إبراهيم المعلم وجهاد فاضل

إبراهيم المعلم وجهاد فاضل

احترام حقوق الملكية الفكرية هو نوع من احترام الإنسان

  • في غياب الإحصاءات عن حالة النشر العربي من الصعب أن تصدر أحكاما موضوعية.
  • أن يكون هناك بلد لا يطلع على الكتاب ولا يشتريه أو يفكر في شرائه إلا في معرض سنوي فهذا أمر لايعرفه العالم.
  • المثقفون العرب يتحدثون أكثر من لغة .. واحدة في صالوناتهم وأخرى في تلفزيونات بلدانهم.. وثالثة في كتبهم.

في بعض الأوساط الثقافية العربية قلق على مستقبل الكتاب الورقي من التهديد الذي يوجهه إليه كتاب آخر مستحدث اسمه الكتاب الإلكتروني.وفي أوساط ثقافية وغير ثقافية, عربية, ملاحظات كثيرة حول قطاع النشر العربي, وما إذا كان هذا القطاع في جوهره يضطلع برسالة تنويرية ويقوم بدور نهضوي في حاضر العرب أم أنه مجرد قطاع تجاري.

أسئلة كثيرة تتصل بواقع النشر العربي وواقع الثقافة العربية, وهما متلازمان ومتكاملان, يجيب عنها في هذا الحوار إبراهيم المعلم, رئيس اتحاد الناشرين المصريين, ورئيس اتحاد الناشرين العرب, وصاحب دار الشروق, في الأصل, والذي أمضى 35 سنة حتى اليوم في قطاع النشر.

في هذا الحوار يقول إبراهيم المعلم إننا لا نحتاج إلى ثورة ثقافية أو تنويرية وحسب, بل إلى عدة ثورات منها ثورة في الديمقراطية, وأخرى في حقوق الإنسان, وثالثة في احترام حقوق الملكية الفكرية التي يشكل الاعتداء عليها اعتداءً على الجهد البشري, ونوعًا من التخلف الحضاري, والجريمة المنظمة.

ومن هذه الثورات المطلوبة التي يذكرها رئيس اتحاد الناشرين العرب في حواره, ثورة في عالم الكتاب العربي بالذات. ذلك أن الكتب العربية التي ترتفع بمستوى الإنسان وبروحه وعقله وعلمه, كتب نادرة جدًا. وهناك أمور أساسية أخرى لابد أن نلتفت إليها منها المناهج الدراسية والكتاب المدرسي.

على أن كل ذلك لا ينفي أن اهتمام وسائل الإعلام العربية بالكتاب, أقل من المطلوب بكثير. (نحن ندّعي طوال الوقت أننا أهل فكر وأهل كتاب, وأن الآخرين أهل مادة, ثم نجد في تصرفاتنا, ما يفيد العكس) وقد أجرى الحوار معه الكاتب والصحفي اللبناني جهاد فاضل.

  • بدأ الحوار مع إبراهيم المعلم بالسؤال التالي: قبل سنتين أو أكثر كنتم من المتحمسين للكتاب الإلكتروني, فهل مازلتم على هذه الحماسة? وأي مصير تتوقعه لصراع الكتابين الورقي والإلكتروني مستقبلاً?

- في بعض الفترات ينشأ عندنا نوع من المعارك الافتراضية وشعور بوجود شيئين متضادين متصادمين ليس بينهما صلح أو لقاء. وكأن المعركة بينهما لابد أن تسفر عن غالب ومغلوب, وكأن هناك وجهتي نظر في الأمر وليس أكثر.

- أولاً هناك وجهات نظر كثيرة في هذا الموضوع, ونقاط أساسية لابد أن تترسخ منها أن الناشر هو ناشر محتوى. الكتاب محتوى, وهذا المحتوى نريد أن نصل به إلى أكبر عدد من القرّاء, وبكل وسيلة متاحة. حتى الآن مازالت الوسيلة الأيسر والأكثر انتشارًا والأنجح هي الورق والكتاب الورقي. وهناك بالطبع وسائل أخرى هي في طور المخاض الآن, منها ما يُسمّى بالكتاب الإلكتروني الذي لم يصبح حتى الساعة حقيقة واقعة. ثمة أحلام بأن يكون هناك كتاب إلكتروني. ولكن ليس من الضروري أن يحل هذا الكتاب محلّ الكتاب الورقي. هذا إلى جانب أن هناك الآن كتبًا أخرى كالكتاب المسموع, والكتاب على شبكة المعلومات. وهناك كتاب على الـ (سي.دي). ولكن الكتاب الورقي مازال هو الكتاب الأسهل والأيسر والأنجح في حمل الثقافة والإبداع.

الصورة الرقمية نجحت في أشياء أخرى منها الموسوعات ودوائر المعارف الكبرى. لقد أصبحت أيسر تعاملاً وأيسر سعرًا. أسعار دوائر المعارف الكبرى تفوق الألف دولار, ولكن كلها يمكن أن تخطّ على قرص ممغنط بخمسين دولارًا. ودوائر المعارف هذه وهي كبيرة الحجم, (عشرون مجلدًا أو أقل أو أكثر), تحتاج إلى تجديد وإضافة كل عام. الإضافة المطبوعة ليست بسهولة الإضافة الإلكترونية. لكن حتى في دوائر المعارف هذه, وفي الموسوعات المتخصصة أيضا, في الطب وفي القانون وفي سواها, الصور الرقمية بالغة السهولة. ومع ذلك فإن كثيرين من مقتني هذه الموسوعات, يفضلون أن يكون لديهم الكتاب الورقي بسبب اعتيادهم عليه, ولجمال شكله وإخراجه.

في هذا المجال, قد يكون هناك تقدم في الكتاب الإلكتروني. وفي هذا المجال أيضًا, نحن لا نريد أن نصادر على المستقبل. أنت لو سألت أحدًا قبل عشر سنوات عن (النِتْ) و(الإنترنت), لما أمكنه أن يجيبك بشيء. لم يكن كل هذا واردًا.

ولكن بعد عشر سنوات سنجد أنفسنا أمام قفزات علمية وتكنولوجية هائلة تشبه الفتوح. فليس من الضروري أن نواجهها وكأننا نخوض معركة ضارية ضد عدوّ. نحن لدينا محتوى, وهذا المحتوى نحن ننشره الآن ورقًا, وننشره في كل أنحاء العالم العربي على النحو السائد الآن. وعلينا ألاّ ننسى أننا بدأنا بعد العالم بكثير جدًا بالكتاب الورقي والطباعة, وعلينا ألا ننسى أيضًا أن المكتبة العربية رغم أنها تزيد وتتضاعف, مازالت تُعتبر بالنسبة للأمم التي سبقتها مكتبة جديدة وناشئة سواء في عدد العناوين أو في عدد التخصصات. لذلك, فإن أعداد الكتاب العربي في الكمية المطبوعة بالنسبة للأرقام العالمية, أعداد قليلة جدًا, كما أن القراء لم يزدادوا. وبالنسبة لعدد المتعلمين تعليمًا عاليًا, لايزال انتشار الكتاب العربي بينهم انتشارًا محدودًا جدًا. ولايزال استهلاك الإنسان العربي للورق, بما فيه الكتب والجرائد والمجلات والكراريس والعلب وإلى آخره, أقلّ من عُشر المعدل العالمي. ومازالت هناك في العالم العربي محافظات وقرى وكأن الكتاب لم يدخلها بعد, غير الكتاب المدرسي, ومازال الكتاب المدرسي في العالم العربي يحتاج لا إلى تطوير وتحديث وحسب, بل إلى ثورة شاملة في الأسلوب والمنهج والتفكير والمستوى.

النشر العربي .. حالة غامضة

  • ولكن إذا لم يكن الكتاب الإلكتروني حتى الآن بمنزلة العدوّ الذي يواجه الكتاب الورقي ويهدّده, ألا ترى أن العدو الذي يواجه الكتاب ويهدده يتمثل بالشاشة أو بالتلفزيون? أخذ التلفزيون في طريقه كل الكتب وكل القرّاء, القول إن السؤال التقليدي الذي كان: قُلْ لي ماذا تقرأ, أصبح الآن: قُلْ لي ماذا تشاهد?

- أكيد أن المنافسة بين الكتاب والتلفزيون منافسة شديدة. ولكن المنافسة قد تكون أكثر على نوع من الاكتئاب والإحباط وعدم الرضا والقلق وانتظار شيء جديد لا يأتي خصوصًا بين المثقفين. والعالم العربي مليء بالأحداث الكبيرة التي تشغل الناس والتي لا تحقق في الوقت نفسه الأحلام والطموحات.

شعوبنا قلقة على الغد, ومهتمة اهتمامًا شديدا بالأخبار والسياسة اليومية, ولديها أمل في التغيير.

ومن المشاكل التي نعانيها أنه ليست لدينا إحصاءات دقيقة. حتى تُصدر أحكامًا موضوعية لابد أن تعرف الحقائق بدقة. معظم العالم العربي لا توجد فيه إحصاءات دقيقة وطرق علمية في الإحصاء, وبعض الدول العربية لا يوجد فيها حتى الآن  رقم إيداع قومي للكتب.

أما الدول العربية التي فيها رقم إيداع, فمن المضحك أن هناك كتبًا تحصل على أرقام إيداع ولا تصدر, وكتبًا تصدر ولكن لا تحصل على أرقام إيداع, ووسط هذه الغابة من الغموض وعدم الدقة والضبابية, تردنا تقارير دولية مثل تقرير التنمية البشرية الصادر عن إحدى منظمات الأمم المتحدة, فتزداد الهوة بيننا وبين العالم.

الأرقام التي ذُكرت في هذا التقرير عن عدد الكتب العربية, وعن عدد كتب الأطفال التي تُوزَّع في العالم العربي, بعيدة جدًا جدًا عن الصحة وعن الدقة.

أنا أظن أن العالم العربي يصدر فيه ما بين 22 إلى 30 ألف عنوان في السنة. هذه العناوين تشمل الكتب الثقافية والكتب الأدبية وكتب الأطفال والمراجع ودوائر المعارف وكتب التراث والكتاب المدرسي والكتاب الجامعي والكتاب الحكومي, وهذا ليس مستغربًا لأن العالم كله يحصي الآن هذه الكتب.

لو قارنّا ما يصدر الآن بما كان يصدر في بداية القرن العشرين من عناوين, لوجدنا أن عدد العناوين التي كانت تصدر سنويًا في الماضي, حوالي ألف عنوان. ثمة زيادة إذن, ثم إن الكتب التي تصدر في العالم العربي اليوم تتناول مواضيع لم تكن تُتَناول سابقًا.

من ناحية العدد, هناك زيادة في الكتاب الجامعي.

والآن هناك كتاب جامعي عربي في مواضيع كثيرة, ولم يكن الوضع كذلك قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة.

الثورة التنويرية

  • ولكن على الرغم من كل هذا التقدم, سواء في عناوين الكتب أو في محتواها, هناك من يرى أن الحاجة لاتزال ماسة إلى ما يمكن تسميته بـ (الثورة التنويرية). على الكتب التي تصدر الآن أن تحمل إلى قارئها روحًا جديدة أو رياحًا من نوع الرياح التي حملتها كتب فولتير وروسو في القرن الثامن عشر إلى القارئ الأوربي. والسؤال الجوهري الذي يُطرح في هذا المجال يتناول النشر العربي وما إذا كان أصحابه يساهمون بالفعل في التهيئة لمثل هذا التنوير الذي نحتاج إليه!

- نحن نحتاج إلى ثورة تنويرية وثورة ثقافية وثورة في الديمقراطية وثورة في نظام حقوق الإنسان واحترام كرامة الإنسان وإدراك قيمة الإنسان. ومن ضمن هذه الحقوق, حقوق الملكية الفكرية, لأن احترام حقوق الملكية الفكرية هو نوع من احترام الإنسان, ومن معرفة قيمة الإنسان وقيمة الجهد الإنساني, وقيمة الابتكار والاختراع والإبداع كقيمة وكفائدة وكوسيلة تصنع تقدّم الشعوب ورفاهيتها. والاعتداء على هذه الحقوق هو نوع من الجهد, ونوع من عدم الإدراك لقيمة الإنسان وقيمة الجهد البشري, ونوع من التخلف الحضاري, ونوع من الجريمة المنظمة.

نحن نحتاج إلى كل هذه الثورات, ولا شك أن هناك عددًا من الناشرين العرب المتنورين, المنفتحين على العالم, والذين يدركون ما يحدث فيه, وفي جديده الذي يُنشر, وبخاصة في اتجاهات الفكر العالمي, يبذلون جهدًا لا يُنكر على هذا الصعيد. ومن الطبيعي أن يدفع هؤلاء الناشرون أحيانًا كثيرة ثمنًا باهظًا جراء إقدامهم على ذلك.

على أن علينا أن نعترف أن عدد الكتب التي تواكب مثل هذه الثورة الثقافية, التنويرية, ليس عددًا كبيرًا.

هناك, في كثير من الأحيان, تكرار, وترجمات غير دقيقة, واقتباسات غير أمينة. وهناك كتب مدرسية أو جامعية مملوءة بالحشو والإسهاب ولا متعة فيها تجذب الطالب.

كما أنها لا تتضمن الحداثة المطلوبة, ولا الاطلاع على ما يُنْشر في العالم الخارجي. وهناك كتب لا معنى لصدورها سوى أنها إضافات مادية على مرتبات ضعيفة لأساتذة ومدرسين.

أما تلك الكتب التي ترتفع بمستوى الإنسان وبروحه وبعقله وبعلمه, وفيها تجديد وموضوعية, فلا شك أنها أندر من الكبريت الأحمر, كما كان يقول القدماء. هذه حقائق لابد أن ندركها, أما الحل فلابد أن نشترك فيه جميعًا.

ولكن لو عدنا إلى النشر الإلكتروني, لقلنا إن النشر الإلكتروني هو باب جديد في العالم يُفتح الآن. والعالم في هذا الباب لايزال يجرّب. فهل ننتظر إلى أن يجرّب العالم وينتهي من تجاربه, أم نبدأ مع العالم خطوة خطوة ونجرّب معه بدورنا?

ورأيي أنه ليس هناك معركة بين الكتابين بل تكامل, وسنصل أخيرًا إلى شيء يكمل بعضه.

فلا الإذاعة ألغت القراءة, ولا التلفزيون ألغى السينما, ولا السينما ألغت القراءة, ولا الكمبيوتر ألغى كل هذه الأشياء. طبعًا الكمبيوتر يأخذ منها, ويضيف إليها. لكن المهم إيصال المحتوى, إيصال محتوى الكتاب. الكتاب هو مضمونه, وليس وسيلته.

ثمة حاجات أساسية لابد أن نلتفت إليها, وإلا فإن المحاولات كلها ستكون دون النتيجة المرجوّة. أولى هذه الحاجات: المناهج الدراسية والكتاب المدرسي. إذا لم نعدّل المناهج بأنفسنا, ولرغبتنا ولحاجاتنا دون أن يفرض علينا أحد لمصلحته, لابد أن تتطور المناهج المدرسية. لا يجوز أن تكون المناهج المدرسية قائمة على الحفظ والتلقين, والرأي الواحد, وعبادة الفرد, والحاكم. هذا ليس معقولاً!

ولا بد, في العلوم البحتة, وفي الرياضيات, والكيمياء والطبيعة, ألا نكون متخلفين عن العالم.

ولابد أن نأخذ بأحدث المناهج العالمية, وأحدث الطرق التدريسية, وأجمل الكتب الصادرة في الخارج, ونأخذ حقوقها, ونعرّفها للغتنا, ونكون جنبًا إلى جنب مع العالم.في العالم, هناك مسابقات للتقييم: مثلاً في الرياضيات.

من بين الدول العشر الأكثر تقدمًا في العالم, تجد دولاً مثل سنغافورة, وكوريا, واليابان, أحيانًا إيران. لكن العالم العربي لا ذكر له ولا بعد المائة.

ثم إن هذه الكتب, وهذه النجاحات, وهذه البرامج أمامك! فإذا أنت, كمرحلة أولى, لم تستطع أن تفهم مضمونها, فلن تستفيد منها.

الأمر الثاني: حب القراءة, وحب العلم والتعلّم.

لابد من كتاب مدرسي جيد شكلاً ومضمونًا: ألا يكون هذا الكتاب قميئًا أو بشعًا, أو طويلاً, أو أن طريقة التعليم فيه صعبة. ولابد أن يكون هناك ميزانيات من الحكومات العربية لإثراء المكتبات المدرسية والجامعية وتطويرها. تزويد هذه المكتبات بكل جديد وجيّد ومتميز. هذا سيوفر, من ناحية, اطلاع من لا يستطيع الاطلاع على ما يريد من الكتب, مجانًا. ومن ناحية أخرى, فإن من شأن ذلك تحسين اقتصاديات النشر الجيد الجديد المتقن بما يجدد حركة التأليف والنشر, ويوجّهه دون رقابة ولكن بتزكية الجديد والجيد, ولا عذر في ذلك لكل الحكومات العربية لأن كل دول العالم الأكثر غنى, والتي تماثلنا, والأقل غنى, تخصص مثل هذه الميزانيات.

نحن لدينا مشكلة أخرى غريبة, مازال اهتمام وسائل الإعلام العربية, خصوصًا المرئية, بالكتاب وبالثقافة, أقلّ من المطلوب بكثير كمّاً وكيفًا, وأقل من الموجود في الدول الأوربية والدول الآسيوية, وأنا لا أستطيع أن أجد تفسيرًا لذلك.

نحن ندّعي, طوال الوقت, أننا أمة تؤمن بالثقافة وبالفكر, وأننا أهل كتاب, وأنهم أهل مادة, ثم نجد في تصرفاتنا ما يفيد العكس تمامًا!

مقاولات الكتب

  • أليس هناك من مسئولية على الناشر العربي في مثل هذا المناخ السلبي الذي تتحدث عنه?

- لا شك أن هناك عددًا من الناشرين العرب نفتخر بهم لأنهم يؤمنون بأداء رسالة, وهم يتمتعون بالجديّة, ويفنون حياتهم في سبيل ما يعتقدون أنه يحقق رسالتهم إزاء أمتهم والإنسانية.

ولكن عددًا آخر منهم لا يفعل هذا. وهناك عدد آخر بينهم وبين بعض المسئولين نوع من التعاون والتحالف غير المفيد, وكأن هذا التعاون يتضمن صورة من صور مقاولات الكتب, أي توجيهًا للميزانيات لافتعال عناوين وأسماء وأغلفة, مضمونها دون المستوى, وفقط لتمرير هذه الاتفاقات.

هذا موجود مع بالغ الأسف. هو موجود في العالم كله, لكن النسبة عندنا قد تكون مرتفعة أكثر من غيرنا. إنما هناك عدد من الناشرين في العالم العربي يعمل بجدية عالية. عددهم قد لا يكون مرتفعًا.والأعجب أن تقديرهم ليس عاليًا كما ينبغي, وبخاصة في وسائل الإعلام.

إن المسئولين في بعض الدول العربية يعلمون أن هذه الميزانيات التي نتحدث عنها وُضعت أصلاً لشراء الكتب. لذلك فهم يتفقون مع بعض الناشرين ليتقاسموها. ومن أجل ذلك يتعاقدون بسرعة مع هؤلاء الناشرين, ويُنجزون هذا التعاقد بسرعة أيضًا, وتكون نتيجة الكتب التي تعاقدوا على إنجازها دون المستوى. المهم أن يُوجِدوا التغطية لتمرير هذه الاتفاقيات. ولكن هؤلاء - وهنا المصيبة - يحجبون الكتاب الجيد المتميز والموضوعي, ولا يوصلون إلى القارئ سوى الكتب الرديئة, ولا يلومنّ أحد القارئ إذا تخلى عن القراءة بعد ذلك.

الكتاب العلمي للأطفال

  • هذا عن الكتاب وقضاياه بوجه عام, ولكن ماذا عن حاضر الكتاب العلمي العربي بالذات?

- حضرتُ في الكويت أخيرًا ندوة أقامتها مجلة (العربي) عن (الثقافة العلمية ودورها في استشراف المستقبل العربي).

بصراحة, هذه أول مرة منذ خمس وثلاثين سنة أمضيتها في النشر أجد هذا الاهتمام بالكتاب العلمي وبالنشر العلمي. الثقافة العلمية جزء من الثقافة العامة. ليست الثقافة ثقافة أدبية وحسب. الأدب مهم ولكن العلم مهم أيضًا. وكانت ندوة (العربي) ندوة مهمة بكل المعايير, والجمهور العربي يشجّع مثل هذه الندوات الجادة. إنما الشيء المهم أن نسبة الكتاب العلمي بالنسبة لكتب الأطفال في العالم العربي نسبة عالية, وهذا يبعث على التفاؤل. إن عددًا من الناشرين العرب يتفقون الآن مع أكبر دور النشر العالمية لترجمة أحدث الكتب العلمية والموسوعات ودوائر المعارف المشوّقة التي نجحت نجاحًا كبيرًا في العالم إلى العربية, وهؤلاء الناشرون العرب الذين يهتمون بهذه الكتب العلمية باتوا ينافسون الآن أرقى الكتب الصادرة في الخارج.

النشر رسالة, والرسالة لكي تتمّ لابد أن تصل إلى المشتغلين. وإذا أصدرنا بالعربية كتبًا ذات مستوى عال في المحتوى والمضمون وفي الإخراج والتشويق, لابد أن نعمل على أن تصل إلى أكبر عدد من القراء. ولكي تصل إلى أكبر عدد من القراء لابد أن تكون كتب الأطفال على سبيل المثال قادرة على أن تصل إلى كل المكتبات المدرسية, وأن تصل إلى الطفل الفقير قبل الطفل الغني, وبالمستوى نفسه. وفي الوقت نفسه, لابد أن يكون هناك نوع من العرض أو النقد الإعلامي الذي يعرّف الناس بصدور هذه الكتب. الجمهور الواسع في العالم العربي لا يقتني الكتب بالدرجة الكافية. فقط يطّلع الناس على الكتب في المعارض السنوية. ولا يوجد بلد متقدم في العالم يعتمد في البيع على المعرض السنوي. المعرض السنوي في كل بلاد العالم هو معرض للقاء الناشرين والمؤلفين وموزعي الكتب والأساتذة, ولعقد اتفاقات. والمفروض في الكتاب أن يُعرض في المكتبات طوال العام: في المكتبات التجارية لمن يريد أن يشتري, وفي المكتبات العامة لمن يريد أن يطّلع. أما أن يكون هناك بلد لا يطلع على الكتاب ولا يشتريه, ولا يفكر بشرائه إلا في معرض سنوي, فأمر غير معروف في الخارج. مرة في السنة, ولفترة وجيزة لا تتجاوز عشرة أيام, أو أسبوعين, يأتي عدد محدود من المواطنين إلى معرض للكتاب. ثم إن هؤلاء يأتون في مناخ حسومات وفي مناخ إغراءات مختلفة, قريبة من الإغراءات التي يقدمها الآباء لأطفالهم, وقريبة من بعض الأدوية التي تُقدّم إلى الأطفال ممزوجة بالسكر, وكل هذا يدل على هشاشة علاقتنا بالكتاب وعجزنا عن اقتحام العصر وما يحدث فيه.

كما أن بعض المعارض العربية أصبحت تهتم بالضوضاء الصحفية والإعلامية وبالمهرجانات, أكثر مما تهتم بالكتب, وأحيانًا تستغل بعض الحكومات هذه المعارض كنوع من الدعاية والوجاهة للمسئولين.

  • في الخمسينيات, من القرن الماضي زار الدكتور طه حسين بيروت فبُهر بالنشاط الثقافي فيها. وبسبب هذا النشاط قال يومها كلمته المشهورة: (بيروت هي الآن عاصمة الثقافة العربية لا القاهرة). ولكن بصرف النظر عن الأسباب الموجبة للعميد في قولته هذه, فلا شك أن بيروت قد زاحمت يومها القاهرة. ولكن ها نحن نشهد اليوم (مزاحمين) جددًا للقاهرة ولبيروت يتمثلون بعواصم عربية أخرى دخلت معترك الثقافة بقوة واقتدار. لم يعد هناك (مراكز) و(أطراف), بل الكل تقريبًا بات مركزًا?

- هذا صحيح, وهذا مما يسعد كل مشتغل بالثقافة العربية. من غير المعقول أن يكون للثقافة العربية, أو للنشر العربي, عاصمة واحدة, أو عاصمتان أو ثلاث يقتصر النشاط الثقافي عليها وحدها. هذا ليس أمرًا ينبغي أن يُشَجَّع عليه. قد يكون هذا الوضع - لو صح وجوده - ميزة لهذه العاصمة العربية أو تلك, ولكنه عكس ذلك في بقية العواصم العربية. إن ما يسعد العربي اليوم أن بعض العواصم العربية التي تأخرت نسبيًا في التأليف والترجمة والنشر, قد لحقت الآن بالركب الصاعد, وبالركب العالمي في آن. وهذا جيد, وبخاصة إذا كان إنتاج هذه العاصمة العربية أو تلك, إنتاجًا أغزر أو أحدث أو أفضل أو أشمل. والمهم أن يكون هناك تعاون بين هذه العواصم.

لا شك أن القاهرة وبيروت عاصمتان مهمتان على الصعيد الثقافي. ولكن هذا لا ينفي أن هناك عدة عواصم عربية تتقدم الآن منها الرياض والكويت ودمشق والدار البيضاء. وهذه العواصم تثبت وجودها في مجال التأليف والنشر والترجمة وبقية الحراك الثقافي. وهي مؤهلة لأن تشهد انتعاشًا ثقافيًا أعمق وأكبر وأكثر حرية وديمقراطية مع الوقت.

ولكن على المثقفين, بوجه خاص, رسالة بالغة الأهمية في هذه المرحلة.

فمن غير المقبول أن يتحدث المثقفون العرب أكثر من لغة: لغة وهم خارج أوطانهم, ولغة في صالوناتهم, ولغة في تلفزيونات بلدانهم, ثم لغة في كتبهم.بالطبع قد يكون للمثقفين العرب حججهم في ما هم مضطرون إلى فعله. قد يكون هناك الخوف وقد يكون هناك سواه. ولكن لا أحد يفرض على المثقف أن يصفق. لا أحد يفرض على المثقف أن يهتف. لا تريد أن تعارض, هذا من حقك, ولكن لا تهتف إذا لم تكن مقتنعًا بالهتاف. وعندما يفعل المثقف ذلك, فإن سمعته تنهار عند مواطنيه, إذ كيف يمكن لهذه السمعة أن تحافظ على مقوماتها والمواطن يجد مثقفيه يتحدثون عدة لغات, في الوقت نفسه, وعلى النحو الذي ذكرنا? مهمة المثقفين هي إنارة الطريق, لا التبعية. عندها كيف يمكن توجيه اللوم إلى الناس إذا انصرفوا عن قراءة مثل هؤلاء المثقفين?!

ودّعَ الصبرَ محبٌّ ودّعَكْ, ذائعٌ منْ سرّهِ ما استودَعَكْ
يقرَعُ السّنَّ على أنْ لمْ يكنْ زَادَ في تِلْكَ الخُطَا, إذْ شَيّعَكْ
يا أخا البدرِ سناءً وسنا حفظَ اللهُ زماناً أطلعَكْ
إنْ يَطُلْ, بَعْدَكَ, لَيلي, فلَكَمْ بِتُّ أشكُو قِصَرَ اللّيْلِ مَعَكْ!


(ابن زيدون)

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




إبراهيم المعلم وجهاد فاضل





إبراهيم المعلم





إبراهيم المعلم





إبراهيم المعلم