ابن زيدون.. أضحى التنائي بديلا عن تدانينا!! تقديم واختيار: سعدية مفرح

ابن زيدون.. أضحى التنائي بديلا عن تدانينا!!

وهذا شاعر آخر من شعراء العربية الكبار الذين احترقوا بنار السياسة, وهم يتقلبون على جمر الشعر والهوى, فكان نموذجا مثاليا, لصورة الشاعر التقليدية في زمان مضى, حيث الشعر سبيل للحظوة لدى أهل الحكم, وطريق للمجد, في خريطة الحياة, ولكنه أيضا, سبب في انهيار كل ذلك قبل الوصول الأخير.

إنه أبو الوليد أحمد بن عبدالله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي الأندلسي (394 - 463 هـ) (1003 - 1070 م) صاحب أشهر قصيدة في الشجن البشري عندما يكون إطارًا للفرقة بين عاشقين شاعرين. فبالرغم من (غموض) العلاقة العاطفية التي ربطت هذا الشاعر الأندلسي الطموح بالأميرة الشاعرة ولادة بنت المستكفي, وطبيعتها الخاصة المراوحة ما بين الرفض والقبول, وما بين السلب والإيجاب, وما بين الوفاء, والجحود, أو الإخلاص والخيانة, فإن عشقا حقيقيا ظل يكنه ابن زيدون لشاعرته الأزلية في كل مراحل حياته وتقلباتها السريعة, وقد ظهر كثير من هذه التقلبات المؤكدة بثبات العشق في قصيدته الشهيرة والتي يقول في مطلعها:

أضحى التنائي بديلا عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا


وقد مارس ابن زيدون هذا العشق بأسلوبه الخاص جادا وهازلا, عبر مؤامرات صغيرة وكبيرة, دأب على حياكتها بنزق الشاعر وطموحه الخرافي نحو السلطة حينا, أو الهوى في منتهاه حينا آخر, أو نحوهما معا في بقية الأحايين. ولا تحلو لشاعر مثل ابن زيدون مثل هذه المؤامرات الجادة الهازلة إلا بوجود خصم في السياسة, أو غريم في العشق, وقد توافر له الاثنان في شخص واحد هو ابن عبدوس الذي صورته لنا كتب الأدب, ومنتجاته المستمدة من سيرة هذا الشاعر وعصره المتغير سريعا, على أنه شخص بغيض يمكن اعتباره نموذجا للعذول في ديوان الشعر العربي الغزلي. لكن كتب التاريخ تغير تلك الصورة قليلا, وتمدنا بتفاصيل أكثر وضوحا عبر تفاصيل السيرة الذاتية للشاعر الذي تلقى تعليمه وثقافته على عدد كبير من علماء عصره في الأندلس, قبل أن يتصل بالكثير من الأعلام في مجالي الأدب والسياسة, فتوطدت علاقته أولا بأبي الوليد بن جَهْور حيث ساهم الشاعر بدور ما, غالبا على الصعيد الإعلامي شعرا, في إلغاء الخلافة الأموية بقرطبة, لصالح صديقه ابن جهور, الذي صار حاكمًا أو ملكا من ملوك الطوائف, ومن ثمة حظي (ابن زيدون) بمنصب الوزارة في دولة (ابن جهور), واعتمد عليه الحاكم الجديد في السفارة بينه وبين الملوك المجاورين, إلا أن (ابن زيدون) لم يقنع بأن يكون ظلا للحاكم, واستغل أعداء الشاعر ومنافسوه هذا الغرور منه, وميله إلى التحرر والتهور فأوغروا عليه صدر صديقه القديم, ونجحوا في الوقيعة بينهما, حتى انتهت العلاقة بين الشاعر والأمير إلى مصيرها المحتوم, وهو مصير يشبه مصائر الكثير من العلاقات التي تربط أهل الشعر بأهل السياسة.

كانت ولادة أميرة جميلة مثقفة شاعرة مغنية, لها مجلس بقرطبة يضم أشهر مثقفي وشعراء هذا العصر, أحبها ابن زيدون, وأحبته هي أيضًا, ثم صار بينهما ما يصير غالبا بين الأحبة من جفوة طالت لأسباب واهية كما يبدو, ولكي تغيظه وجدت عاشقًا جديدًا هو الوزير أبو عامر بن عبدوس.. وحاول ابن زيدون إبعادها عن ابن عبدوس واستعادة الأيام الجميلة الماضية, لكنها رفضت, واتهمه ابن عبدوس بأنه ضالع في مؤامرة سياسية لقلب نظام الحكم وزُجَّ به في السجن.. وكتب ابن زيدون قصائد كثيرة يستعطف فيها (أبا الحزم بن جهور) حاكم قرطبة, كما كتب قصائد أخرى لأبي الوليد بن أبي الحزم ليتوسط لدى أبيه, وكان أبو الوليد يحب ابن زيدون, لكن وساطته لم تنفع, فهرب ابن زيدون من السجن, واختبأ في إحدى ضواحي قرطبة وظل يرسل المراسيل إلى الوليد وأبيه حتى تمَّ العفو عنه, فلزم أبا الوليد حتى تُوُفِّيَ أبو الحزم وخلفه أبو الوليد الذي ارتفع بابن زيدون إلى مرتبة الوزارة. بعدها جعله أبو الوليد سفيرًا له لدى ملوك الطوائف, وقد أدى دوره باقتدار, قبل أن يتهم مرة أخرى بالاشتراك في محاولة قلب نظام الحكم على أبي الوليد بن جهور الذي غضب عليه, فارتحل ابن زيدون عن قرطبة وذهب إلى بلاط المعتضد بن عباد في إشبيلية, وهناك لقي تكريمًا لم يسبق له مثيل, ثم زادت مكانته وارتفعت في عهد المعتمد بن المعتضد, الذي كلفه بأعمال سياسية تليق بخبرته وطموحه, وإن كانت قادرة على أن تقضي عليه أحيانا, ومنها رحلته إلى اشبيلية عندما ثارت العامة على اليهود هناك, فطلب المعتمد من ابن زيدون التدخل لتهدئة الموقف, واضطر ابن زيدون لتنفيذ أمر المعتمد, بالرغم من مرضه وكبر سنه, مما أجهده وزاد المرض عليه فدهمه الموت هناك, حيث رحل تاركا وراءه قوافي تترى وعشقا لم تنجح الدسائس والمؤامرات والتجافي في أن يمحوه من قلب الشاعر أو من قلب حبيبته الشاعرة.

ومن أهم أعمال ابن زيدون الباقية للآن - غير ديوانه الشعري الذي غلب عليه الطابع الغزلي - (الرسالة الجدية) التي استعطف فيها ابن جهور ليخرجه من السجن, و(الرسالة الهزلية) التي كتبها على لسان ولادة ذمًّا في ابن عبدوس حبيبها الجديد, ورسالة الاستعطاف التي كتبها الشاعر بعد فراره من سجنه وعودته من (إشبيلية) إلى (قرطبة) مستخفيًا ينشد الأمان.

ولابن زيدون كتاب في تاريخ بني أمية سماه (التبيين) وقد ضاع الكتاب, ولم تبق منه إلا مقطوعتان, حفظهما لنا (المقري) في كتابه الكبير: (نفح الطيب).

هنا.., في هذا العدد, نستظل بظلال ابن زيدون الشعرية, معجبين بهذا الشاعر الكبير, والذي كان مدرسة خاصة من مدارس القصيد العربي.

 

تقديم واختيار: سعدية مفرح