بين العلم والتكنولوجيا

بين العلم والتكنولوجيا

ينتشر مفهوم التكنولوجيا في كثير من المجالات التي تمس طبيعة عصرنا، لذا فقد أصبح من الصعب جداً التوصل إلى تعريف موحد للتكنولوجيا.

فهل يمكن تعريفها فعلاً؟

أول مشكلة تواجه محاولة التعريف تتعلق بالجوانب اللغوية والتاريخية التي ارتبطت بلفظ تكنولوجيا على مر السنين، ففي اللغة الفرنسية حيث الوضوح أكبر في هذا المجال نجد جنباً إلى جنب لفظ تكنيك Technique ولفظ تكنولوجيا Technology، فالأول لفظ قديم، والثاني حديث نسبياً، والتكنيك هو الأسلوب أو الطريقة التي يستخدمها الإنسان في إنجاز عمل أو عملية ما.

أما التكنولوجيا بمعناها الأصلي فهي علم الفنون والمهن ودراسة خصائص المادة التي تصنع منها الآلات والمعدات، فقد ظهر استخدام لفظ التكنولوجيا في العصور الحديثة وبالأخص بعد الثورة الصناعية عندما بدأت الآلة تأخذ أهميتها المتصاعدة ومكانتها البارزة في مجال الإنتاج الصناعي.

والمراجع الإنجليزية نفسها كانت حتى العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين تفرق بين التكنيك والتكنولوجيا وتعطيها المعاني نفسها التي أوردناها قبل قليل.

إلا أنه من الملاحظ أن مفهوم التكنولوجيا أخذ في العقود القليلة الأخيرة يمتص تدريجياً مفهوم التكنيك وأصبح يبتعد أكثر فأكثر عن معناه الأصلي. ومن الواضح أن مفهوم التكنولوجيا كما يستخدم في يومنا هذا على الرغم من المطاطية والشمولية اللتين اكتسبهما، وربما بسبب ذلك أصبح غير قادر على تلبية الدقة الكافية التي يرغب فيها الكثير من العلماء عندما يتكلمون عن جانب معين من النشاط الاقتصادي وبالأخص الجانب الإنتاجي منه. وهكذا عندما يصفون ويحللون طريقة جديدة في إنتاج الفولاذ، مثلاً نجدهم يستبدلون بلفظ التكنولوجيا ألفاظاً أخرى مثل أسلوب أو نسق جديد New Technique وإذا كان من الصعب في يومنا هذا ذكر أي من كلمتي العلم والتكنولوجيا دون أن نقرنها بالأخرى فإن هذا الالتصاق لم يظهر إلا منذ فترة حديثة نسبياً، بعد أن ظهر وتطور كل منهما خلال قرون طويلة في عالم خاص به، مع أقل حد من التفاعلات المباشرة بينهما.

لماذا وكيف؟

وأول محاولة للتفرقة بين العلم والتكنولوجيا تقودنا إلى القول إن العلم هو معرفة لماذا Know - why في حين أن التكنولوجيا هي معرفة الكيف know - how. العلم يأتي بالنظريات والقوانين العامة، والتكنولوجيا تحولها إلى أساليب وتطبيقات خاصة، في مختلف النشاطات الاقتصادية والاجتماعية.العلم يقوم على البحوث المبتكرة، أما التكنولوجيا فتحول خلاصاتها إلى ابتكارات عملية في ميادين الحياة المختلفة، وبهذا المعنى، إذا كانت العلوم الفضائية مثلا قد توصلت إلى نظريات محددة عن طبيعة القمر وتنبأت بإمكان إنزال الإنسان على سطحه، فإن التكنولوجيا الفضائية قد استطاعت أن تصل إليه وتحصل على عينة من تربته وتأتي بها إلى الأرض ليتم فحصها من قبل العلماء المختصين، لمعرفة مدى تطابق خصائصها مع ما توقعته نظرياتهم أو نظريات غيرهم من العلماء ثم بعد أن اجتازت التكنولوجيا الفضائية بنجاح مرحلة التجارب، استطاعت فعلاً أن تنزل الإنسان على سطح القمر وتعيده إلى الأرض سالماً. وهكذا يمكن القول بوجه عام إن العلم يفتح ويكتشف الآفاق النظرية للمعرفة البحتة، في حين أن التكنولوجيا تختار الآفاق التي توفر لها تركيبة المجتمع والظروف الموضوعية المحيطة به، الحوافز الضرورية والقدرة المادية على تحويلها إلى إنجازات وتطبيقات عملية على شكل أساليب وطرق مبتكرة وسلع وخدمات. وقد شبّه ليوناردو دافنشي العلم بالقائد العسكري والتكنولوجيا بالجنود في ساحة القتال.

كذلك يمكن التمييز بين العلم والتكنولوجيا من خلال القول إن العلم يملك صفة العمومية، أما التكنولوجيا فتملك صفة الخصوصية، فالعلم هو قبل كل شيء نتاج فكري، أما التكنولوجيا فهي في الأساس وفي المقام الأول نتاج عملي، تولده البنى الاجتماعية والاقتصادية والعلمية للمساهمة في حل المشاكل التي يواجهها المجتمع في أي لحظة، فاكتساب العلم على مستوى معين يتطلب درجة من القدرة الفكرية والذكاء عند الأفراد، أما تطوير التكنولوجيا فيتطلب درجة عالية من حسن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، بما في ذلك نظام حوافز مادية وغير مادية مناسب، وإذا جاز التعبير، يمكن القول إن تطوير التكنولوجيا الملائمة لمتطلبات وظروف المجتمع، في فترة ما يتطلب درجة عالية من الذكاء الاجتماعي أو الذكاء الجماعي. ويبدو أن دور الفرد أو فرق العمل التي تضم عدداً قليلاً من الأفراد في تطوير العلوم هو أكبر بكثير مما هو عليه في تطوير التكنولوجيا حيث يكون تأثير البنى الاجتماعية والاقتصادية مهيمناً.

وفي حين أن العلم من حيث المبدأ يمكن أن يكون فردياً، أي أن يتطور على يدي فرد أو مجموعة من الأفراد، بهدف إشباع رغبة ذاتية مهما أخذت من أشكال، فإن التكنولوجيا لا يمكن أن تكون إلا نتاجاً جماعياً وموجهاً لخدمة المجتمع الذي تولدت فيه، حتى حين تأتي التطورات التكنولوجية على يدي فرد، أو عدد قليل من الأفراد، فالعالم يريد قبل كل شيء إرضاء شغفه العلمي وإثبات ذاته العلمية ومكانته بين زملائه، أما مخترع الأساليب أو السلع الرأسمالية والاستهلاكية والذي يمكن أن نطلق عليه تسمية التكنولوجي فلا يقوم باختراعه إلا إرضاء لحاجة عند الجماعة أو المجتمع الذي ينتمي إليه، أو هكذا يخيّل له عندما ينطلق في عملية الاختراع. وهذا لا يعني أبداً أن التكنولوجي محب بطبيعته للغير، وإنما يعني ألا قيمة ذاتية لاختراعه، بل إن قيمة الاختراع تكمن في مدى تلبية حاجة ما عند المجتمع، بل يمكن القول إن رضا التكنولوجي الذاتي المادي والمعنوي لا يتم إلا من خلال تقويم المجتمع إيجابياً للشيء الذي قام باكتشافه أو باختراعه.

بين الفكر والتطبيق

والحقيقة أن العالم والتكنولوجي ينتميان إلى نوعين فرعيين من الثقافة، العالم ينتمي بوجه عام إلى عالم الفكر والنظريات والحقائق الإنسانية، أما التكنولوجي، فهو مرتبط بالمؤسسات الإنتاجية التي يعمل فيها، وبالحوافز التي تسير نشاطها وتحدد أهدافها النهائية، والتي تكون في النظام الرأسمالي تحقيق أقصى ربح مادي تسمح به الظروف الموضوعية السائدة، فالعلم يتطور على أيدي العلماء، أما التكنولوجيا، فتتطور على أيدي التكنولوجيين من مهندسين وفنيين وعمال مهرة، وإن كانت الجامعات ومراكز البحوث وما شابه ذلك هي المقر الأول للعلماء والإطار المؤسسي الذي يجمعهم، فإن مقر التكنولوجيين هو في المؤسسات الإنتاجية نفسها، حيث يكيفون الإنجازات العلمية والتكنولوجية التي ولدتها الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد المتخصصة بحيث تصبح قادرة على حل مشاكل محددة تواجهها الوحدات الإنتاجية باستمرار أثناء عملية تطوير أساليبها ومنتجاتها.

وربما نكون قد ذهبنا بعيداً بعض الشيء في التكلم عن فردية العلم وجماعية التكنولوجيا، فالعلم يبقى فردياً وقابلاً للتملك الفردي مادام لم يخرج من نطاق العقل الذي يحمله، لكن ما إن يخرج الاكتشاف العلمي من عقل حامله ويصل على أقل تقدير إلى مجموعة العلماء المهتمين بالموضوع حتى تتبخر ملكية الاكتشاف، بل يمكن القول إن مساهمة العالم الحقيقية تتجسد في استيعاب الآخرين لها وفي قدرتهم على إعطائها دفعات جديدة إلى الأمام لربطها بعملية التراكم العلمي التي تشكل أبرز سمات العلم، وما أن يحدث ذلك حتى تتحول المساهمة العلمية من صاحبها الأصلي، أي من حالة التملك الفردي إلى ملك مشاع إذا جاز التعبير، وهنا تكمن عظمة العلم، وكل ما تبقى للعالم الأصلي من حقوق تأليف ينحصر في إشارة مؤرخي العلوم بعد حين إلى اسم صاحب هذه المساهمة، وإلى المكانة العلمية التي يستحقها في تاريخ العلوم.

كذلك فإن العلم والسرية عدوان لدودان، بل يمكن القول باستحالة تجنيس أي علم من العلوم، أي إمكان احتكاره وتملكه لمدة طويلة من قبل أي شعب من الشعوب، أو حضارة من الحضارات، فالعلم لا يعترف بالحدود الجغرافية والسياسية بين الأمم، ولا بمراكز الجمارك، بل كلما حاول البعض تقييده وإخضاعه للاحتكار، قفز فوق الحدود إلى أماكن أكثر قدرة على منحه ولو لفترة الحرية والتفاعل اللذين يتطور بهما، وإن كان هذا الكلام أكثر صحة في يومنا هذا، فإن درجة منه ميزت حتى الحضارات القديمة الكبرى، حيث تسربت العلوم من حضارة إلى أخرى، وتفاعلت فيما بينها لتعطي نتاجاً اكتسب مع مرور الوقت درجة أعلى من الشمولية والإنسانية.

العلم ملك الجميع

فالعلم متاح لكل من يملك الذكاء والقدرة المادية لتحصيله، والملكية الوحيدة التي يمكن نعت العلم بها هي ملكيته الجماعية للبشرية، وهكذا عندما نتكلم - مثلاً - عن العلوم عند العرب في أوج حضارتهم، فلا نشير بذلك إلى جنسية هذه العلوم، وإنما إلى المستوى الرفيع الذي وصلت إليه العلوم على أيدي العرب بعد أن انتقلت إليهم من حضارات أخرى، وبالأخص من الحضارة اليونانية وبالمعنى نفسه نتكلم اليوم عن العلوم عند الغرب, وليس عن العلوم الغربية، لأن العلم لا يمكن نعته لا بالشرقي ولا بالغربي، بل بالإنساني، وإذا كانت ينابيعه قد تفجرت في بقاع مختلفة من الشرق، فلم تلبث هذه الروافد أن تجمعت في نهر العلوم البشرية إذا جاز التعبير، فقد اجتاز نهر العلوم على مر الزمان أراضي جبلية وسهولاً وودياناً، كما اجتاز أراضي خصبة وأخرى جدباء، وترك الانطباع بأن مصبه محصور في بقعة معينة من العالم ، لكن مياهه ما لبثت أن تفجّرت في أماكن أخرى، واتجهت نحو مصبات جديدة، آخرها المصب الغربي بانتظار أن تتهيأ الظروف لبروز مصبات بديلة.

وعلى العكس مما حصل مع العلم، فإن التكنولوجيا - كما سبق أن ذكرنا - هي الثمار التي يولدها ذكاء المجتمع، وحسن تنظيمه ونوعية الحوافز التي يوفرها. وهكذا فمن الممكن التكلم عن التكنولوجيا المتقدمة عند الصينيين والهنود والعرب في الماضي، وعن التكنولوجيا الغربية الحديثة في يومنا هذا. وإذا كان العلم يحمل بصمات أفراد وجماعات صغيرة ينتمون إلى البشرية جمعاء، حتى ولو رغماً عنهم، فإن التكنولوجيا تحمل، ليس فقط بصمات مخترعيها الأصليين، وإنما أيضاً بصمات العامل والفلاح اللذين يستخدمانها، وبصمات البنى الاجتماعية والاقتصادية والعلمية التي أفرزتها، وإذا كان من المستحيل تأميم العلم واحتكاره، فإن التكنولوجيا يمكن إخضاعها لأسوأ أنواع الاحتكار، كما هو حاصل في يومنا هذا على أوضح ما يكون.

مَرَرْنَا عَلَى دَارٍ لِمَيَّة َ مَرَّةً
وجاراتها قد كادَ يعفو مقامُها
فَلَمْ يَدْرِ إِلاَّ اللهُ مَا هَيَّجَتْ لَنَا
أهلَّة ُ أناءِ الدِّيارِ وشامُها
وقدْ زوَّدتْ ميٌّ على النأيِ قلبهُ
عَلاَقَاتِ حَاجَاتٍ طَوِيلٍ سَقَامُهَا
فأصبحتُ كالهيماءِ لا الماءُ مبري
صداها ولا يقضي عليه هيامُها
كَأَنِّي غَدَاة َ الزُّرْقِ يَا مَيُّ مُدْنَفٌ
يَكِيدُ بِنَفْسٍ قَدْ أَجَمَّ حِمَامُهَا
حِذَارَ اجْتِذَامِ الْبَيْنِ أَقْرَانَ طِيَّةٍ
مصيبٍ لوقراتِ الفؤادِ انجذامُها
خَلِيليَّ لَمَّا خِفْتُ أَنْ تَسْتَفِزَّنِي
أَحَاديثُ نَفْسي بِالنَّوَى واحْتِمَامُهَا
تَدَاوَيْتُ مِنْ مَيٍّ بِتَكْلِيمَةٍ لَهَا
فما زادَ إلاّ ضعفَ دائي كلامُها

ذو الرمة

 

 

علي تركي