عبدالسلام عيد وإبداع الجداريات

عبدالسلام عيد وإبداع الجداريات
        

          عبدالسلام عيد أحد نجوم الفن التشكيلي السكندري في مصر, صاحب أشهر جدارية تتزين بها عروس البحر الأبيض المتوسط على شاطئه, تمتد لأكثر من 300 متر طولاً, وخمسة أمتار ارتفاعًا لتكون أحد معالم الإسكندرية المضيئة بتراكيب ممزوجة بالحب, وليس الافتعال, تتعامل مع مفردات العصر وإيقاعاته, وحلم المستقبل والتاريخ وإرهاصاته, من خلال الإيقاع والموسيقى ولغة الفن التشكيلي.

          إنها إحدى المحطات الرئيسية في فن عبدالسلام عيد المتمثل في جدارياته المتعددة, والتي تعدت حدود مصر إلى ليون بفرنسا وجدة بالمملكة العربية السعودية, إنها جدارية شعبية لا تستخف بأذواق الناس, ولدت دون حواجز لتؤهله للحصول على جائزة الدولة التقديرية في مصر عام 2005م.

          الفنان الحقيقي لابد أن يعمل من خلال رسالة, وهي جزء من طبيعة الفنان تدفعه نحو موقف معين وفكر معين وشرارة يمكن أن تولّد إبداعًا غير عادي, لابد أن يكون صاحب قضية, والقضية ليست في عمل لوحة, لكنها علاقة وطيدة بين الفنان والناس والواقع والتاريخ ولحظات النهضة ولحظات غياب وعودة الوعي, ورسالة الفنان عبدالسلام عيد في التواصل مع أبناء شعبه تدعوه إلى الارتقاء بالفن والعودة إلى الأسلاف, وهو يؤمن بأنه طريق صعب, ففنوننا نبع مستمر يجب أن نضيف إليه ونتألق به, فرصيدنا لا ينضب ولا ينتهي, لكنه يحتاج إلى مزيد من الثقة بالنفس, فنحن نملك لغتنا, ومهما أوتي الغرب من تطور في لغة الحرب والصناعة والعلم, فإنه أتى بمفاهيم تختلف عن حضارة الشرق لكن لها سماتها. نحن نملك حضارتنا منذ وجد نهر النيل وأجدادنا الذين علّموا العالم, ليس شرطًا أن أكون ضاربًا في التكنولوجيا حتى أبدع شيئًا يمثلني ويمثل انتمائي, لكن لغة الحوار من خلال الفن التشكيلي لها ملامحها ومعطياتها ومغزاها ومضمونها الإنساني, إنها الدعوة لنمتلك مضامين ومشاعر نتبادلها بتعاطف بيننا لتكون الغاية والعالمية!

          استطاع الفنان عبدالسلام عيد أن يحقق هدفه - أو جزءا منه - في جدارياته, التي يدعو من خلالها إلى مداعبة الحواس وإخراج المخزون الجمالي لدى الناس على مختلف نوعياتهم ومهنهم وثقافاتهم, ويصل إلى الغاية من الموضوع.

          إن رحلة الفنان عبدالسلام عيد الإبداعية, أهم ما يميزها أنها تمت بمعزل عن تفاعلات خارجية كثيرة, رحلة الجدارية بدأت مع أولى خطواته العملية بعد تخرجه في كلية الفنون الجميلة السكندرية عام 1969, وبداية تعرّفه على أسلوبه الشخصي وملامحه, الجدارية كانت حلمًا يراوده, حيث يؤمن بأن الجدار بصفة عامة يتفاعل أكثر مع من حوله, فالجدار يمكن أن يُقدّم عليه عمل فني يشع ويثير ويحاور آخرين, ويؤكد رغبته الدفينة في التواصل مع المجتمع المحيط به, القطيع الذي ينتمي إليه ليكون واحدًا من الجماعة بفعل معين أو حوار بمفاهيم أكثر صدقًا, وأكبر حقيقة من الأشياء أوالحوار التقليدي, فالأعمال الجدارية تحقق وصلا وصلات كثيرة بين الناس, وتفجّر قضايا صامتة ومهمة, لذلك كان فناننا عبدالسلام عيد أحد مؤسسي شعبة التصوير الجداري في قسم التصوير بالكلية عام 1982, لتقع عيناه كل يوم على الجدران والحوائط, وكان حلمه في أن يأخذ التصوير الحائطي أبعادًا اجتماعية, ليعاونه مجموعة طلاب الشعبة الجديدة بين عامي 83 و1984 في تنفيذ تصميمه للعمل الحائطي الذي يزيّن الكلية من الخارج في مبنى جاناكليس بإمكانات وخامات بسيطة, لتبدأ من خلالها رحلة الخامات, واكتشاف لغة جديدة تأخذ أبناء هذا التخصص إلى أماكنهم في المجتمع, وهي مخاطبة الناس بمفاهيم وقضايا التصوير من خلال هذه اللغة, ليختزن فكرة تحويل جدار سور مستشفى القوات المسلحة في قلب الإسكندرية إلى عمل فني, ولكن بشكل غير محدد, وظلت هذه الفكرة تنمو بالاشتعال تارة, والنسيان تارة أخرى نتيجة انشغاله بمشواره الفني وسفرياته الفنية. وظلت فكرة عمل حائطي في قلب الإسكندرية تراوده, إلى أن تقدم بهذا العمل لمحافظ الإسكندرية عام 1985, ولم يلق الاهتمام, ولم ير النور في تلك السنوات. وقد كانت رسوماته كاملة بشكل أكثر تلخيصًا, وبساطة, وكانت الفكرة أجزاء من العمل احتوتها, ولكن مع بداية التنفيذ فيما بعد أضاف الفنان مساحات ورؤى جديدة, وقد ظلت حبيسة حتى عام 1997 عندما تقدم بالفكرة لمحافظ الإسكندرية اللواء عبدالسلام المحجوب, أثناء قيامه ضمن نهضة فنية جمالية بافتتاح جدارية كلية الفنون الجميلة بمبنى مظلوم, ليساند الفكرة ويطلب على الفور تقديم الأفكار الخاصة بهذا العمل, لتبدأ بالفعل رحلة التنفيذ والمعايشة, ويصبح الفنان وجهًا لوجه أمام المسرح, هذا المسرح هو الإسكندرية, حائط امتداده 162مترًا في مواجهة البحر فقط, والعمل بطول يزيد على 300 متر, ويتطلب التصميم في هذه المساحة أن يكون موسوعيًا معبّرا عن المدينة في كم من الإسقاطات التاريخية, من الآمال والأحلام لمستقبلها ومستقبل مصر, إسقاطات للعالم بشواهده الحديثة, وتقدمه, وإن كانت صراعات العالم تقدمت بشكل مثير دون الخوض في دراما وعنف, العالم المعاصر بتأججه وتلاطم أمواجه في اتجاهات عدة يشير إليها العالم بأشكال مختلفة وألوان حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء, عالم مهندم ومنظم وعالم فوضوي, كل هذه المظاهر تشير إلى متغيرات هذا العالم, وحلم أن يخرج من وراء هذه المتغيرات ملامح جديدة للإنسان المصري, موجة جديدة من النظام والفهم والثبات تقدر قيمة العلم والمعرفة والجمال والفن والسلام, كانت هذه الإشارات في المرحلة الثالثة في تنفيذ الجدارية, أما المرحلة الوسطى, فيمتزج فيها المستقبل بالحاضر والماضي في لوحة لها إطار مزخرف بالحبال, تحمل شعار الإسكندرية, تحمل ديناميكية عالية مع نغمات من تاريخ الفنون السكندرية في ملامح الفن اليوناني والبطلمي والقبطي, المرحلة الأولى للجدارية, واختيار عناصر من الآثار تمثل ذلك التاريخ الذي هو جزء من حضارة وادي النيل, الذي رمز إليها بالهرم الذي يجمع بكل ترسباته تألق الإسكندرية في العصر البطلمي بالفنار, ومكتبة الإسكندرية, التي كانت منارة للعلم والثقافة, وملتقى ومركزًا للتبادل الثقافي والفكري والسياسي ليكون الهرم هو العادل لكل هذه المعاني.

          الجانب المؤكد في هذه الجدارية أن صياغتها لاهي تاريخية ولا أدبية, لكن الرموز تشكيلية تأخذ من التاريخ والانطباعات لتتحول إلى لغة من الألوان والخطوط والكتل والإيقاعات, وهي لغة الفن التشكيلي, وجانب آخر هو عامل الزمن, حيث إن هذه الجدارية تحتاج إلى سنوات لتنفيذها, كما يحكي التاريخ في مثل هذه الأعمال, لكن الزمن الذي أنجزت فيه هذه الجدارية العملاقة يؤكد المعاناة والصمود, حيث استغرق العمل في كل مرحلة من مراحلها الثلاث أربعة شهور فقط!!

المدينة الفاضلة

          في إطار الاحتفال بإحياء ذكرى الفنان المعماري الفرنسي توني جرانيه عام 1993وتحويل أعماله لمتحف مفتوح وتدعيمه بالانفتاح على العالم بست ثقافات مختلفة تعبر عن المدينة الفاضلة, اختارت هيئة اليونسكو الفنان المصري عبدالسلام عيد ليمثل مصر إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والهند وساحل العاج, ويشارك ببصمة مصرية على واجهة إحدى العمائر, التي صممها المعماري توني جرانيه في مدينة ليون الفرنسية تعبر عن فكرة المدينة الفاضلة, التي تقوم على احترام الثقافات المختلفة للإنسان في كل زمان ومكان, ليلتقي الزمن في مدينة الفنان عبدالسلام عيد الفاضلة بأبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. وموضوع المدينة الفاضلة أو المثالية كان محط اهتمام أعمال الفنان الإبداعية, فقد شارك في بينالي فينيسيا الدولي عام 1984 بعمل فني يحمل اسم (المدينة), وفي بينالي ساو باولو عام 2002 شارك بعمل المدينة الحائرة.

          جداريات وأعمال الفنان عبدالسلام عيد تتضمن حوارات بين الخامات والوسائط والمجالات, فتتعدى المسطح إلى التجسيم والنحت, بالإضافة إلى التصوير واللون لتضم مجالات التصوير والنحت والعمارة يضمها في علاقة متجانسة متناسقة, متوافقة, وقد كان هذا الاتجاه هو موضوع بحثه في الدكتوراه, التي حصل عليها في أكاديمية أوربنيو بإيطاليا بعنوان: (وحدة العلاقة بين النحت والتصوير والعمارة), وقد حصل عليها عام 1976, ذلك العام الذي شهد (صدمة المستقبل) العمل الذي شارك به الفنان في بينالي الإسكندرية, وحصل به على الجائزة الأولى, وقد أثار جدلاً وحيرة بين المحكمين في تصنيفه ضمن مجال النحت أم التصوير وهو العمل الذي كان يقف مستقلا بعيدًا عن الحائط وسط القاعة, يُرى من الوجوه الأربعة مدعمًا بالإضاءة.

          عام 1993, شهد تجربة جديدة للفنان عبدالسلام عيد لعمل جدارية على حائط ضخم في قاعة المؤتمرات بجامعة الملك عبدالعزيز بمدينة جدة تقدم لها فنانون من السعودية, ولبنان وسورية وإيطاليا, واختيرت فكرة الفنان عبدالسلام عيد, وقام بتنفيذها, وخلال خمس سنوات, قام بتصميم وتنفيذ مجموعة من الأعمال الميدانية أولها مجسم (المدينة) بارتفاع 35 مترًا, عبّر فيه الفنان عن النهضة العمرانية في جدة, استخدم فيه شكل القوقعة الضخمة, وكتابًا مفتوحًا عليه مركب تحمل الأقلام وأدوات المهندس, ثم جدارية بيت الفنانين التشكيليين, التي استخدم فيها الفخار الشعبي الموجود في مكة, والمسقاة ذات الشكل المميز, وطوع الوحدات الفخارية في هذا العمل, كما قام الفنان بعمل مجسمات عدة في جدة أهمها (آفاق القرن 21) في حديقة الأندلس والذي يحمل ملامح التغنّي بالعلم والفكر المعاصر وحلم التخطي لحدود أرحب, وأن نأخذ بأسباب العلم مع تراثنا وملامحنا. كانت هذه التجربة بمنزلة خطوات للفنان في التعرف على خامات كثيرة وإمكانات ضخمة في التنفيذ من خلال المحاجر والأوناش.

          وقام الفنان أيضًا بعمل العديد من الجداريات في مصر: جدارية واجهة فندق سان جيوفاني عام 1990, والتي تضم ثماني نوافذ قدم فيها حلولاً ذكية لها في وجود هذه النوافذ, جدارية كلية طب الإسكندرية عام 1996 بارتفاع 12 مترًا, وامتداد 19مترا تحكي عوالم الطب القديم والحديث, جدارية كلية الفنون الجميلة مبنى مظلوم عام 1997, وقد كانت محكًا صعبًا, وتعتبر أول لوحة في العالم تنفذ على زجاج الأسطح الحاملة لها من الزجاج المسلح بالسلك ضد الصدمات. وحدات الجدارية مركبة على الوحدات الزجاجية بالسيلكون, فلا توجد أي مواد ربط تقليدية كالرمل والزلط والأسمنت, هي نظام جديد تم فيه حساب تأثير حركة الترام الذي يمر أمام الكلية والألواح الزجاجية وضعت على وسائد من الرصاص حتى لا تحدث شروخًا فالأسلاك الموجودة داخل الزجاج, تمتص الصدمات, وإن كُسر لوح الزجاج فيحتفظ بمكانه, لأن الطبقات المكونة من السيلكون والموزاييك والسلك والزجاج قوية وصلبة ومرنة جدًا.

          إن أعمال الفنان عبدالسلام عيد الجدارية تظل صامدة ورمزًا يقاوم عوامل المناخ والظروف المحيطة, فهو يقوم بدراسة المكان الذي سيقيم عليه الجدارية من جميع الجوانب لتظل رمزًا باقيًا, شاهدًا على فكر وثقافة الفنان المنتمي إلى بيئته وتراثه وثقافته.

 

محمد الناصر   

 
  




المدينة الفاضلة - الجدارية المصرية بمتحف توني جارنيه مدينة ليون - فرنسا





الفنان د. عبد السلام عيد





جدارية كلية طب الإسكندرية 1998





صدمة المستقبل - بينالي الإسكندرية لدول حوض البحر المتوسط 1976 - الجائزة الاولى للفنان عبد السلام عيد





النصب التذكاري بمتحف كوكب الشرق أم كلثوم بالقاهرة





جزء من جدارية الإسكندرية (2002 - 2003)





المدينة للفنان عبد السلام عيد - بينالي ساو باولو 2002





مجسم جامعة الملك عبد العزيز - جدة 1998





جزء آخر من جدارية (الإسكندرية) سور مستشفى القوات المسلحة - كورنيش الإسكندرية - 2000 - 2003





المدينة - بينالي فينيسيا الدولي 1984