدك الصغير بخدي، أتلمس جلدك الرقيق بيدي، أطعمك لبني لتكبر وأحميك حتى تستغني عني.

هل تسمعهم؟ يقولون إنهم يرون شعرك وأن رأسك انحشر في عظامي، هل تقدر أنهم قد يقطعون لحمي ليتسع مجرى خروجك، أوبعد كل هذا العناء يشقون بطني ليخرجوك خشية ألا يدركوك. هل أنت خائف؟ هل اشتد بك الضيق؟ وفاق احتمالك الكرب؟ هل طالك اليأس فقررت الاستسلام؟

أظننت أن هاهنا قبرك وأن الظلام هو آخر عهدك بالحياة؟ هل فقدت أملك في النور ولم تعد تشتهي الهواء؟

هل وصلت الشدة إلى قمتها والعسر إلى أقصى مداه؟

لا تخف.. سأساعدك.

هي صرخة..

لا أملك من طاقتي جميعاً إلا صرخة..

سأمنحها لك.

فإما أن تكون صرختي الأخيرة..

أو نحيا معاً!

دعاء سيف - مصر

توثيق كرامتنا هو أقصى تحدياتنا

الأستاذ د. سليمان إبراهيم العسكري رئيس تحرير مجلة العربي

أشكر لك حرصك على مناقشة موضوعات لها مكانتها من الأولوية والأهمية، وأجدك باعثاً ومستنفراً لثقافة الحوار وأجدني وكثيرين مثلي نرغب ألا ينتهي الموضوع عند حد قراءته بل التعليق عليه بكل المودة والمحبة. وفي مقالكم الشهري بعنوان «في الثقافة العربية المستجدات والتحديات» بالعدد 600 نوفمبر 2008 من العناصر والأبعاد ما يستحق الإشادة والإعجاب ويستوجب التعقيب الموجز بلا إطناب:

الثقة بالنفس والاعتداد بالتراث وتكثيف الجهد والإصلاح مع التحلي بثقافة الاعتراف ونبذ الانحراف والتأسيس للشموخ بترسيخ القيم وشحذ الهمم ابتغاء الصعود وإحداث الصحوة والنهوض بالانعتاق من إسار الاستسلام إلى آفاق الانطلاق للأمام. وتلك مجتمعة تشكل تحديات إن أنجزناها حققنا فوزاً يصوغ طاقة نماء وارتقاء ويرتب قدرة على التعامل مع الحداثة وما تحويه من مستجدات على نحو من التفاهم والتكيف دونما تناقض أو صدام. وبغض النظر عما يثار من اتجاهات الاحتواء ودعاوى الانضواء بزعم العولمة وهي منها براء خاصة إذا كان السياق ثقافيا والمجال فكريا والمحتوى ذهنيا والاستقبال اختياريا، فلسنا مرغمين على أن نقبل ما نأباه أو نتعلق بما نكره أو نقلد ما لا يتفق وهوانا وإن كان ذلك لا يمنع أو يتعارض مع أن نتعلم المفيد ونلم بالجديد وندعم المزج الحضاري بالاستيعاب الجيد والفهم الواعي والإدراك المفيد بلا إخلال أو تقصير بل بتبصر وتدبر.

وثمة ما يشوب ثقافتنا من أخطاء نرتكبها وأخطار نرتادها بغير أن نتحسب لها في مقدمتها قضية اللغة العربية، التي تعاني صراعاً حاداً بين اللهجات العامية والفصحى وبحيث يتاح للعامية كمظهر للتفكك والتشرذم أن تنال فوق قدرها على حساب الفصحى من خلال ما تشغله من مساحة على صعيد الإعلام عامة والتعبير المسموع والمتداول خاصة ويتبدى ذلك في استشعار الغربة حيال عدم القدرة على التفاهم عبر الوسائط الإعلامية بين شعوب الوطن العربي، وفي ذات الوقت فإن الفرانكوفونية والإنجليكانية أي شيوع وسيادة اللغة الفرنسية أو اللغة الإنجليزية وتبوؤها مقعد اللغة الرئيسة في بعض الأقطار ما يحسب بكشف خسائرنا. وذلك تحد يفرض دوراً ومهمة للانعتاق والتحرر وإن مثل لدى البعض جسراً للتواصل مع الغرب وثقافته لدرجة أن بعض الكتّاب العرب يكتبون ويؤلفون باللغة الأجنبية ويخاطبون عقول الأغيار ويفوتهم أن ينقلوا للعربية عنهم بالترجمة بالقدر الذي يجعلنا أقرب إليهم.

وفي كل الأحوال فلسنا منغلقين على ثقافة الغرب وتشهد بذلك مدارس اللغات التي عمّت كل الأرجاء واشتملت كل الأعمار من الحضانة إلى الجامعة، فضلا عن المشاركة الفاعلة في المؤتمرات والملتقيات والمعارض الثقافية وبما يعني السباحة في محيط العولمة والمهم ألا تغرقنا دواماته أو تطيح بنا أمواجه إن زاد النقل وتعطل العقل وتقاعست جهود المجامع اللغوية عن تطويع الفصحى وضخ المرونة والعذوبة في مفرداتها نطقاً وإفصاحاً.

وبالمناسبة فإن الاهتمام بالترجمة سبيل للعبور وطريق للربط وهذا واجب المؤسسات الثقافية ومن مسئولياتها. والمعيار الآخر هو ضآلة تداول المعرفة وعدم الحرص على بثها ونشرها ووجود نظام الرقابة على المطبوعات وكم نتوق لمساحات أكبر تستقبل الأفكار وترحب بالحوار وتجسد المشاركة باقتدار وتمنح الفرصة للعقل العربي كي ينفتح على الآخر بما يثمر وينفع وفتح سبل التحصيل بإشباع واقتناع. وعلينا ألا نقسوا على ذواتنا مستهينين بقدراتنا وملكاتنا وفينا عقول لها وزنها وأفكار لها ثقلها وتتحين الفرصة لتفعيلها والاستفادة بها.

إن الحرية بمعناها الواسع والسعي لتأكيدها وغرس مبادئها يبرز في عملنا وتعاملنا وينعكس ذلك على الحس القومي وإثراء كرامتنا الصامدة على أمل التماسك والتلاحم حتى لا تخضع لأي توصيف سوى كونها محركا لكيان نابض ناهض صادق يضيف إلى المكون الثقافي الإنساني بما يجعلنا أهلا للتقدير والاحترام، وقد كنا كذلك لقرون فلنعد.. والعود أحمد.

السيد حسين العزازي
الإسماعيلة - جمهورية مصر العربية

عن العدوان الثلاثي وقرطبة!

لاحظت في صفحة 201 من العدد 599 خطأ لا يجوز السكوت عنه، حيث ذكر محرر هذه الزاوية في آخرها: «طائرات بريطانيا وفرنسا تغير على المطارات والمدن المصرية لإرغامها على فتح قناة السويس..»، يقصد هنا إرغام مصر وليس مطاراتها ومدنها! وهذا بعينه غير صحيح، حيث إنه بداية العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه إسرائيل، وكان الهدف الرئيسي من هذه الحملة هو إزاحة الرئيس جمال عبدالناصر أو قتله لدوره في إذكاء مقاومة الاستعمار الغربي ودعوته لتوحيد العرب واستعادة حقوقهم المسلوبة.

كما ألفت انتباهكم الكريم إلى ما نشر في صفحة 211 من العدد 599، حيث ذكرتم أن قصر الحمراء يقال إنه اتسع لكامل سكان قرطبة وقت بنائه. وأقول أن قصر الحمراء بني في غرناطة وليس في قرطبة. ومن ذاكرتي أن الصورة للجامع الكبير في قرطبة، حيث زرتها عدة مرات وكذلك قصر الحمراء في غرناطة. كما أتساءل ما مناسبة ذكر أشبيلية 30 / 10 / 1965، حيث لم يبق من أشبيلية إلا حينئذ «الخيرالدا» وتقع بين قرطبة شمالا وغرناطة جنوبا.

عبدالعزيز محمد العمري
الطائف - السعودية

  • المحرر: نشكر القارئ الكريم علي دقة ملاحظته، ونعتذر عن أي قصور غير مقصود.

وفاءً لذكْرى أمَل دنقل

في مقالته الرائعة بوفائها الشفيف: «الجنوبي»، كتب الدكتور جابر عصفور في العدد (598) لشهر سبتمبر 2008، عن آخر إبداعات الشاعر العربي الرّاحل أمل دنقل، ملابسات كتابتها، وعلاقته بأمل، وأصدقاء الدرب المعتم. لا أنكر أن مقال الدكتور جابر عصفور، ومقالين آخرين دفعاني إلى إعادة قراءة أوراق الغرفة «8»، وهي الغرفة التي أقام فيها أمل دنقل أكثر من عام ونصف في معهد السرطان، فوجدت فيها ذلك الوعي الشقيّ والحادّ لدى المبدع المرهف الإحساس، الذي يدرك بحدسه أنّ أيّامه في الدنيا صارت معدودة، وألفيتني مشدوهًا أمام صورِه الشعرية النابضة: هل أنا كنت طفلا...أم أن الذي كان طفلا سواي؟ وهو الجنوبي الذي يخشى قنينة الخمر والآلة الحاسبة، ويشتهي أن يلاقي «الحقيقة والأوجه الغائبة»، ولعلّ قصيدة «الجنوبي» عكس بقية قصائد الغرفة «8» موغلة في الأسى والانهزامية، كأنما الشاعر يرفع الراية البيضاء، وينتظر مصيره المحتوم. وبالرغم مما قيل عن أمل دنقل، ونعته بالشاعر الصعلوك، فقد بقي وفيّا لقضية شعبه، للبسطاء الذين كان واحداً منهم، عميق الارتباط بوعي القارئ ووجدانه، كما تشي بذلك قصائده اللاذعة، عفوية التعبير، دون الاختباء خلف بهرجة الألفاظ، وتزييف الحقائق، كما يفعل الكتبة والمتشاعرون. في «زهور»: كتب برهافة الشاعر الذي يلتقط كل ما هو منسيّ ومهمّش في الحياة اليومية، ولا يهتم به الآخر. كتب عن الزهور التي تجود بأنفاسها الأخيرة، ما «بين إغفاءة وإفاقة»، يستحضر رحلة الموت، التي تبدأ بقطفها، وانتزاعها من عرش جمالها، وتحويلها إلى مجرد شيء للزينة، يخضع لمنطق البيع والشراء، في زمن تعليب وتسليع كل شيء!! «ديسمبر»: يشبه الشاعر الموت بطائر الرخ، الذي تهديه الراهبات التوابيت و«المبادلة الخائبة»، يحبّ ظلمة العدم الآسنة، يتلقى النفايات تلو النفايات من دون كلل، ولا يحب المطر، ولا أن يتطهر بـ«الرقة الفاتنة». ديسمبر، إنه شهر الوداع والرحيل، ويثير في النفس شجنًا وأسى غامضا لدى الأسوياء، بالأحرى شاعر عليل يترقب لحظاته الأخيرة.الجدير بالذكر أن شاعرنا كان ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، وقصديته الشهيرة «لا تصالح» خير دليل إثبات، وكذلك قصيدته التي أدان فيها الهوان العربي والإحساس العام بالانكسار «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة». كانت قضيته الأولى والأخيرة هي الحرية، فعاش عاشقَاً لها، ممتلئا بحب الحياة والشعر أيضًا.

هشام بن شاوي - المغرب

وتريات

حكاية الأحرف والأستاذ

في أول صف
قال لي الأستاذ اقرأ..
ألف/ باء / تاء / ثاء
ثورة.. ضد
القهر والفقر
والعتمة والطغيان..
وأعلام سواريها منكسرة
ارتضت حضن الوحل
.. بدل الأفق
دفنت رأسها بالتراب
كالنعام
وحضارة تبتلع قبس
بقية الحضارات
تنفرد بهذا العالم
تقاسمه
الخبز والدار
تفرض حديث القوة
تدير الحوار!
ثورة الأحرف..
لا تعرف معنى الانطفاء.. ولا
السقوط في الهاوية
ولا زي العار
قالها لي أستاذي... لننقشها
في صدر الوقت
وماضي
شكل بدايات الكون
جيم / حاء / خاء
خضّب يديك بطهارة المحابر
وارسم بالأقلام البسمة بدلاً من
لون النار.. وألق بالحزن على
قارعة الطريق
واكتب اسمك.. واعرفه جيداً
ولا تنس بقية الأسماء
وإن خضت مغامرات
المراهقين.. وإن وضعت
في مفترقات الطرق
ومتاهات المرايا..
وإن أغلق أحدهم عليك باب الكهف
لا تيأس.. لا تستنجد
بكلاب الصيد
دال / ذال /راء / زاي
زين بالحب عينيك
واجعل لهما بريق
لا يشيخ.. واخلع مسماراً صدأ
عن الجدران والقلوب والأبواب
وانفض الغبار عن صفحات العمر..
كون من هذه الأحرف
الحرية.. وشمساً وقمراً وغداً بأحلى الألوان
سين / شين / صاد / ضاد
ضمد جراحك بنفسك... وثابر
وامشِ على الجمر
بدلا من أن يأتيك وقت
نفط مقابل شربة ماء
وإياك أن تقول آه
فهي بداية السقوط
واغرس سيف القلم
في صدر الأعداء..
وألقِ أحرف الحق في عيونهم
تصبح نار ورماد
طاء / ظاء / عين / غين
غني..
في كل الفصول
فهي ملكك
وغرد بصوت عذب
أغاني البراءة
والإنسان
وحب الوطن
وتعلم كيف تعشق
وكيف تكون بلا أغلال
فاء / قاف / كاف / لام
..لا
تخش
الأمس..
ولا القوة
ولا السجان..
اخش صديقاً جاهلاً
ونفساً تستقبل شهيتها
كل الآثام
ميم / نون / هاء / واو / ياء
يا تلميذ هل استوعبت الدرس؟
أم أركنه على ضفاف
مهب الريح حتى العام القادم

أسماء سعد محمد صالح - الكويت