الطب والأدب أو الزوجة والعشيقة أحمد علبي

ثنائية الطب والأدب قدمت لأفق الإبداع نجوما لوامع، لكن هذه الثنائية المدهشة ما زالت في حاجة إلى المزيد من الضوء، لعل يستبين كنهها.

هناك نوع من المعرفة تدعونا الحياة دائما إلى تحصيله والتمتع به، ويتمحور حول الاحتكاك بالناس والمجتمع والطبيعة وفي التفاعل مع هذه العناصر جميعها. ومن قصر زاده على الكتب فهو قد استرشد بقول شوقي: "أنا من بذل بالكتب الضحابا". ويهمنا هنا التأكيد على أن الصحائف وحدها تجربة ناقصة، فمن يعش، مهما لاقي من انتكاسات، بغير صحب وبشر ومجتمع يغلي بالحركة، فهو الخاسر.

المادة الأخاذة

ومن هنا ندرك أن الأطباء الأدباء يلمعون غالبا في ميدان الأدب، لأنهم بحكم مهنتهم الأولى، وهي الطب، يقلبون الملفات الإنسانية ويتعرفون على هذا الكائن المحير على الطبيعة من غير أقنعة ولا أسيجة. ولا أبسط من المرء عندما يقف بين يدي نطاسي، مهما كان هذا المرء معقدا وكتوما، فهو يتعرى أمام الطبيب البارع جسديا ونفسيا، ويدع جانبا كل القفازات والحيل الاجتماعية التي يختبى وراءها معظم الناس. كل القاع النفساني والروحي، الحافل بالغرائب والمفارقات والهموم، يتبدى شريطا ناطقا أمام بصر الطبيب وسمعه وحسه، فكيف إذا كان، بالإضافة إلى ذلك، أديبا تهزه اللحظات المختلجة بالصدق والشفافية، المعبرة عن تمزقات إنسانية وسقطات وكآبات؟ إنه العالم الخفي، الجياش بالمفاجآت والعلاقات غير المألوفة أحيانا، ينطرح كتلة من الحقائق الشائقة المتوترة بين يدي الطبيب الأديب، فأي مادة قصصية تتهيأ له، وهي بحد ذاتها ثروة متوهجة، فكيف إذا ما أفادت منها واستثمرتها فنيا موهبة أدبية لماحة نفاذة؟

الأطباء الأدباء

وفي أدبنا العربي وفرة من الأطباء الأدباء، ونعرض ههنا بداية لمن تعاطى منهم الشعر، وذلك أن هذا النوع الأدبي يختلف بعمق عن الصنيع القصصي والروائي. إن نقولا فياض وأحمد زكي أبوشادي وإبراهيم ناجي، على سبيل المثال، مارسوا الطب والشعر. ونقولا فياض (ت 1958)، الطبيب الحاذق والخطيب المفوه، هو صاحب الترجمة العربية الجميلة لقصيدة "البحيرة" للشاعر الرومنطيقي لامرتين. وفي هذه القصيدة يقتفي فياض أثر ابن زيدون في نونيته الشهيرة "أضحى التنائي بديلأ من تدانينا" التي يبث فيها وجده إلى محبوبته ولادة.

وصرف أحمد زكي أبو شادي (ت 1955) عشر سنوات من حياته في لندن حيث درس الطب والبكتريولوجيا. وقفل إلى مصر حيث مارس النشاط العلمي المتعدد الوجوه، وأصدر المؤلفات العديدة في فن تربية النحل، وصار وكيلا لكلية الطب بجامعة الإسكندرية. على أن حيويته الأدبية كانت عارمة أيضا ولافتة، فقد أنشأ مجلة "أبولو" عام 1932 التي تزعمت التجديد الشعري، ونشر ما ينيف على الثلاثين ديوانا من الشعر القصصي والمسرحي. وهذه الدينامية الأدبية الفياضة حملت أبوشادي بعدها على الانصراف إلى الشعر والأدب وهجران الطب. أما إبراهيم ناجي (ت 1953) الطبيب الذي أصدر عام 1934 مجلة طبية شهرية هي "حكيم البيت"، فهو يستهوينا بعذوبة نظمه وطلاوته، وبهذا الدفق من الحنين والأسى. وهو صاحب قصيدة "الأطلال" التي تشدو بها معجزة الغناء أم كلثوم.

ولم يكن الطب عند هؤلاء المتقدمين حائلأ دون الشعر، وبشكل خاص إذا كان الشعر غنائيا ينعقد حول الذات أو يتعلق بالمناسبات أو الوطنيات. أما إن كان الأمر عائدا إلى تعاطى الأعمال الشعرية المنوطة بالمسرح فإن هذه تتطلب، شأن الرواية، عمرا بأكمله. على أن سوسة الأدب مفسدة على الأطباء الأدباء- ولا شك- الطبابة، ومبعدة إياهم أحيانا عن الإجادة فيها. عرفت صديقا طبيبا أديبا، جم الثقافة متألق الفكر ممتعا، وكان يتحدث معي عن همومه الأدبية طويلا ويعرض لمهنته قليلا، وإذا ما أسلمته جسمي ليفحصه وصف لي أدوية شافية قلما أعثر عليها في الصيدليات، لأنها تعود إلى أيام الحرب العالمية الثانية! ولا أدري المستوى الطبي للدكتور عبد السلام العجيلي، الروائي السوري العربي المرموق، وإن كنت على ثقة تامة من الدور الاجتماعي والإنساني لطبيب مقيم في بلدته العريقة "الرقة"، الواقعة على الفرات في منطقة الجزيرة، وذلك بين حلب ودير الزور. ولكن ما أدريه أن الكثير من أدبه تداخل فيه الطب والأدب تداخلا حميما، وما أدريه أيضاً أن العجيلي، بما يتوافر في أدبه من مزايا إبداعية، سواء في المضمون أو الصياغة، كان بمكنته أن يلعب، في سياق الأدب في سوريا والوطن العربي، دوراً تأسيسياً أكبر وأجل وأغزر، لو كان منصرفا إلى الأدب انصرافا احترافيًا.

يوسف إدريس

سأقف الآن هنيهة عند طبيب مصري هجر قصر العيني ونفح الأدب العربي آثاراً بديعة، أعني به الراحل الذي فقدناه حديثا يوسف إدريس. مارس أديبنا اللامع مهنة الطب لسنوات معدودات، ثم كان من الطبيعي أن يتركها. فيوسف إدريس، على شاكلة أنطون تشيكوف، بدأ كتابة القصة مذ كان يدرس الطب، وعلى شاكلة تشيكوف أيضا سرعان ما بزز في الكتابة القصصية. ونحن نخالف طه حسين في التمني الذي أبداه حيال يوسف إدريس، وذلك في المقدمة التي كتبها لمجموعته القصصية الثانية "جمهورية فرحات" (سلسلة "الكتاب الذهبي" التي كان يصدرها نادي القصة، يناير 1956). وكانت هذه المقدمة بحد ذاتها حدثا لطيفا عميق المعنى، ولم يكن اللطف الإنساني الجذاب بغريب عن عميد الأدب العربي، وذلك إذا ما عرفنا أن هذه المقدمة جاءت إثر المعركة الحامية بين رواد الواقعية، من أمثال محمود أمين العالم وعبدالرحمن الشرقاوي، وبين الأدباء الكبار من الجيل السابق عليهم، من أمثال طه حسين وعباس محمود العقاد. يتمنى طه على يوسف إدريس " ألا ينقاد للأدب ولا يمكنه من أن يشغله عن الطب أو يستأثر بحياته كلها. فالأدب يجود ويرقى ويمتاز بمقدار ما يجد عند الأديب من مقاومة له وامتناع على مغرياته وانصراف عنه بين حين وحين". ولعمري فهذا رأي أجده غير مألوف، لأن طه أدرى مني وأعلم أن الأدب عسر وليس يسرا، وأنه يستأثر بحياة الأديب الفنان، بحيث لا يشغله بعدها عنه شاغل مهما غلا. وكتاب الرواية يعملون بشكل يومي وعلى مدى أشهر وربما سنوات، وذلك لصياغة رواية وإخراجها إلى النور. ولو افترضنا أن طه كان طبيبا، بالإضافة إلى أنه ناقد وأديب وسياسي، لما كان أعطى لتراثنا الأدبي ولتاريخي ما أعطاه من مآثر وإنجازات. فهناك وقت مادي محدود يمكن للإنسان من خلاله أن يقرأ ويتثقف ويكتب. وطه حتى أيامه الاخيرة، وبرغم العلل المستوطنة في جسده، كان مشغوفا بالثقافة مفتونا بالقراءة، فكيف كان له ذلك كله، إلى جانب الكتابة، لو كان متمرسا بمهنة أخرى تلهيه بمشاغلها عن مناهل التثقف وموارد الإبداع؟ إن من يعملون في الأدب يشعرون أن الحياة رائعة ولكنها قصيرة، لأن ما يطمحون إلى تحقيقه يفوق بكثير قدراتهم، ولا يمكن أن يقاس بالحيز المعلوم من سنوات العمر.

ولا غرابة أن يتفرغ يوسف إدريس للأدب وأن يدع الطب، مخالفا بذلك التمنتي الذي حرص طه حسين على أن يوجهه إليه. فسلطان الأدب لا يشاركه فيه سلطان آخر، وإلا غدا الأدب تفكهة وهواية، لا، كما هو في الصميم، حكاية عمر ومسيرة من العذاب الحلو. وهذا يذكرنا بمأساة الأديب العربي الذي يجد في الحياة وراء تأمين متطلبات العيش، لأنه لا يجرؤ على التفرغ لأدبه، خشية أن تجوع عائلته، ولهذا يمتهن التعليم أو الصحافة أو أي عمل رديف يستطيع بواسطته تحصيل مستلزمات المعيشة المادية. وتكون النتيجة أنه لا يحيا لأدبه إلا الفينة بعد الأخرى، على أنه لا يفوتنا أن ننؤه بأن هذه المعضلة قد وجدت لها حلا في المجتمعات الغربية، لأن الكتاب هناك، وعلى وجه خاص الناجح الرائج، يطبع بعشرات آلاف النسخ، مما يتيح لصاحبه دخلا آمنا، ولربما أحيانا ثروة باهظة إذا ما اقترن بالجوائز الأدبية الذائعة الصيت وبالانتشار الواسع. أما الأديب العربي فهو يكدح ويجري وراء الرغيف، وقلة نادرة من أدبائنا هم الذين تفرغوا لعملهم الأدبي لا يزاحمهم فيه مزاحم. حتى نجيب محفوظ الذي نال جائزة نوبل بعد أن بلغ من العمر عتيا، فقد أمضى حياته الزاخرة بالإنتاج يتردد على الديوان ويمارس وظيفته.

أنطون تشيكوف

المأثور عن الروائي الفرنسي الشهير، أونوريه دو بلزاك، أنه كان يراجع ملفات الشرطة، وذلك ليتنفع من الأحداث التي تتراكم فيها، وليوظف هذه المادة القصصية الحافلة في أعماله الكثيرة المتوالية، بحيث ترك لنا تراثا واقعياً خصباً، احتشدت فيه الوقائع، على أن الكاتب المبدع الشفاف أنطون تشيكوف لم يكن بحاجة إلى مراجعة أمثال تلك الملفات يستوحي منها ويقبس، كانت بين يديه وتحت ناظريه الملفات الإنسانية تختلج وتتألم، تبوح وتصرح، تتعرى جسديا وروحيا. لقد كان طبيبا. من الصحيح أنه لم يمارس الطب بكليته، وهذا في نظرنا لسبب بسيط وهو أن الأدب أخذه في لجته. ومن الصعوبة بمكان أن يعطي كاتب ما أعطى تشيكوف من وفرة لافتة في الإنتاج الأدبي الرفيع ويبقى مشدودا بين اهتمامين جليلين، علما أن تشيكوف، وهذا موضع عجبنا الشديد، عاش حوالي خمسة وأربعين عاما فقط، وذلك بين تاريخ مولده في تاغنروغ في القرم في 17 يناير 1860، وتاريخ وفاته مسلولا في بادنفيلر بألمانيا في 2 يوليو 1904. وقد عاد إلى روسيا جسدا فانيا ضمن عربة قطار محملة بالمحار الطازج، ووري الثرى في موسكو. على أن تشيكوف كان يرى الطب من أجل الأعمال، ولا يداخلنا ريب أنه زاد من أناقة حسه، وجعله يمسك بالنبض الإنساني في آثاره بحنو ورهافة. وإن الكثيرين من أبطال أدبه القصصي والمسرحي هم بالذات أطباء غارقون في معمعان التفكير والتحسر على مصير الإنسان ومآل الطبيعة، مأخوذون بتعانق الشعر والفلسفة والعلوم والجمال وبحتمية التقدم الإنساني في ضوء العلم ومناهجه.

كان تولستوي يقول إن تشيكوف كان بمقدوره أن يغدو كاتبا أكبر مما كان لو أنه لم يكن طبيبا. وفي اعتقادنا أن تولستوي ينظر إلى الناحية الاحترافية في الموضوع، فليس وارداً لدى الكاتب العظيم الذي أنبتته روسيا أن يجهل قيمة العلم والطب وأثرهما في نفس المبدع وقلمه. وكان تشيكوف نفسه يلح في رسائله التي تمور بالاعترافات، على الأثر الحاسم لدراسته الطبية على نشاطه الأدبي. وهو القائل بظرفه المعهود: "إن الطب هو زوجتي الشرعية، والأدب عشيقتي. وعندما تسئمني إحداهما أذهب لتمضية الليل لدى الأخرى". ويقول أيضا عن دراساته الطبية: "إنها وسعت على نحو كبير حقل ملاحظاتي، وأغنتني بالمعارف التي لها قيمة بالنسبة إلي ككاتب، ولا يتيسر إدراك هذه القيمة إلا لكاتب هو نفسه طبيب". لم يكن تشيكوف ليجد تناقضا بين الأدب والعلم، كما كان حال الرومنطيقيين، بل إنه كان يعتقد أن المعارف تتكامل ولا تتحارب: "ولهذا لم تتعارك العبقريات أبدا، ولدى جوته تعايشر تماما، إلى جانب الشاعر، العالم بالطبيعيات. إن ما يتصارع ليس المعارف المختلفة، الشعر مع علم التشريح، ولكنها الأضاليل، إذن البشر". ويقول تشيكوف أيضا: "أحس، فيما يخصني، أني أكثر يقظة ورضاء عن نفسي عندما أدرك أني أحوز مهنتين عوض المهنة الواحدة ". ويرى تشيكوف أن العلم معوان للإبداع الفني الذي يكشف الواقع وينبه الناس إلى أوضاعهم ومصائرهم وذلك لأن الأديب الفنان ينبغي، في رأي تشيكوف، أن يقلع عن الذاتية، وأن يبصر الواقع بعين محايدة، وأن يكون في إبصاره لهذا الواقع موضوعيا على قدر ما هو الكيمياوي. يقول تشيكوف: "إن الأدب الفني لا يمكن أن ينعت هكذا إلا بمقدار ما يرسم الحياة كما هي في الواقع. إن هدفه الأوحد هو الحقيقة المطلقة والصادقة". ولهذا يقول مكسيم جوركي عن تشيكوف، وقد جمعتهما الصداقة، واستوقف جوركي الشاب بموهبته نظر تشيكوف: "ليس هناك شيء في قصص تشيكوف لا يوجد في الواقع. إن القوة العظمى لموهبته تكمن حقا في أنه لا يخترع شيئا أبدا". كان تشيكوف مبغضا للمبالغة والتهاويل الدرامية، وكان أدبه يتميز بالبساطة الأخاذة، وكان مسرحه من غير تمسرح، إذا جاز لنا التعبير، ومن هنا تتأتى صعوبة لعبه على الخشبة، إنه مسرح داخلي يذكرنا بأعمال نابغة السينما برجمان. ولا شك أن احتكاك تشيكوف الطبيب بشعبه المعذب المريض أتاح له مجالا رحبا للاطلاع على نماذج لا حصر لها من التعساء، وقد منحهم عونه وحبه وفيض حنانه ورقته، وكان يؤمن لهؤلاء البائسين الأدوية الضرورية ولا ينال أجرا على معالجتهم. وعندما كان تشيكوف يغدو منهكا إلى بيته، بعد يوم حافل بالعمل والتعب، كان ينسحب إلى غرفته حيث يتدفق بالكتابة، هذه الكتابة التي جعلت من القصة فنا رائعا من فنون الأدب في عصرنا، وكان ينظر إليها في روسيا، قبل تشيكوف، نظرة استهانة واستخفاف. أي إنسان بديع هو أنطون تشيكوف، وأي مبدع.