إطلالة على الشعر المعاصر في كيرالا شهاب غانم

إطلالة على الشعر المعاصر في كيرالا

كيرالا ولاية هندية ذات طبيعة ساحرة. فهل تنتج شعرا يتمتع بنفس هذا السحر?!

تشكل ولاية كيرالا قطاعا طويلا من الأرض الساحرة في الجانب الغربي من الهند, وتتمتع بالمناظر الخلابة التي تغلب عليها أشجار جوز الهند التي تلعب دورا بارزا في اقتصادها. بل يقال إن كلمة كيرالا قد اشتقت من كلمة كيرام, التي تعني شجرة جوز الهند . ويجتاز الولاية أكثر من أربعين نهرا, فلا غرو أن يصف الهنود كيرلا بالفردوس الأخضر.

مساحة كيرالا تزيد على ثمانية وثلاثين ألف كيلومتر مربع, وعدد سكانها نحو أربعين مليونا وعاصمتها مدينة ثيروننتابرام (أو تريفاندم) وتقع في الجنوب, وأهم موانئها كوتشين وتقع في الوسط, ومن أهم مدنها كاليكوت في الشمال, أي المنطقة التي عرفت باسم ملبار, حيث يكثر المسلمون وتنتشر المساجد. وعلى ساحل كاباد في هذه المنطقة نزل المستكشف البرتغالي فاسكو داجاما, كما أن الرحالة الإيطالي ماركو بولو أشاد بتجارة التوابل من كانور في كيرالا. ومن المعروف أن كيرالا قد أقامت علاقات تجارية مع الفراعنة والفينيقيين والبابليين والصينيين منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وحاليا يعيش نحو عشرة في المائة من أهل كيرالا في المهاجر ويشكلون نسبة كبيرة من الجاليات الهندية في دول الخليج.

لغة كيرالا هي المالايالم التي تنتمي إلى عائلة اللغات الدرافيدية المستعملة في جنوب الهند, وأهم لغات هذه العائلة هي التلجو والتاميل والكانادا والمالايالم والجوندي والكوروخ والتولو. وتستعير المالايالم الكثير من السنسكريتية لغة الهند الكلاسيكية, كما أن لها ارتباطا قويا بالتاميل المنتشرة في الولاية المجاورة, كما ان المالايالم بشكلها الحديث قد دخلت فيها كلمات و وتأثيرات من لغات مثل العربية والفرنسية والبرتغالية والإنجليزية.

يقول البروفسير ك. ساتشيدأناندن في مقدمته الثرية لكتابه (قصائد من كيرالا) إن شعر المالايالم يعود إلى ما لا يقل عن ألف سنة, وأن التاريخ الحقيقي للادب بالمالايالم يبدأ بالأغاني الشعبية التي ترتبط بالعبادة والعمل والبطولات. وأول التآليف المدونة بهذه اللغة هي الراميانامات وأولها راماشاتريتام اما الأدب الحديث فيعتبر تشاثوإزهوثاكشان مؤسسه في القرن السادس عشر, ولم تتغير اللغة منذ ذلك العهد كثيرًا, وإن كان الشعر قد تطور على أيدي الشعراء الكبار أمثال شيروسيري وبونثام وأرير ودومبراثو ونامبيار. وادخلت الحركة الرومانسية نهضة في القرن التاسع عشر, وبرزت قصائد اسان المتأثرة بتعليم بودا والمصلح الاجتماعي ناريان في تصويره للحب والحياة. ثم برز فالاثول, الذي كان يكتب في أعقاب الكفاح للتحرير متأثرا بالميثولوجيا والتاريخ والطبيعة واغنى اللغة بتعابيره الجديدة وجاء بعده ادابيلي بيلا وشاجامبوتزا بيلا و هذا الأخير ألهب خيال القراء بصور الحب واليأس الرعوية التي مازال تأثيرها ظاهرا على الشعر المعاصر. واستمرت الحركة الرومانسية قوية على أيدي أمثال كوروب و أديسيري نايار وأمافارما وباسكاران والشاعرة شوجاثا كوماري.

وفي الستينيات من القرن العشرين وجد كثير من الشعراء أن الرومانسية لم تعد كافية لمعالجة قضايا الحياة المعاصرة, خصوصا في المدينة, وظهر التمرد على الرومانسية عند شعراء أمثال أيابانيكر وكاكاد وكنجوني ونامباشوري وإياباث, ثم جاء بعدهم أمثال كادامانيتا راماكريشنان واتور فارما وساتشيداناندان وسانكارا بيلاي وهؤلاء أتوا بصور واستعارات وأشكال جديدة مثل المرثاة القصيرة والشعر الحر وقصيدة النثر, كما ادخلوا سخرية وهجاء تناقضات الحياة المعاصرة.

وفي السبعينيات كثر الشعر السياسي الثوري النزعة, وابتدعت استعارات وأساليب جديدة تحت تأثير الحركات الاجتماعية في الهند وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وأوربا وبرز أمثال ساشيداناندان و سانكارا بيلاي, ثم شعراء أمثال فينايا شاندران وبالاشاندران شوليكاد وإيابان. وبات اليوم شعر المالايالم الحديث يهتم بقضايا العصر مثل اضطهاد امرأة واضطهاد الريفيين الفقراء و تلوث البيئة والرفق بالحيوان وتمجيد الطبيعة والثقافات المحلية وظهر شعراء يتناولون مثل هذه القضايا من منظور متحرر من قيود الايديولوجيا وبأسلوب مكثف ودقيق, ومنهم رفيق أحمد وراماشاندران ورامان وجوبي كريشنان وأنور وثامبي وفيران كوتي...إلخ.

وبعد هذه الإطلالة السريعة نقدم فيما يلي ثلاثة نماذج لثلاثة من كبار شعراء كيرالا المعاصرين, لنفتح شهية القارئ للاطلاع على مزيد من هذا الشعر المتميز. القصيدة الأولى بعنوان (ناني) للشاعرة كمالا داس المولودة عام 1934 وقد غيرت اسمها إلى سريا بعد أن اعتنقت الإسلام منذ بضع سنوات, وهي مرشحة لجائزة نوبل للآداب, وتكتب الشعر بالإنجليزية, وهي قاصة شهيرة تكتب القصة بلغة المالايالم وأمها كانت شاعرة شهيرة أيضا, اسمهابالامانيا اما.

ناني

شعر : كامالا داس (سريا)

(ناني) الخادمة الحامل
شنقت نفسها في أحد الأيام في المرحاض,
وظلت معلقة هناك, كدمية شوهاء, ثلاث ساعات طوال
إلى أن حضرت الشرطة.
وعندما كانت الريح تهب فتديرها برفق في حبلها
كان يتراءى لنا, نحن الذين كنا أطفالاً يومئذ,
أن (ناني) كانت تقوم برقصة مضحكة لتسليتنا.
نمت الأعشاب بسرعة, وقبل نهاية الصيف
كانت الأزهار الصفراء تعانق المدخل والحيطان,
وأصبح المرحاض المهجور كأنه مذبح في معبد
أو ضريح لقديسة ميتة.
بعد عام أو عامين سألت جدتي ذات يوم
هل تذكرين (ناني) الممتلئة الداكنة
التي كانت تغسلني بجانب البئر?
حركت جدتي نظارة القراءة على أنفها
وحملقت في وجهي وسألت : (ناني)... من هي?
وبهذا السؤال انتهت (ناني).
كل الحقائق تنتهي هكذا بسؤال.
إن هذا الصمم المتعمد يحوّل الموت إلى خلود
كل الحقائق تنتهي هكذا بسؤال.
إن هذا الصمم المتعمد يحوّل الموت إلى خلود
والشيء الأكيد إلى رخو غير أكيد.
إنهم محظوظون أولئك الذين يسألون أسئلة
ثم يمضون قبل مجيء الإجابة
أولئك الحكماء الذين يحيون في منطقة صامتة زرقاء
لا تخامر أذهانهم الشكوك
لأنهم يمتلكون ذلك السلام المتخثر
المنطمر في الحياة
كاللحن في بيضة الوقواق,
كالشهوة في الدم,
أو كالنسغ في أوعية الشجرة....

القصيدة الثانية للشاعر فشنو نارايان نامبردوري المولود عام 1939 وهو من شعراء الحساسية الجديدة, وقد حصل على جائزة أكاديمية كيرالا للآداب.

أين الوجه

شعر: فشنو نارايان نامبردوري

أسأل مندهشا : ولكن أين الوجه
ويجلس صديقي في صمت كالحكماء.
في اللوحة التي رسمها للكرنفال الكبير
توجد أعلام وأفيال و شمسيات
وحشود من الناس في ثياب زاهية الألوان
ولكن جميعهم من دون وجوه!
هل هذا الشخص معتوه تماما أو فيلسوف عظيم?
وفي المساء بينما أنا واقف
أتروح في مأواي القديم قرب البوابة
إذ بموكب ضخم يمر بالقرب مني
بعضهم كانوا يلبسون البناطيل أو السراويل
وبعضهم كانوا يلبسون القلنسوات أو أغطية الرأس
دقيقتان لكل خطوة
وقادتهم يهمسون بعضهم لبعض
(أين وجهك?) .. (آه! أين وجهك?)
وبينما تنزلق الأرض عميقا في روحي
مشحونة بينابيع الرحمة
لحشود من الآنام تكافح كالحشرات
في زيت مصباح حار
أرفع منديلي بسرعة لأمسح وجهي
ولكنه لا يلامس شيئا: ماذا ! فراغ ?!
أندفع إلى غرفتي مروعا ومنذهلا
أالقي نظرة واحدة في المرآة على الحائط وأنا ارتجف:
ما فوق الياقة
يالله!
أنا أيضا ليس لي وجه على الإطلاق.

القصيدة الثالثة هي للبروفسور ك. ساتشيداناندان المولود عام 1946 وله أكثر من خمسين كتابا في الشعر والمسرح والنقد والترجمة ونال العديد من الجوائز في الهند وخارجها وهو سكرتير الأكاديمية الهندية للأدباء

كيف انتحر مايكوفسكي

شعر: ك. ساتشيداناندان

لم يقل الشاعر في رسالته الأخيرة إلا الشيء القليل
ما لم يقله كان أكثر بكثير.
كانت الثورة في صباها
ذات يوم جاء إليه رفاقه المقربون
الذين شاركوه كلماته وكئوس الفودكا
في زمهرير الشتاء
اليوم جاءوا إليه في بدلة البيروقراطي الفولاذية
التي صممت لتمنع تسرب أي مقدار من الحب
وأمروه:
(اكتب عن سدودنا)
وكتب عن سدوده
السدود التي بناها الشعب
وأعطاهم ترنيمة عن نبل الإنسان
وأمروه: اكتب عن زعيمنا
وكتب عن لينين
لينين الشعب
وأعطاهم ترنيمة جنائزية
عن موت الحب الإنساني السامي
واستمرت المطالب تتكاثر
(اكتب عن جمال تلراكتوراتنا
عن المقدرة الخارقة لكمبيوتراتنا
توقف عن التعالي واكتب تقريرا شعريا عن خطتنا الخمسية).
التواضع والشعر ينبغي ألا يعقبا بهذا الشكل
قذف بالبوق الذي كان يدوي كجبال القوقاز
في الدانوب لتلعب به أمواجه
ونفض الغبار عن القيثارة الروسية
التي تحمل البصمات الدامية لأصابع بوشكين ويسنين
وأعطاهم مرثاة
عن تحلل الحب
ثم مشى في صمت
إلى حجرة الكتابة
حيث اعتاد تناول الشاي مع الشمس
والغناء بأعلى صوته.
أغلق الستائر على السهول
التي كان الظلام قد بدأ يزحف عليها
ورفع المسدس
الذي كان يحتفظ به لأعدائه
إلى رأسه, كأنه هو العدو الآن.
الحب العظيم
الذي أعطى الأوردة الحديدية للشعر الروسي
تهاوى
وبطاقة الحزب
التي حملت الولاء اثنين وعشرين عاما
تنقعت في الدم
كما تنقعت أيضا قصيدته في لينين.
دم الشاعر الذي لا يروض
جرى بين المخطوطات غير المكتملة
انذارا لأولئك الذين نسوا رحمة الغاية
في قسوة الوسيلة
إن إصبعا اتهامية تكبر .. و تكبر
وتشير باستمرار إلى فحش السلطة
ونذير شؤم لأولئك الرجال
الذين يحاولون أن يكونوا آلهة على الأرض.

 

شهاب غانم