الإمبراطوريات صعودًا.. وسقوطًا يحيى الجمل

الإمبراطوريات صعودًا.. وسقوطًا

لم يحدّثنا التاريخ عن إمبراطورية قامت ودامت, وإنما حديث التاريخ وحكمه يقول لنا إن البشرية شاهدت إمبراطوريات كثيرة قامت ثم زالت.

في مصر قامت إمبراطوريات عدة في الزمن القديم, كلها بدأت وقويت, وانتشر نفوذها ثم بدأت تنحدر إلى أن تنهار.

والإمبراطورية الرومانية القديمة ملأت الدنيا وشغلت الناس, وقدمت للحضارة الإنسانية ــ في مجال القانون والنظم السياسية وأنواع الفنون, بل والرياضيات البدنية ــ تراثًا ضخمًا أثرى حياة البشر قرونًا عدة. ثم بدأت الإمبراطورية العريقة في اتجاه الانحدار ثم, الإنهيار.

ولعل كتاب (إدوارد جيبون) عن (اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها), والذي انتهى صاحبه من كتابته في السابع والعشرين من شهر يونيو عام 1787 في مدينة لوزان بسويسرا, والذي يقع في ثلاثة أجزاء, ونشر بأغلب لغات العالم الحية, ومنها اللغة العربية, يكون من المراجع الأساسية في تحليل أسباب انهيار الإمبراطوريات, وخاصة الإمبراطورية الرومانية.

ومن الصعب تقديم موجز لأفكار جيبون, ولكن يمكن القول إن أسباب انهيار الإمبراطورية الرومانية عنده لا ترجع إلى عامل واحد, وإنما إلى عوامل متعددة, لعل في مقدمتها الثراء الفاحش, الذي أصاب علية القوم واختفاء الطبقة الوسطى, التي تحتضن قيم وعادات المجتمع, ثم النزاع الديني بين الباباوات, ثم بينهم وبين الملوك والنزاع بين الرومانيين أنفسهم, ثم ظهور الإمبراطورية العثمانية وغزوها للقسطنطينية, وحروب البرابرة وانهيار سيادة القانون الذي كان سمة أساسية من سمات الإمبراطورية الرومانية, إذ على حد تعبير جيبون نفسه (لم يكن أحد يستطيع أن يعهد بحياته وأمواله لحماية قانون لا حول له ولا قوة), وذلك في أواخر أيام الإمبراطورية.

وقد يجوز لي أن أورد هذه العبارة التي وردت في آخر الجزء الثالث من كتاب جيبون, والتي تدل على ما آل إليه حال الإمبراطورية في أواخر أيامها (عند مقارنة أيام العداء مع الأجانب بعصور العداء الداخلي, فإننا نقرر أن العداء الداخلي كان أشد تخريبًا للإمبراطورية).

وقد حرصت على ذكر هذه الفقرات لأنها قد تكون من الأمور العامة والأسباب المشتركة لانتهاء الإمبراطوريات وخرابها.

وقد جاء الإسكندر الأكبر الذي كان بمنزلة إعصار هزّ أركان المعمورة, ثم انتهى أمره وأمر الإمبراطورية المقدونية إلى ما انتهى إليه أمر غيرها من الإمبراطوريات.

وقامت إمبراطورية فارس.

ثم جاء العرب يحملون في البداية حضارة الإسلام وبنوا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس, وبدأ الانهيار مع نهاية العصر العباسي الثاني.

وبدأ عهد المماليك, ثم قامت الإمبراطورية العثمانية لتستمر خمسة قرون ولتبدأ كأكبر قوة في العالم, وتنتهي بأن تصبح (الرجل المريض) الذي مات بعد ذلك ولم يبك عليه أحد.

وتعاصرت الإمبراطورية البريطانية مع الإمبراطورية العثمانية فترة من الزمن, ثم كانت سببًا من أسباب صرعها والنيل من أطرافها, ثم قلبها إلى أن زالت - أي الإمبراطورية العثمانية - وانتهت بعد الحرب العالمية الأولى.

واستمرت الإمبراطورية البريطانية إلى بعيد الحرب العالمية الثانية. ومصيرها معروف للمعاصرين من الكبار والصغار على سواء.

ولم يكن مصير الإمبراطورية الفرنسية أكثر إشراقًا ولا دوامًا من الإمبراطورية البريطانية. وجاء وريث جديد للحضارة الغربية بعد انهيار الإمبراطوريتين القديمتين البريطانية والفرنسية, وجاء الوريث الجديد هذه المرة من العالم الجديد - من الضفة الأخرى من الأطلسي, من أبناء وأحفاد المهاجرين من القارة القديمة.

وكانت الولايات المتحدة هي ذلك الوريث.

أفول القوى العظمى

وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى وقيام الثورة البلشفية, وعلى مشارف الحرب العالمية الثانية, كان الاتحاد السوفييتي قوة عظمى, وبعد الحرب العالمية الثانية, كان العالم يدور حول قطبين: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.

وظل العالم هكذا حتى اقترب القرن الماضي من نهايته حين آذن نجم الاتحاد السوفييتي في الأفول وانهارت الإمبراطورية الروسية بعد عمر لم يجاوز ستين عامًا منذ قيامها, وحتى سقوطها المدوي والسريع لأسباب عدة.

وانفردت - ولاتزال - الولايات المتحدة الأمريكية بسقف العالم.

ومنذ حكم ريجان وحتى الآن بدأ التوجه الإمبراطوري واضحًا.

والذي لا شبهة فيه أن التاريخ الإنساني لم ير إمبراطورية تضاهي الإمبراطورية الأمريكية في قوتها الاقتصادية ولا تدانيها في قوتها العسكرية.

ومع ذلك, فإن السؤال يبقى واردًا: هل ستدوم الإمبراطورية الأمريكية? أم أنه سيجري عليها حكم التاريخ, كما جرى على غيرها من إمبراطوريات سابقة. وما الأسباب?

هذا هو السؤال الذي نريد أن نعرض له في هذا المقال.

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبح العالم كله مسرحًا للاعب رئيسي واحد, كان طبيعيًا أن يعتقد هذا اللاعب أن من حقه أن تسود توجهاته وسياساته هذا العالم وأن تقوده إلى حيث تريد. وهذا هو التوجه الإمبراطوري بعينه الذي ساد عقيدة كل الإمبراطوريات في التاريخ بدءًا من الإمبراطورية الرومانية, وانتهاء بالإمبراطورية البريطانية.

وهذا ما تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في تصاعد منذ فترة حكم ريجان وحتى الآن.

وفي أمريكا مدرسة فكرية تبشر بهذا التوجه الإمبراطوري وتبرره, وهي المدرسة التي تسمى مدرسة (الصقور الجدد) والتي ترى أن مصلحة أمريكا تبرر لها التصرف المنفرد, وأن ما تراه أمريكا صوابًا فهو الصواب. وهذه المدرسة هي القريبة والمؤثرة في المؤسسة الحاكمة حاليًا.

وفي بلد مثل الولايات المتحدة, لا يمكن أن تنفرد مدرسة واحدة بالفكر كله, ففي مواجهة هذه المدرسة التي تبشر بالاتجاه الإمبراطوري, هناك مدرسة أخرى, تريد أن تحافظ على المثل الأمريكية التقليدية من ليبرالية وتسامح وسيادة للقانون.

ولكن الواضح أن المدرسة الأولى هي الأكثر نفوذًا على الأقل في الوقت الراهن, يقول إيمانويل تود صاحب كتاب (ما بعد الإمبراطورية) إن ذلك الزمن الذي كانت الولايات المتحدة الأمريكية تجمع فيه بين القوة الاقتصادية والقوة العسكرية والتسامح الفكري والثقافي قد ولّى وأصبح الآن بعيدًا جدًا.

هل هو لاعب وحيد?

وإذا كانت الولايات المتحدة هي اللاعب الرئيسي على المسرح العالمي الآن - بما يسمح لها بهذا التوجه الإمبراطوري - فهل يخلو هذا المسرح من لاعبين آخرين? ثم ما مصير هذا المسرح في المديين المتوسط والبعيد. وعلى ضوء الإجابة عن هذا التساؤل قد يتحدد مصير الإمبراطورية الأمريكية.

أبرز اللاعبين الآخرين, وإن كان في صمت وخبث ودهاء هو اللاعب الصيني الذي يتأكد كل يوم وجوده الاقتصادي الفاعل على المسرح العالمي كله, بل إن وجوده العسكري بدأ هو الآخر يتحرك وراء وجوده الاقتصادي.

الصين الآن تمثل تحديًا حقيقيًا سواء من الناحية الاقتصادية - بل أساسًا من الناحية الاقتصادية - ومن الناحية العسكرية لقوة الولايات المتحدة.

وإلى الشرق من الصين - وإلى الغرب من الولايات المتحدة الأمريكية نفسها - يوجد لاعب آخر هو اليابان التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مدمّرة اقتصاديًا ومعنويًا, وأصبحت الآن بعد نصف قرن من الزمان قوة اقتصادية جبّارة تؤثر في موازين القوى الاقتصادية في العالم تأثيرًا غير قليل.

وإذا تركنا الشرق, واتجهنا نحو الغرب, سنجد قوتين أخريين بازغتين على المسرح العالمي, سنجد أوربا التي هي في طريقها إلى التوحد وبناء ولايات أوربية متحدة - بالرغم من بعض النكسات - وسنجد أيضًا روسيا, التي بدأت تصحو من جديد, وكل منهما - أوربا وروسيا - تمثل قوة اقتصادية وثقافية وعسكرية أيضًا على المسرح العالمي لا يستهان بها.

وتتوقف صورة المستقبل في كثير من جوانبها على علاقة الولايات المتحدة بهؤلاء اللاعبين الآخرين على المسرح الدولي بصفة أساسية, وكذلك, وعلى نحو أقل, علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بكثير من دول العالم الثالث.

فكيف ستسير الأمور?

ليس هناك احتمال واحد.

الاحتمال الغالب في المدى المنظور أن يستمر التوجه الإمبراطوري وذلك يعني أن يزداد العالم عنفًا وعنفًا مضادًا, وقد نشاهد ضربة استباقية ضد إيران لحساب إسرائيل, وستزداد الضغوط على سورية. يقول إيمانويل تود في كتابه: (ما بعد الإمبراطورية دارسة في تفكك النظام الأمريكي) - وإنه لأمر غريب أن يرى المرء أهمية العلاقة مع إسرائيل إلى جانب علاقة معادية شاملة للولايات المتحدة مع العالم العربي, وبصورة أوسع مع العالم الإسلامي, حيث إن عقلانية هذه العلاقة أمر عسير على الفهم (ويرى الكاتب أن أي توجه عقلاني لابد أن يؤدي إلى علاقة جيدة مع العالم العربي والإسلامي, حيث توجد مصالح أمريكية واسعة, ولكن التوجه الإمبراطوري هو الذي يدفع إلى هذا الانحراف غير العقلاني, وإلى الانحياز الأعمى المطلق لإسرائيل مع كل عدوانيتها, بل ويبدو من أجل عدوانيتها.

وستزداد العلاقة توترًا مع أوربا, التي ستنمو اقتصاديًا وتكنولوجيًا, وستخطو خطوات أوسع نحو مزيد من التقارب والتضامن والتفاهم بين أوربا (القديمة) وأوربا (الجديدة).

وهناك من الشرق الأقصى سيأتي التهديد الحقيقي للإمبراطورية الأمريكية من جانب الصين ذلك العملاق الرهيب, الذي يزداد كل لحظة قوة اقتصادية وقوة عسكرية.

وستزداد أمريكا بعدًا عن القواعد الأخلاقية في السلوك, كما أن سيادة القانون وكرامة الفرد, التي كانت سمة من سمات الحياة الأمريكية ستتراجع بدورها أيضًا.

وسيزداد تهميش أمريكا لمنظمة الأمم المتحدة, وسيزداد حرصها على أن تقود العالم بقرارات منفردة, تتخذها بغير أي مراعاة للشرعية الدولية, وذلك بحسبان أن التوجه الإمبراطوري يفترض أن ما تراه أمريكا صوابًا فهو الصواب.

ولست أنا الذي أقول هذا الكلام, وإنما يقوله أنصار التوجه الاستعلائي الإمبراطوري.

متى يبدأ الانهيار?

ويقول لنا التاريخ إن الإمبراطوريات عندما تفقد أساسها الأخلاقي والقانوني تؤذن بالانحدار الانهيار.

الخلاصة أنه مع استمرار التوجه الإمبراطوري الأمريكي سيزداد العالم توترًا وعنفًا, وستزداد الكراهية لأمريكا (الدولة) في شتى أنحاء المعمورة, وليس في المنطقة العربية فحسب.

هذا عن الاحتمال الأول, وهو احتمال استمرار التوجه الإمبراطوري الكريه.

أما الاحتمال الثاني, فهو أن تنتصر القوى العاقلة في المجتمع الأمريكي, وهي قوى موجودة ومؤثرة. وسيؤدي هذا بدوره إلى مزيد من العقلانية والتوازن مع قوى العالم المختلفة, سواء في أوربا أو في الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى.ومع هذا الاحتمال, تختفي الضربات الاستباقية, ويستعيد التنظيم الدولي عافيته, وتعود منظمة الأمم المتحدة لتؤدي وظيفتها الحقيقية في المجتمع الدولي, وتخرج عن أن تكون مجرد أداة في يد أمريكا, ويشاهد العالم نوعًا من العدل في العلاقات الدولية, وتتراجع إلى حد ما المعايير المزدوجة في هذه العلاقات. ولا تظل أمريكا وحدها شاردة بعيدة عن الاتفاقيات الدولية, التي توصل إليها العالم من أجل تخفيف حدة التوتر, وتحقيق قدر أكثر من العدالة الدولية.

إذا تحقق هذا الاحتمال, فإن أمريكا ستعود إلى العالم, وسيعود إليها العالم, وستصبح هي القوة الأولى في العالم المعاصر إلى المدى المنظور, ولكن سيختفي من سياستها ذلك التوجه الإمبراطوري البغيض الذي أكسبها كراهية العالم كله عدا إسرائيل.

وهكذا في الاحتمالين لابد أن تنتهي (الإمبراطورية) حتى وإن اختلفت الطرق والأساليب.

أحد الطريقين يؤدي إلى سقوط الإمبراطورية نتيجة التناطح مع العالم والاستعلاء عليه.

والطريق الآخر يؤدي إلى ذوبان الإمبراطورية لتصبح قطبًا بين أقطاب متعددة, ذلك لأن انفراد قطب واحد بسقف العالم أمر تدل كل الظواهر على أنه يقترب من نهايته, والحمد لله.

 

يحيى الجمل