صدى الانفجار العظيم أقدم حفرية في الكون!!

  صدى الانفجار العظيم أقدم حفرية في الكون!!
        

          في القرن السادس عشر أطلق كوبرنيكوس ثورة غيرت نظرتنا للكون وذلك بوضعه الشمس مركزا للكون بدلا من الأرض, بعد أن سيطرت فكرة مركزية الأرض حوالي ألفي سنة على تفكير الإنسان. بعد هذه الثورة جاءت ثورة ثانية عندما رفع جاليليو التلسكوب في سنة 1609 ميلادية ليضاعف بذلك قدرة الناظر للسماء عدة مرات واكتشف أقمارا جديدة تابعة للمشتري هي الأقمار الأربعة والتي سميت باسمه (أقمار جاليليو). لقد كشف جاليليو باستخدام التلسكوب عن نقاط لامعة في السماء كانت غائبة عن عين الإنسان طوال هذه القرون!. أعقبت تلك الثورة ثورات في عصرنا الحالي في معرفتنا للكون وذلك بسبب إدخال الحاسب الآلي وغيرها من التكنولوجيا والتلسكوبات الضخمة سواء الثابتة على الأرض أو المحمولة في الفضاء الخارجي, وتم بذلك الكشف عن أسرار الكون أكثر وأكثر, وكلما كشف عن سر تولدت أسئلة يحاول الإنسان الإجابة عنها. وهكذا نمت الأبحاث وزادت معارف الإنسان وخاصة للأمم المهتمة بهذه البحوث والذين لا تشغلهم توافه الأمور!!. في سنة 1989 أرسلت وكالة ناسا قمرا صناعيا إلى الفضاء الخارجي باسم كوبي (COBE) لدراسة موجات خاصة لها علاقة بخلق الكون!! وكانت نتائج الرحلة ثورة جديدة في علم الكون فما هي هذه الموجات? وما أهميتها? هذا ما سيحاول المقال الإجابة عنه.

تعريف الخلفية الإشعاعية

          إشعاع يملأ الكون كله وموجود في الليل والنهار وفي جميع الاتجاهات هذا الإشعاع يُفسر على أنه الإشعاع الباقي من الانفجار العظيم عند بدء خلق الكون! لذلك يقال عنه إنه أقدم حفرية في الكون!!. هذه الأشعة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة لأنها تقع ضمن موجات الميكروويف. إن هذه الأشعة هي أول وأبعد وأقدم أشعة يمكن لأي تلسكوب إلتقاطها ومن المستحيل أن نرى قبلها أي شيء, والسبب أن الكون ما قبل هذه الأشعة كان قاتما. هذه الأشعة أقرب ما يمكن للحظات الأولى للانفجار العظيم, لذلك يمكن من دراسة هذه الأشعة فهم تولد الكون وتطوره ويمكن القول إن الإنسان استطاع  في القرن العشرين أن تمكن من إلتقاط صورة الكون عندما كان الكون وليدا!!. إن مصدر هذه الأشعة هو الكون عندما كان عمره وليدا!! وتمددت موجات الأشعة مع تمدد الكون, وبالتالي فقد زاد طول موجتها عما كانت عليه ولذلك تقع في نطاق الميكروويف (موجات الميكروويف طول الموجة من 1 مم إلى 10 سم). لقد ثبت أن أصل هذه الأشعة صادر من شيء ما بسبب حرارة هذا الشيء أي أن الانفجار العظيم بدأ خلق الكون.

          كيف عرف الإنسان الخلفية الإشعاعية?

          في سنة 1948 تنبأ ثلاثة فيزيائيين بناء على حسابات نظرية هم جورج جامو George Gamow و رالف ألفر Ralph Alpher  وروبرت هرمان üRobert Herman بوجود موجات في مجال الميكروويف وقالوا إن الكون حسب نظرية الانفجار العظيم من بدء خلقه إلى يومنا هذا يفقد حرارته مع التمدد, ولذلك حسب حساباتهم النظرية المفروض أن درجة حرارة الكون حاليا هي 5 درجات كلفن أي -268 درجة سيليزية! وقال جورج جامو Gamow George يجب أن يكون هذا في مجال الميكرويف وهذه الموجات هي بقايا من الانفجار العظيم بعد أن تمدد الكون!!.

الصدفة واكتشاف الخلفية الإشعاعية

          في سنة 1964 لاحظ مهندسان كانا يعملان في مشروع الاتصالات باستعمال الموجات وهما Arno Penzia and Robert wilson أن أشعة الميكروويف صادرة من السماء من جميع الاتجاهات بغض النظر عن الجهة التي توجه لها الأجهزة, وتبين أن هذه الموجات موجودة سواء في الليل أو النهار وبعد دراستها من قبل المختصين أرجعوها إلى تلك الموجات التي تنبأ بها الفيزيائي جامو Gamow في سنة 1948!!

          بعد هذا الحدث زاد الاهتمام بموضوع الخلفية الإشعاعية لأنها أصبحت حقيقة, ولذلك أطلق العلماء الطائرات وبها مجسات لقياس هذه الأشعة بعيدا عن تأثير الغلاف الجوي. في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين كانت نظرية الانفجار العظيم قد رسخت بين العلماء, ومن ضمن دلائلها وجود اختلاف في درجة حرارة الكون عند بدايات خلقه أي عند وجود هذه الأشعة, بمعنى أبسط هذه الأشعة تمثل توزعا حراريا في الكون عند بداياته. لو تمكن العلماء من إثبات وجود اختلاف في حرارة الكون عند تلك اللحظات لأمكن إثبات خطوة مهمة في نظرية الانفجار العظيم ولصار هذا فتحا أو ثورة في معرفة الإنسان للكون!!. قياس فروقات الحرارة يعتمد على دقة قياس الأجهزة والصورة في شكل (4) تمثل قياس اختلاف في درجة الحرارة يصل إلى 1 من 1000 درجة. ونلاحظ أنه بهذا المقياس يتبين أن الكون منتظم في توزيع الحرارة أي لا توجد أية فروق, ولو تم الاعتماد على هذه الخريطة فقط لتبين أن هناك خطأ ما في نظرية الإنفجار العظيم لأنه حسب نظرية الانفجار العظيم لابد من وجود اختلاف في درجات الحرارة في الكون عند بدء خلقه مهما كان هذا الفارق صغيرًا.

          وفي 18 نوفمبر 1989 أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا NASA قمرا صناعيا إلى الفضاء الخارجي باسم كوبي (COBE) وهو مختصر COsmic Background Explorer, هذا القمر الصناعي يحمل تلسكوبا وأجهزة دقيقة لقياس حرارة الكون (الخلفية الإشعاعية) بدقة تصل من 1 إلى 100000 وتم تحليل النتائج من قبل علماء وفنيين وكان الخبر العلمي المهم الذي تناقلته وكالات الأنباء العالمية, فلقد كشف الإنسان عن الفرق في درجات الحرارة في الكون, وهذه يمكن اعتبارها أقدم حفرية في الكون!!. لقد أرسلت كوبي صورا للكون منذ بداياته الأولى!! أي عندما كان الكون جنينا صغيرا بعمر 300 ألف سنة!! وفعلاً 300 ألف سنة هي شيء يذكر بالنسبة لعمر الكون والذي يقدر بـ 13 ألف مليون سنة!!

          في مشروع كوبي تم رسم الخريطة بناء على دقة قياس الاختلاف في درجة حرارة الكون!! واشتهرت هذه الخريطة التي انتشرت في جميع المراكز العلمية المختصة.

          هذه البقع لها علاقة مع طاقة الموجات عند بدايات خلق الكون, فالبقع الزرقاء لها طاقة أعلى أي أسخن, والحمراء لها طاقة أقل أي أقل حرارة. أهمية هذه الخريطة أنها ترينا الاختلاف في الألوان والذي له علاقة بتوزيع المادة في الكون في وقتنا الحالي, فالمجرات تمثل المادة وسط فراغ الكون. إن تمدد الكون هو الذي أدى إلى التحول من اختلاف في الحرارة إلى اختلاف في توزيع المادة في الكون, وهذا يعني أن البذور الأولية للمادة في الكون راجعة إلى الاختلاف في حرارة الكون. إن المناطق الأبرد هي المناطق ذات كثافة أعلى في المادة عند بدء الخلق (بعد 300000 سنة من الانفجار العظيم) ومع تمدد الكون أدى هذا إلى تكوين المجرات والمناطق الأسخن هي الأساس للفراغ بين المجرات أو بين مجمعات المجرات في الكون حسب ما نراه الآن بعد مرور بلايين السنين من عمر الكون. لقد كان كوبيCOBE أول تجربة لجمع البيانات بالنسبة للخلفية الإشعاعية تم تسجيله من غير تأثير الغلاف الجوي (تلسكوب محمول في الفضاء الخارجي) على النتائج نتيجة لوجود التلوث وخاصة بخار الماء الذي يمتص موجات الميكروويف.

ماذا بعد كوبي?

          بعد النتائج التي حصل عليها العلماء من كوبي ازداد الاهتمام بدراسة الخلفية الإشعاعية, وتم رصد هذه الأشعة باستخدام تلسكوبات مختلفة بعضها فضائية وبعضها أرضية ورصدت ميزانيات ضخمة لهذا الموضوع سواء من ناسا أو وكالة الفضاء الأوربية. التلسكوبات الأرضية, بالعشرات وهناك تلسكوبات يتم تعليقها من البالونات وعددها أكثر من 10 تلسكوبات. في سنة 2001 أرسلت ناسا قمرا صناعيا باسم دبليو ماب WMAP يحمل مجسات للكشف حساسة جدا وبدقة لم يسبق لها مثيل. وللكشف عن الفروقات في الحرارة سيتم تبريد المجسات باستخدام غاز الهيليوم إلى درجة 0,1 كلفن! أي قريب من الصفر المطلق (273 تحت الصفر).

          لإعطاء فكرة عن التطور في دقة القياس وعمل مقارنة بين كوبي COBE ودبليو ماب تWMAP  وكما يقال صورة ممكن أن تغني عن كتاب.

بعض نتائج مشروع دبليو ماب

          النتائج مهمة جدا للعاملين في العلوم الكونية لأنها بيانات مأخوذة من مشاهدات وقياسات دقيقة وهي كالتالي:

          1- أوضح صورة للكون بقياس الإختلاف في درجات الحرارة في صفحات السماء ( الخريطة الخضراء ) لقد تمكنت الأجهزة من حساب فرق في درجات الحرارة بلغت 2 من 10000 جزء من الدرجة!!. إن هذه الخريطة تمثل صورة الكون عندما كان في مراحله الأولية عند ولادته, فكما قال أحد العلماء إنها صورة الكون عندما كان طفلا!!

          2- حدد العلماء صدور الخلفية الإشعاعية بعد الانفجار العظيم بـ 380 ألف سنة

          3- تم تحديد عمر الكون ب 13.7 بليون سنة بنسبة خطأ 1%!!

          4- بعد مرور 200 مليون سنة على الانفجار العظيم ولدت أول النجوم

          5- الكون يحتوي على:

          4% من المادة كما نعرفها

          23% من المادة المظلمة (مادة لا نعرف عنها الكثير):

          73% طاقة مظلمة أيضا لا يعرف عنها الكثير

          6- إثبات وجود التمدد المفاجيء في بدء خلق الكون بما يسمى بنظرية التضخم في الكون.

          7- الكون في حالة تمدد مستمرإلى الأبد!!

          دراسات الخلفية الإشعاعية في المستقبل القريب

          القمر الصناعي بلانك Planck سترسل وكالة الفضاء الأوربية القمر الصناعي المسمى بلانك Planck نسبة إلى العالم الفيزيائي الألماني بلانك Planck في يوليو من سنة 2007 وسوف يتم قياس الاختلاف في درجات الحرارة بدقة أكثر مما سبق. سيتم رسم أفضل خريطة للكون باستخدام موجات الميكروويف بترددات من 30 إلى 857 جيجا هرتز وبدقة قياس فرق درجات الحرارة تصل إلى جزء من المليون من الدرجة, وبهذا يمكن حساب مختلف الثوابت الكونية. المتوقع أن رحلة بلانك ستحدث ثورة في علم الكون لأنها ستكون أهم تجربة خلال عقود وكذلك أدق قياس سيتم إلى الآن. لقد تم بناء هذا الصرح العلمي والتكنولوجي الراقي بالتعاون بين 40 دولة أوربية ودول أمريكا الشمالية. سيوضع القمر الصناعي بلانك في مدار يبعد عن الأرض 1.5 مليون كم في الجهة المعاكسة للشمس وسيمسح السماء كلها مرتين خلال 15 شهرًا. التلسكوب المحمول على القمر الصناعي قطره 1.5 متر وكتلته 1.5 طن أما عن تكلفة المشروع فتبلغ أكثر من بليون يورو.

دراسات الخلفية الإشعاعية في المستقبل

          كلما كانت حساسية المجسات التي تعطى الفرق في درجة الحرارة أكثر كانت النتائج أفضل وأمكن الاستفادة من المعلومات اكثر, ولذلك ستتطور هذه المجسات أكثر في المستقبل, لأن العلماء متفقون على أهمية دراسة الخلفية الإشعاعية لمعرفة أسرار الكون.

ماذا بعد?

          هذا الذي يجري في هذا العالم نحن في غفلة منه, فلقد تقدم علم الكون خلال عقد واحد أكثر مما تقدم خلال آلاف السنين الماضية من عمرالبشرية. لقد بدأت فكرة وجود الخلفية الإشعاعية من نظرية, وبعد حوالي خمسين سنة تم إرسال الأقمار الصناعية المكلفة لدراستها, وهذا راجع إلى التطور الهائل الذي يشهده الإنسان في جميع مجالات العلم والتكنولوجيا. حقيقة الأمر أن أمورا صغيرة قد لا تخطر على البال تخفي أسرارا كثيرة كما حدث مع موضوعنا وهذا يجرنا أن نسأل كم من أسرار يخفيها هذا الكون? وما السبيل للوصول إليها? ومن الذي أعطانا نحن البشر هذه القدرة من بين جميع المخلوقات لكشف هذه الأسرار? هنا أقف عند آية من القرآن علم الإنسان ما لم يعلم ... نعم هناك قوة تدفعنا نحن البشر لنعلم لكن مع الأسف لسنا جزءًا من هذه المشاريع التي تكشف أسرار الكون. إننا مع الأسف أمة لا تنتهج الأسلوب العلمي والعقلي في حياتها, ومن المفارقات أن قرآننا يأمرنا باتباع العقل ويمدح التفكر والتأمل, ولكننا نعيش أوهاما ونقدس أشخاصا ويحكمنا أموات, أي أنهم يحكموننا من قبورهم!! فإلى الله المشتكى.

فَلَم أَرَ غَيرَ حُكمِ اللهِ حُكمًا وَلَم أَرَ دونَ بابِ اللَهِ بابا
وَلا عَظَّمتُ في الأَشياءِ إِلا صَحيحَ العِلمِ وَالأَدَبَ اللُبابا
وَلا كَرَّمتُ إِلا وَجهَ حُرٍّ يُقَلِّدُ قَومَهُ المِنَنَ الرَغابا
وَلَم أَرَ مِثلَ جَمعِ المالِ داءً وَلا مِثلَ البَخيلِ بِهِ مُصابا


(أحمد شوقي)

 

 

علي حسين عبد الله   




توضح الصورة التي التقطت بمنظار هابل أول مجموعة فلكية برزت من العصور المظلمة مباشرة بعد حدوث الانفجار العظيم عندما وصلت أولى النجوم الى الكون البارد والمظلم





أقمار صناعية تنتشر في الفضاء أهممها القمر الصناعي (كوبي) الذي يقيس الاختلاف في درجة حرارة الكون