عبدالكريم الأشتر وعبدالرحمن حمادي

 عبدالكريم الأشتر وعبدالرحمن حمادي
        

  • الجامعات العربية تعيش جملة مشاكل هي انعكاس لمشاكل المجتمعات العربية
  • أبكي على المسرح العربي ولا أنعيه, فالمسرح جزء من الحياة, والإنسان بالفطرة متمسك بها
  • اكتشفت أنني لم أخلق للدراسات الأكاديمية بل لكتابة أدب الخواطر والمذكرات

          الدكتور عبدالكريم الأشتر من الجيل الأكاديمي الأول, فقد أمضى أكثر من أربعين عاما وهو يعمل في تدريس اللغة العربية وآدابها في الجامعات السورية والعربية المختلفة, وقدم خلال هذه الرحلة أكثر من عشرين مؤلفا كبيرا في تاريخ الأدب العربي والأدب المقارن والنقد, وهو عضو مؤسس في اتحاد الكتّاب العرب وعضو مراسل في مجمع اللغة العربية في دمشق, بالإضافة إلى المقالات والزوايا التي ينشرها في الصحافة باستمرار وتثير اهتمام القرّاء بقدر ما تثير من الجدل. هذا الغنى في مسيرة حياة الدكتور الأشتر يجعل أي حوار معه يتشعب إلى عدة جوانب تتعلق بواقع الجامعات العربية والثقافة والنقد وغير ذلك من نقاط واجهه بها عبدالرحمن حمادي, وهو كاتب وصحفي سوري, مارس العمل الصحفي في لبنان وسورية.

  • عدة عقود أمضيتها في الجامعات العربية مدرسا في كليات الآداب والعلوم الإنسانية, وشغلت مختلف المناصب الأكاديمية فيها, بعد هذه العقود كيف تقيم عمل الجامعات العربية وموقعها من حركة المجتمع العربي?

          - نتفق على أن الجامعات العربية تعيش في دوامة مشاكل كثيرة تجعلها قاصرة عن أداء دورها كما تؤديه الجامعات الغربية, ولكن يجب أن نتفق أيضا على أن إشكاليات ومشكلات الجامعات العربية إنما هي انعكاس لإشكاليات المجتمع العربي بشكل عام, وسأكتفي بأن أورد مشكلة البحث العلمي.

          بقليل من التمعن نجد أن المجتمع العربي مازال حتى الآن يتهيب الخوض في البحث العلمي على كل الأصعدة, ومازلنا ننتظر نتائج الأبحاث العلمية التي يجريها الآخرون لنأخذها حقائق لا تقبل الجدل, وأسباب تهيّبنا كثيرة, منها عدم الثقة بالنفس, والروتين, وأشياء تتعلق بالسياسة, والطريف أن الخطاب الرسمي والسياسي العربي يتحدث باستمرار عن أهمية البحث العلمي ودوره في التنمية العربية, ولكن الخطاب يبقى خطابا, وعلى أرض الواقع لا يوجد شيء فاعل.

          الجامعات العربية, وهي صورة عن المجتمعات العربية, تعاني من المشكلة نفسها, فلو بدأنا من أسئلة الامتحانات نجدها مازالت تمتحن ذاكرة الطالب ومقدرته على الحفظ (عن ظهر قلب) كما يقال: أي أنها أسئلة لا تمتحن مقدرة الطالب على المحاكمة العقلية, ولا تحرّضه على تكوين بصمة مميزة لنفسه وشخصية مستقلة, ولا نستغرب عندما نعلم أن ثمة قانونا غير مكتوب في جميع كليات الجامعات العربية ينص على أن الأسئلة يجب أن تكون حصرا من المنهاج المقرر, من الكتاب الجامعي حكرا, بل إن خروج المدرس عن الكتاب المقرر يشكل جريمة يعاقب عليها, والطلاب أنفسهم قولبوا ضمن هذا القانون, لهذا نراهم يحتجون عندما يأتيهم سؤال ما من خارج الكتاب المقرر.

          إذن نحن مع معلم وطالب مقولَبين بإطار تعليمي محدد هدفه تخريج أعداد متزايدة من حملة الشهادات الجامعية لا حاملي أفق البحث العلمي, وبالتالي الذين يحملون أفق البحث العلمي من الطرفين, الخريج والمعلم, لا يجدون إلا الهجرة للخارج, حيث تتاح لهم إمكانات وحرية البحث العلمي, ومعروفة الخسارة الفادحة التي يتعرض لها الوطن العربي جرّاء نزيف العقول العربية, وليستمر سؤالنا المعبر عن حيرتنا عن الأسباب!

  • هل أعتبر إجابتك هذه نهائية بكل ما فيها من تشاؤم?

          - قد يخفف من التشاؤم الذي تلمحه في إجابتي أن بعض الجامعات العربية, وهي قليلة جدا, اتجهت أخيرا لإعطاء بعض الاهتمام للبحث العلمي بدعم من حكوماتها, ولكن هذا لا يكفي, والمطلوب إعادة النظر بشكل جريء وجدّي في واقع الجامعات العربية, إذ من غير المقبول أن تبقى الجامعات العربية أماكن تؤدى فيها وظائف رسمية لا أكثر في الوقت الذي تأكدت فيه بشكل قاطع أهمية الجامعات في عملية التنمية والتقدم والتطور.

نقد و.... مسرح

  • لك كتب معروفة في النقد الذي قمت بتدريسه, ترى أين يقف النقد العربي من الإبداع العربي?

          - الحركة النقدية العربية بدأت كجزء من الحركة الأدبية العربية, ولكن مشكلتها منذ البداية أنها لم تتأسس على أرضية واضحة متماسكة, بل تأسست على أرضية الشللية والعقائدية والأيديولوجية, وخاصة في حقبة الخمسينيات عندما انضوى النقد العربي تحت ألوية الأيديولوجيات التي تنفي بعضها بعداء وحقد, وبالتالي انشغل النقد بتنفيذ أيديولوجياته ولم يلتفت إلى مهمته الأساسية كمقوّم وكاشف وموجه للإبداع.

          لقد وضع الجيل المؤسس أمثال محمد مندور ولويس عوض أسسا للنقد, ولكن ضمن إطار الفكر الغربي المستورد, وربما في السنوات الأخيرة, وبعد سقوط معظم الأيديولوجيات, اتجه النقاد إلى محاولة تأسيس نقد عربي يتصل بالإبداع على أسس سليمة, ولكن مازالت ثقافة معظمهم متأثرة بنظريات النقد الغربي المستورد, أضف إلى ذلك أن معظم المساهمات النقدية لم تصل إلى مستوى النضج كما في الغرب.

          الإشكالية الأخرى هي أن النقد العربي مازال يمارس نفسه كإبداع فوق الإبداع, والناقد يعتبر نفسه وصيّاً على المبدع, وهو ما أدخل النقد في متاهة من الغموض والاستعراضية لأن الناقد يريد أن يتسلق على النص المنقود ليفرض نفسه كمبدع, ويلفت الأنظار إليه, وما أكثر الإشكاليات في نقدنا العربي.

  • في زواياك المنشورة في الصحافة تتحدث بالتشاؤم نفسه عن المسرح العربي, لماذا?

          - وهل ثمة شك في أن المسرح العربي ضمن أزماته الكثيرة يدعو للتشاؤم? وأنا أبكي على المسرح العربي ولكن لا أنعيه, فالمسرح جزء من الحياة, والإنسان بالفطرة متمسك بالحياة, وعلى حدّ تعبير المسرحي الكبير سعد الله ونوس: الإنسان محكوم بالأمل.

  • ولكن رغم كل ما يُقال يوجد عندنا مسرح له حضوره, سواء عبر المهرجانات المسرحية أو من خلال المسرحيات التي يقدمها نجوم معروفون ويستمر عرضها شهوراً متواصلة.

          - المهرجانات المسرحية العربية صارت تقام على استحياء وضمن الخطاب الدعائي السياسي هنا وهناك, وعادة يتم تحضير المسرحيات من قبل الفنانين للمشاركة في هذا المهرجان أو ذاك, ثم ينتهي وجود المسرحية مع نهاية المهرجان, ونادرا ما تعرض على جمهور ما بعد انتهاء المهرجان.

          أما المسرحيات السائدة حاليا والتي يستمر عرضها شهورا, فلا علاقة لها بالمسرح الذي ننشده, إنها مسرحيات تهريجية تنفيسية لا أكثر, وبوصف أكثر إنصافا, مسرحيات تجارية لا علاقة لها بالمواطن العربي ولا بالوطن.نحن بحاجة إلى مسرح جاد يعبر عن الحياة ويتفاعل معها, مسرح يربي وينقد ويوجه ويكون جزءا من التكوين الثقافي للمواطن العربي, وهذا المسرح لن يظهر إلا إذا منح أرضية صلبة من الحرية ليستطيع أن يقول دون خوف أو تردد.

أدب المذكرات

  • بعد سلسلة من كتب أكاديمية بحتة, أصدرت فجأة عدة كتب تتضمن خواطر ومذكرات شخصية, لماذا هذا التحول?

          - لقد اكتشفت في السنوات القليلة الماضية أنني لم أخلق للدراسات الأكاديمية والبحث, ولكن لكتابة الأدب الوجداني وأدب المذكرات, ومن المؤسف أنني اكتشفت ذلك متأخرا جدا مما حرمني من كتابة أشياء كثيرة أخشى ألا يسمح لي العمر بكتابتها كلها.

          بالطبع أنا فخور بما قدمته للمكتبة العربية من مؤلفات حول تاريخ الأدب العربي والإسلامي والنقد, ولكن طوال السنوات الماضية كنت أعتقد أنني منذور لهذا التأليف الأكاديمي فقط, ثم فجأة وجدتني مدفوعا إلى كتابة خواطر ووجدانيات ومذكرات شخصيية بمتعة جديدة, وقد نشرت ما كتبته بشكل متتالٍ خلال عام 2001م في كتب (مسامرات نقدية) و(الصدى) و(المقتطف من مجالس الوجد وأحاديث الألفة والسمر) وهناك خواطر أخرى قيد الطبع, ولاحظ أنني أصدرت هذه الكتب خلال عام واحد وبفترات متقاربة, وأظنني فعلت ذلك لأعوض ما فات.

  • ألا تخشى أن يؤثر هذا اللون من الأدب على مكانتك كباحث أكاديمي?

          - هذا السؤال خدعت به نفسي طوال عدة عقود فامتنعت عن كتابة أي أدب يتعلق بوجدانياتي أو ذاتي أو عواطفي مع أنني كنت أدرك أن أدب المذكرات أو الخواطر صعب لا يتقنه إلا عدد من الكتّاب المقتدرين, وعندما مارست هذا اللون من الأدب الأصدق والأكثر التصاقا بالحياة, والأكثر تعبيرا عنها, والأمر نفسه ينطبق على الخاطرة الصحفية, وأعتقد - بتواضع شديد - أن الذين يكتبون الخاطرة في الصحافة قليل منهم ناجح فيها, والسر هو صعوبة هذا اللون من الكتابة من جهة, وما يتطلبه من استشفاف للحدث اليومي سلبا أم إيجابا من جهة أخرى.

  • في هذه الحال, المذكرات الشخصية يجب أن نصنّفها ضمن الأدب?

          - بل صنف محبوب من ألوان الأدب لأن المذكرات وثيقة حياتية صادقة, مثلا, نشرت كتابي (الصدى) وهو مذكرات شخصية عن إقامتي في دولة الإمارات وعملي في جامعتها, وقد لقي الكتاب رواجا واستحسانا جيدين من القرّاء لأنه شكّل تأريخا ووثيقة عن الحياة العامة والجامعية هناك, كما جاء الكتاب كشفا لأمور ووقائع تحدث في أروقة الجامعات قد لا يصدقها الطالب, ومنها سعي الدكاترة المستميت للعمل بأي شكل في جامعات الدول النفطية, وقلقهم المستمر من إنهاء عقود عملهم في أي لحظة, ومعاناتهم التي تمتد شهورا عندما يتم قبولهم وحتى تخصيصهم بمساكن. كما تحدثت عن وقائع معاناة أي مواطن عربي على المعابر الحدودية بين الدول العربية لأن المواطن العربي متهم مسبقا بأنه عربي, ويجب أن يعامل على أساس هذه التهمة على الحدود العربية - العربية.. إلى آخر ما هنالك من وقائع ذاتية لكنها شكلت اكتشافات للقارئ, وهذا يفسر النفاد السريع لنسخ الطبعة الأولى من الكتاب.

          على أي حال, وأنا أتحدث بهذا الود عن أدب الخاطرة, لا أريد أن يستشف من كلامي أنني هجرت عملي في البحث الأكاديمي, فقد أنجزت أخيرا كتابا ضخما في خمسة أجزاء بعنوان (الشعر والشعراء العرب من عصر الجاهلية إلى العصر الحديث) وهو مخطوط, وكتاب (فواصل صغيرة في الثقافة والتاريخ والاجتماع) و(الكشكول: بحوث ودراسات في الأدب والنقد) و(بحوث وأحاديث ومقابلات ورسائل في الحركة المهجرية), وكل هذه المخطوطات قيد الطبع.

  • عملت في جامعة الإمارات سنتين متواليتين أستاذا للأدب العربي الحديث, وشاركت خلالهما في مختلف وجوه النشاط الثقافي, وبحسب زواياك الصحفية المنشورة في الصحافة السورية أنت على صلة جيدة بالحركة الثقافية في الكويت, أرى أن نتحدث عن الحركة الأدبية فيهما.

          - الحركة الثقافية والأدبية في دولتي الإمارات العربية والكويت تتأسس بقوة وعلى أرضية جادّة, فتشعر أن المثقف في الخليج العربي بشكل عام يطلب الثقافة كحاجة حياتية ضرورية, ولا يطلبها للاستعراضية, كما أن أهلنا في الخليج يريدون التواصل بقوة مع الثقافة في البلدان العربية, لذلك يسعون باجتهاد إلى التعرف على نتاج إخوانهم الأدباء العرب وطرح نتاجهم الثقافي والأدبي أمامهم, وفي السنوات الأخيرة ظهر جيل من المثقفين المنفتحين على الفكر العالمي بقدر انفتاحهم على الفكر العربي.

          أيضا, وبإنصاف, ظهر أدباء وضعوا بصمات متميزة في جميع فنون الإبداع من المسرح إلى الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي, واعذرني إن لم أذكر أسماء هنا, ولكن الأسماء المبدعة في منطقة الخليج العربي معروفة جدا لدى القراء العرب الآن, وما يصدر من إبداع حديث في منطقة الخليج يتميز بانتمائه القومي الشديد.

          الذي لاحظته بشكل شخصي أن الوجه القومي لأدب الخليج العربي, وخصوصاً نتاج الإخوة الأدباء في الكويت, تأثر بصدمة الغزو العراقي عام 1990 فبدأت تخف عنه الصبغة القومية, ولا أشمل كل الأدب الخليجي, بل بقيت أصوات واعية طالبت بأن يتجاوز الكويتيون والخليجيون بشكل عام الصدمة, بل أن يتعاملوا مع الأزمة كحافز باتجاه الانتماء القومي.

  • مع أننا لسنا في معرض السياسة, ولكن هل تعتقد أنه من السهولة أن يتجاوز الأدباء الكويتيون صدمة الغزو?

          - أسمح لنفسي في معرض الإجابة عن هذا السؤال أن أعود إلى كتاب الأديب والمبدع الكويتي د.عبدالله يوسف الغنيم والمعنون بـ(كتاب اللؤلؤ), فقد وفر لي هذا الكتاب متعة الاطلاع على الجانب المثير من تاريخ الحضارة الإنسانية في أرض الخليج العربي, ويعد موسوعة جامعة حول اللؤلؤ, وفي غمرة قراءتي واستمتاعي بما حواه الكتاب توقفت عند الأسطر التالية باهتمام: (ومما سبق فإن اللؤلؤ ليس نتاج عمليات يكون فيها المحار في حال صحية جيدة, ولكنه نتاج اضطراب يصيب هذا الحيوان, يخرجه عن حالته الطبيعية, ولكي يخلص نفسه من هذا الشر الذي حاق به, فإنه يستغل الهبة التي وهبها الله إياها, فيعمل على تحويل النقص الناشئ عن المرض إلى كمال, والألم والحزن إلى بهجة وإشراق, وفي الطبيعة أمثلة كثيرة على هذه القوى التي وهبها الله, ولكنها ليست بمثل ذلك الجمال الأخاذ الذي وهبه المحار: واحد من مخلوقات الأرض, يعاني من محنة ألمّت به, يقدم لنا درسا عن كيفية مقاومة الضرر الذي ألمّ به, وتحويل الألم والعدوان إلى جواهر جميلة ترمز إلى كل ما هو نقي وجميل).

          لقد توقفت عند هذه العبارات بكثير من التأمل, ورأيت فيها خطابا جميلا من الدكتور الغنيم لأهلنا في الكويت بتحويل آلام العدوان إلى جواهر جميلة ترمز إلى كل ما هو نقي وجميل, وقد كتبت عن ذلك في جريدة البعث السورية متمنيا أن يرن هذا الخطاب وصداه في النفس العربية, وأن يصدق في كل ميادين الحياة العربية.

اللغة العربية والمعاصرة

  • لك آراء اعتبرها البعض جريئة جدا حول تبسيط اللغة العربية والتخلص من قواعدها الإعرابية لتواكب العصر, ما خلاصة هذه الآراء?

          - في تدريسي للغة العربية في الجامعات, هالني ما وصلت إليه اللغة العربية من ضعف على ألسنة كثير من المختصين من طلبتها في الجامعات, وأقلامهم, وعلى ألسنة كثير من المختصين من رجالها في المؤسسات الثقافية المختلفة, وكثيرا ما أجد في أوراق طلبتي في السنة الرابعة من كليات الآداب, وهم على أبواب التخرج, بدائع وأعاجيب, وهذا يستدعي أن نعترف بأن لغتنا العربية ليست في وضع يدعونا للاطمئنان عليها, وبالتالي لابد من أن نوجد العزيمة والنية النابعتين من محبة هذه اللغة وتقدير خصائصها الرائعة وقدراتها الهائلة, والرغبة في حفظها وصيانتها من الأخطار التي تتهددها.

  • ما الأخطار التي تتهدد اللغة العربية?

          - هناك أخطار وعقبات كثيرة, من العقبات نذكر ما يظهر من جانبنا من جهل بأبسط قواعدها, والزهد فيها, والغفلة عن خصائصها في الدقة والحساسية والغنى والمرونة وخصوبة التوليد وروعة الموسيقى, والاستهانة بقدراتها البيانية في التعبير عن شتى المعارف الإنسانية من جانب غير المختصين بها وبأدبها, كالعالم والمؤرخ والجغرافي وصاحب الفلسفة, إلى حد الاعتقاد بأنهم غير مطالبين برعايتها, واحتقار معلميها والنظر إليهم نظرتنا إلى كائنات تغالب التاريخ, وتوشك أن تنقرض, والشك في قدرتها على مواجهة العصر, ومازال فينا من يجادل في قبول العلوم التطبيقية بها على الرغم من شيوع التجارب الناجحة في هذا الميدان.هذا وغيره ولد الأخطار التي تواجهها اللغة العربية مثل الدعوات الإقليمية إلى استخدام العاميات, وطغيان اللغات الحديثة وغلبتها على الألسن مما ينتهي كله إلى إضعاف اللغة العربية وتمزيقها, ولذلك لابد من العلاج الصحيح بعيدا عن المسكنات التقليدية.

  • ماذا تعني بالمسكنات التقليدية والعلاج الصحيح?

          - المسكنات التقليدية هي التي نراها الآن مثل تعميم التدريس باللغة العربية الفصحى مما نعجز عن تحقيقه على أعلى المستويات, ويذهب بأثره البيت والشارع, ومثل كتابة اللافتات وتسمية المحال بالعربية, أما العلاج الصحيح فهو دراسة الصعوبات التي يعاني منها أبناء العربية اليوم وتذليلها بجرأة ووعي والتزام وإصلاح أساليب تعليمها إصلاحا نفيد فيه من شتى معارف العصر وأجهزته, وتكوين المعجم الحديث, وتقديم التراث بثوب جديد, وهذا لا يمكن تحقيقه على وجه صحيح إلا بإعادة صياغة الشخصية العربية على أساس الاعتزاز المدروس بمقوماتها الصحيحة لا الاعتزاز الغوغائي الدارج.

  • هذا الذي تقوله أعتقد أنه كان وراء اتهامك من قبل البعض بأنك تطالب بإلغاء الإعراب وقواعده من أساليب التدريس!!

          - اتهامهم غير صحيح, بل أقول إن الإعراب هو نظام العربية كله وجوهر بنائها, وهو الذي تهب منه أقوى رياح الضعف, فلابد من تلمس السبيل إلى تقوية الإحساس بالحركات ومواضعها وصورها على أي وجه نراه مناسبا.

          لنأخذ مثلا كيف نكظ أذهان أولادنا ونرهقها ونربكها في مسائل إجرائية صغيرة يمكن - حين نجرؤ - أن ننفيها دون أي محذور إلا ما اعتدناه من ألفة الواقع, خذ ألف (ابن) مثلا, نحذفها بين العلمين, ونثبتها إذا وقعت بين العلم وغيره أو بين غير العلمين, ولكنا نعود فنثبتها إذا وقعت في أول السطر منعا للالتباس, فما ضر إذن لو أثبتناها دائما واعتبرناها همزة وصل? وخذ نون (إذن) نثبتها في حال عملها بالنصب ونستبدل بها ألفا منوّنة بنصبتين في غير حال العمل, وهي صورة قد تدخل اللبس أحيانا, فنكلف الناشئ والقارئ والكاتب أن يحللوا الكلام إذا وردت فيها لأنها ترد في أعينهم بصورتين مختلفتين, فما يمنع أن نكتبها بالنون في جميع الأحوال دون أن يؤثر ذلك في إعراب الكلام على الإطلاق? وخذ صيغ التعجب وإعرابها, فالنحويون تلمّسوا في إعرابها وجوها تمحلوا فيها تمحلا غريبا, وهي صيغ مبنية لا تتغير صورتها أبد في الحالين, فما ضرّنا لو أعربناها لأولادنا صيغا مبنية على التعجب, وخففنا عنهم ما لقيناه نحن في تعلمه في غير جدوى ودون معنى إلى اليوم لأننا حفظناه ثم نسيناه, ثم حفظناه ثم نسيناه! وحفظه ونسيانه سيان, وخذ الهمزات واختلافنا في كتابتها حتى أصبحنا نقول: في مصر يكتبونها على نحو, وفي الشام على نحو, وما أدري كيف يكتبها أهل العراق!!

          من هذا وغيره أقول إننا مطالبون بإعادة النظر في طريقة التعامل مع لغتنا العربية واختيار أنجع الأساليب في تعلّمها وتعليمها, وألا نتردد في التضحية بكل ما نراه من الشكليات لحفظ الجوهر.

          هذا الذي قلته عن اللغة العربية قلته مرّة عندما دعيت للمشاركة في ندوة عن اللغة العربية أقامتها جمعية اللغة العربية في كلية الطالبات في جامعة الإمارات عام 1980 على ما أذكر, وكانت المفاجأة تلك الضجة التي أثيرت عليّ أثناء الندوة, ومن ضمنها اتهامي بأنني أريد إلغاء الإعراب من اللغة, ثم انتقلت التهمة ضدي من خلال الصحافة الإماراتية, وزاد البعض إلى حدّ محاولة اتهامي بالكفر ونشر الأفكار الاستعمارية! والذي حيّرني أن جميع الذين كتبوا ضدي آنذاك كانوا في كتاباتهم يشرحون ما تعاني منه اللغة العربية من إهمال, ثم يتحدثون عن المعاصرة وموقع لغتنا منها!!

          إن من تمام المعاصرة أن نملك القدرة على فهم العصر وتحديد مكاننا فيه, والدخول فيه بأنفسنا وتسجيل هويتنا الحضارية فيه, إذ كيف يكون معاصرا من يتغرب عن نفسه وينقطع عن أصوله, ويضيع في تيه العصر? إن المعاصرة تعني قبول العصر والتفاعل معه, والاستجابة لحاجاته, ومعرفة حاجات أنفسنا منه, والقدرة على اختيار طريقنا فيه والتكيّف لها. وعندما نضع أصبعنا على مكامن الخطر لندفع ظلم الاغتراب عن لغتنا, فإن ما نفعله هو المعاصرة بالمعاني المتقدمة لنضمن لهذه اللغة النماء المتكيّف مع الزمن.





عبدالكريم الأشتر





عبدالرحمن حمادي