النقد الغائب والحرية المشروطة حسام الخطيب

في "الخطة الشاملة للثقافة العربية"

يكثر بين أهل الثقافة الحديث عن التخطيط للمستقبل الثقافي العربي، ويدور نقاش متصل حول أسس الاستراتيجية المنشودة للمشروع الثقافي العربي. وعلى طريقة الإلغائية، المقصودة حينا وغير المقصودة حينا آخر، يندر أن ترد إشارة إلى مشروع جليل في هذا الشأن، قد يختلف معه المرء وقد يتفق جزئيا أو كليا ولكن يصعب تصور إمكان تجاهله. وهذا المشروع هو: (الخطة الشاملة للثقافة العربية).

هي خطة في ثلاثة مجلدات وخمسة أجزاء صدرت في الكويت عام 1986 بالتعاون بين المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ودولة الكويت. وتضم الخطة تصوره عاما لأسس الثقافة العربية المعاصرة ونص الخطة ومبادئ العمل الثقافي المستقبلي ووسائل تحقيقها، وذلك في القسم الأول. أما في القسم الثاني فهناك توصيات عامة تتناول الجوانب المختلفة للثقافة القومية والقطرية، ومن هذه الجوانب:
- الثقافة بوصفها تراثا قوميا.
- الثقافة بوصفها إبداعا.
- الثقافة بوصفها تعبيراً.
- الثقافة والقوى البشرية.
- الثقافة في تفاعلها مع الإعلام والمعلومات والعلم وغيرها.
- الثقافة بوصفها عملية إنسانية.
- الثقافة بوصفها عملية دفاع.
- الثقافة بوصفها صناعة.

ويتضمن القسم الثالث الأبحاث والدراسات التي قدمت في الندوات المختلفة التي عقدتها الهيئة المشرفة توصلا إلى وضع تصورات الخطة الشاملة.

وقد عملت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم على نشر الخطة، ولكن الصدى العام لمثل هذا المشروع المكلف أتى باهتا، مما دفع وزراء الثقافة العرب في الدورة السابعة للمؤتمر العام للمنظمة (الرباط، 10- 13/ 1989/10 م) إلى تبني قرار ينص على "دعوة المنظمة إلى مواصلة الجهود في اتخاذ الوسائل الكفيلة بنشر الخطة وتعميمها والتوعية بها على أوسع نطاق ممكن.. ".

وعلى الرغم من كل الجهود التي بذلت، فليس في الأفق ما يشير إلى وجود اهتمام كبير لدى المثقفين والجمهور بهذه الخطة.

فقد نشر القليل القليل عنها، ومن خلال تجربة شخصية مباشرة أجرؤ على القول إنني من خلال الندوات الثقافية والمؤتمرات المختلفة اكتشفت أن الذين علموا بصدور الخطة أصلاً قلة قليلة من المثقفين، أما الذين قرأوها كليا، أو حتى جزئيا، فيمكن أن يعدوا على أصابع اليد الواحدة.

ولهذه الظاهرة أسباب لا مجال للتطرق إليها في المقالة الحالية التي حاولت تتبع موقف الخطة من النقد أصلا فلم تجد له أثرا فانتقلت إلى قضية الحرية التي لا تنفصل بطبيعة الحال عن النقد.

على أنه من الضروري التنبيه إلى أن المنحى الانتقادي الذي تنتهجه المقالة الحالية لا ينطلق أبدا من أي إنكار للجهد الواسع الذي بذل في الخطة، وإن كانت الأمانة تقتضي الإشارة إلى أن أسماء الذين دعوا إلى الندوات الاختصاصية تدل على انتقائية غير مبرأة من التعسف، وهذا لا يمنع من تقدير جهودهم جميعا.

ومن الزاوية الخاصة جدا لدور النقد، لا يجد المرء في هذه الخطة أية إشارة لمصطلح (النقد)، وتغيب هذه الكلمة غيابا كاملا عن قاموس الخطة، وفي ذلك دلالة خطيرة على أن الحياة العربية المعاصرة لا تضع (النقد) من بين شروطها للمستقبل. ويرجى ألا يتضمن هذا الاستنتاج أي مأخذ أو اتهام بتجنب قصدي لمصطلح (النقد) بل الأمر هو ضرب من تحصيل الحاصل.

أي أن النقد غائب الدور في الحياة العربية وغير مرحب به، ويكاد يختفي من الموقف العام للفرد والمجتمع.

قضية الحرية: شروط وتحفظات

على أن النقد بالطبع هو مظهر من مظاهر الحرية. والخطة الشاملة وقفت وقفة طيبة عند قضية الحرية، وأفردت لها فقرة كاملة من فقرات الخطة هي الفقرة السادسة:
6- ضمان الحرية الثقافية وتوطيدها.
وتحت هذا العنوان العريض كانت هناك فقرات تفصيلية تحمل العناوين الجزئية الستة التالية:
1- الحرية جزء من نظام المجتمع.
2- الهدف من حرية الثقافة.
3- شروط حرية الثقافة.
4- الحرية الملتزمة.
5- الحرية للمجتمع.
6- قيودالمجتمع.

ويتضح من قراءة هذا النص المهم أن التأكيد العقلي والنفسي كان منصبا على الأمور الثلاثة التالية:
(أ) ربط حرية الثقافة بقضية الحريات العامة (السياسية والاجتماعية).
(ب) ضرورة تهيئة مناخ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص كشرط من شروط تحقق حرية الثقافة.
(ج) شمول حرية الثقافة للجميع، وبالضبط لأوسع قطاع من الجماهير.

وقد صيغ هذا القسم كله بعبارات متزنة وتكرر فيه الحرص على تأكيد مضمون حرية الثقافة وإطارها.

ومع ذلك، ومن زاوية البحث الحالي، يخشى المرء أن يكون هناك نقص في تأكيد الحق الطبيعي للإنسان في حرية التفكير والتعبير، وحرص مبالغ فيه على ربط الحرية بالالتزام. وتحت عنوان (الحرية الملتزمة) يرد فوراً، التحوط التالي:
4- لا يجوز تفسير الحرية الثقافية على أنها فتح الباب لكل تعبير، وقبول كل فكر. إن لها، كالحريات السياسية، مخاطرها، كما أن لها حدودها الضابطة. وحرية الثقافة، على ضرورتها وكونها أساسية في تطوير المجتمع العربي، هي عملية أكثر تعقيدا من أن تكون مجرد إيمان أو مساواة أو فرص أو قضية تشريع. إذ من ضوابطها:
" (أ) عدم تحويل المعايير النوعية للثقافة، أي التعبير الفكري والفني، إلى معايير كمية (الخطة ص 109) ". وقد أطلت الاقتباس قصدا لأصل إلى البند (أ)، واعترف أنني لم أفهم المقصود به.

على أي حال يكاد يوحي هذا الحرص على مضمون لحرية وشروطها والتزاماتها، أن الحرية متاحة للجميع ومفروغ منها، والخشية القائمة أو المستقبلية تتعلق بسوء استعمالها، لا بمبدأ وجودها.

ومع التقدير الكبير للبراعة التي صيغت بها عبارات هذا البند والمعاني التي تضمنها في مثل هذه الوثيقة لعربية الرسمية، فإن المرء يتمنى لو أنها حملت تأكيدا قوى على مبدأ الحرية الذي لا جدال فيه. ذلك أنه لابد أن يكون من عناصر المشروع الثقافي المستقبلي لعربي التمسك االجوهري بمبدأ حرية التفكير والتعبير ما يستتبعه من إبقاء الباب مفتوحا على مصراعيه لممارسة النقد دون أي تقييد. إن النقد هو ضمانة تطبيق لحرية وهو ضمانة تقويم الاعوجاج. وعلى المستوى الثقافي الخالص يمكن القول إنه لا فرصة لانبثاق حيوية ثقافية واستمرارها دون مواكبة نقدية غير مشروطة.

ومما يتصل بموضوع الحريات العامة للمثقف مسألة الرقابة، التي تشغل بال الأدباء والمثقفين والشعراء والصحفيين والفنانين وسائر المبدعين، ويبدو أن الخطة فضلت عدم التعرض المباشر للموضوع ربما بسبب عمومية المبادئ التي تقوم عليها. إلا أنه ورد في باب التوصيات التي يمكن أن تعتمد أساسا لبرامج التنفيذ وفق ظروف كل بلد بند خاص بالرقابة يدعو إلى:

" 5- وضع حدود واضحة موضوعية للرقابة على النشر تسمح بحرية الرأى والفكر دون أن تسيء إلى الأيديولوجيات العامة. ويقوم بها مجلس على مستوى عال من الثقافة ومن سعة النظر معا". (الخطة، مجلد 2، ص 54).

وتنطبق على هذا المبدأ ملاحظاتنا السابقة من ناحية أن التأكيد لا يتصل بحق الحرية ومبدأ عدم الاعتراف بالرقابة بل يتصل بضرورة (ترشيد وتهذيب) حرية الرأي والفكر.

ويلحق بذلك بند آخر متعلق بالحرية أتت صياغته دقيقة، ويستحق التنويه في المقام الحالي:

11- ضمان الحرية الشخصية والفكرية للأديب تشريعا ومجتمعا ونشرا، وتحويل هذه الحرية بالاحترام المستمر إلى تقاليد سياسية- اجتماعية مستقرة في كيان المجتمع العربي نفسه (ص 55).

وربما كان من المفيد، استكمالا للصورة، أن نضيف إلى المقاطع السابقة ما ورد حول ديمقراطية الثقافة وجماهيريتها في "الخطة الشاملة.. ". وفي هذا البند، الذي يعتبر الديمقراطية الثقافية واحدا من أركان الأسس الموجهة للخطة الثقافية الشاملة، يرد تأكيد للنواحي التالية المتعلقة بمسألة النقد والحرية:

(أ) ديمقراطية الثقافة شرط أساسي من شروطها، سواء في الإبداع الذي لا تضمنه إلا الحرية الكاملة في التعبير، أم في الاستمتاع الذي تتساوى فيه الفرص دون تمييز. ولكن هنا أيضا يوجد دفاع عن القيود التي "لابد من وجودها حولها، أي الجمع بين مبدأ الحرية ومبدأ التقنين".

وفي رأي واضعي الخطة " إنها مشكلة تعترض كل الأنظمة العالمية". (الخطة، م 2، ص 75).

(ب) " الربط بين ديمقراطية الثقافة وديمقراطية المجتمع كله " (ص 76). وتوفير "التفاعل الحر بين مختلف القوى الاجتماعية".

(ج) الإلحاح على فكرة جماهيرية الثقافة "والمشاركة الجماعية في مجالس إنتاجها والإفادة منها" (ص 75).

على أنه حتى في هذه الحالة لا ترد أية إشارة إلى ضمان حرية النقد للجماهير، في حين أن النقد شرط أساسي لتطبيق هذه المبادئ التي تنادي بها الخطة. ومرة أخرى يبدو انشغال واضعي الخطة بالتقنين والتقييد وتفصيل الشروط المتصلة بالحرية، ضربا من النقض الضمني لمبدأ النقد. ولا يكاد المرء يصدق أن فكرة النقد لا تخطر لهم على بال. بل ربما أمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك والزعم بأن تنحية النقد جانبا قد تكون ناجمة عن الخوف من عدم إمكان (تقنينه)، وهو مصطلح استخدم كثيراً في الخطة.

النقد الأدبي الغائب

مثلما غاب مصطلح النقد عن القسم الأول الأساسي من الخطة بأسسها وأهدافها ومبرراتها، كذلك غاب مصطلح النقد الأدبي غيابا تاما، ولم يظهر إلا في ملحق الخطة المتضمن:

توصيات الندوات المختصة
عناصر للسياسات والبرامج
والمشاريع الإقليمية والقومية.

ونفتقد في هذا القسم، حتى في هذا القسم!، إشارة جوهرية إلى النقد الأدبي بوصفه نسقا معرفيا قائما بذاته من جهة، ومن جهة أخرى بوصفه عاملا متفاعلا مؤثرا catalyst في العملية الكيماوية للإنتاج الأدبي. وكل ما نجده في هذا القسم المتصل بالتوصيات نوعان من الإشارة.

الأول: إشارة رئيسية ضمن عنوان:
(ه) الدراسات الأدبية والنقد والمقالة.
تحت هذا العنوان يغيب أي اهتمام خاص بدور النقد، وهناك توصيتان مهمتان ولكنهما غير جوهريتين تتصلان بالنقد الأدبي هما:

" 3- دراسة نظريات النقد الأدبي التراثي في ضوء المناهج الحديثة، وإعادة تنظيرها ونشرها على المستويين الأكاديمي والأدبي".

" 4- إعداد فهرس شامل متجدد لما يترجم إلى العربية من كتب الدراسات الأدبية الأجنبية والنقد وتوفيره للباحثين". (الخطة، م2، صم 66 - 67).

فهارس للترجمات النقدية

وليست هذه إلا ملاحظات استدراكية على جهد طيب، ولنعترف أن استقصاء كل الأمور عمل غير ممكن، ولا سيما في ظل ظروف مشروع عربي مشترك كمشروع الخطة الشاملة، يضاف إلى ذلك كله أن هناك جهودا كثيرة تصاعدت منذ الثمانينيات لتأصيل النقد العربي الحديث وربطه بقاعدته التراثية، وقد سبق أن أشرنا إليها في البحث الحالي. كذلك هناك جهود أخرى لإعداد فهارس للترجمات النقدية، ويؤمل من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم أن تتعهدها بالرعاية والتنظيم، أي تنظيم الجهود الفردية.

أما النوع الثاني من الإشارة إلى النقد فينحصر في تلك الإشارات التابعة المتعلقة ببعض الفنون الأدبية التي تتجه إلى النقد من الناحية التخصصية الخالصة.

فتحت بند (تذوق الشعر) هناك:

" 7- تشجيع النقد العلمي للشعر، وتحديد المصطلحات في هذا النقد، وإيضاحها، وليس يعني ذلك التحكم في دراسته، أو كيفية إبداعه، أو أساليبه، ولكن تمييز الغث من السمين فيه، وفرز الجيد من الردئ. والشعر الجديد لم يعد فيه الجديد فحسب، ولكن فيه أمورا أخرى تحتاج إلى مصطلح جديد في النقد" (الخطة الشاملة ص 56، 57، المجلد الثاني). وقد تعمدت إيراد هذه التوصية الطويلة لأشير إلى أن صياغتها لا تؤدي معاني محددة، والجملتان الأخيرتان منها لا تناسبان صياغة خطة شاملة تكون كلماتها مسئولة ومحددة المدلول. ثم إن النقد العلمي للشعر بعيد عن أحكام القيمة Value Judgment وهو يبرئ نفسه من تبعة تمييزالغث من السمين.

وتحت بند (القصص) الذي أتى مختصزا ومبتوراً بخلاف المسرح الذي أتى مفصلا ومبوبا (هل هذه عملية مقصودة؟!)، ترد توصية متعلقة بالنقد هي:

" 6- إصدار المعجم النقدي الخاص بالفن الروائي" (الخطة الشاملة ص 58).

وهذه هي المشكلة النقدية الوحيدة الخاصة بالقصة.

أما الانبتات الكامل للنقد القصصي عن تراث النقد العربي القديم، وما يتبع ذلك من ضرورة التأصيل، وأما البلبلة بين الاتجاهات الأيديولوجية المضمونية في نقد القصة وبين الاتجاهات الحداثية والشكلانية، وأما مشكلة نقد لغة القصة واختلافها عن نواحي النقد اللغوي الأخرى، فليس لها أثر حتى في محاضر الندوات المتخصصة التي عقدتها لجنة تخطيط الثقافة العربية على مدى سنوات.

وتحت بند (المسرح) ترد توصيتان الأولى تتعلق بالعناية بتخريج الناقد المسرحي الذي يجمع بين الثقافتين الأدبية والفنية معا.

والثانية:
11- إعداد الناقد المسرحي، فليس لدينا إلا الأديب الذي ينظر للنص، أو الحرفي الذي ينظر للعرض، والناقد المسرحي هو الذي يجمع الطرفين.
والملاحظ أن التوصيتين متداخلتان، ويفوتهما التركيز المبدئي على دور الناقد.

التبشير بأهمية النقد

وهكذا يتبين لنا أن نصيب النقد والنقد الأدبي في (الخطة الشاملة للثقافة العربية) أتى ضئيلا باهتا، ويعكس ذلك حقيقة واقعة هي ضآلة دور الفكر النقدي في جميع مستويات الحياة العربية، وربما أيضا يعكس- ولو من طرف خفي- وجود إحساس داخلي لدى المفكرين والمثقفين- وواضعو الخطة من أبرزهم- بضآلة الفرص المستقبلية للنقد، وبالتالي بعدم جدوى تعليق الآمال على مشجبه.

على أن هذا الاستنتاج يجب ألا يعطي انطباعا بالتقليل من أهمية النقد العربي وكفاحه لإثبات وجوده وفعاليته. فهناك دلائل لا يستهان بها تشير إلى أن الثقافة العربية بجانبيها النقدي والإبداعي تعمل جاهدة على التبشير بأهمية النقد، بل تمارسه وسط صعوبات ومخاطر هائلة، وتقدم تضحيات كثيرة في هذا المجال، وينبرى عدد كبير من المثقفين والمبدعين في كل مناسبة لرفع راية النقد والنقد الأدبي. إلا أن المشكلة تبقى في الموقف الاستبعادي العام لدور النقد، ويزيد الأمر خطورة امتداد هذا الموقف من المستوى الاجتماعي العام إلى مستوى جمهرة الأدباء والمثقفين الذين يتلذذ بعضهم بالتنكر لدور النقد والنقد الأدبي.