هل انتهى عصر المكتبات؟

هل انتهى عصر المكتبات؟

في عصر الإنترنت ومع ظهور المكتبات الرقمية، أصبحت هناك تساؤلات عديدة حول ماهية المكتبات؟ كما أن السيل الغزير بها من المعلومات والمعارف، هل يهدد الهوية الثقافية؟ وهل انتهى عصر المكتبات التقليدية؟!

تعرف المكتبات الرقمية بأنها مجموعة من المعلومات الخاضعة لإدارة منهجية، تهدف إلى تقديم خدمة معرفية، من خلال اختزان المعلومات في صيغ رقمية، وإداراتها، ومن ثم إتاحتها عبر شبكة من الحاسبات. من المهم هنا التفريق بين السيل المتدفق من المعلومات إلى الحاسب الآلي لأي شخص في منزله، وبين إدارة المعلومات عبر شبكة الإنترنت، فالأولى تعني العشوائية والثانية تعني أن هناك من ينظم هذه المعلومات ويدققها ويمحصها قبل أن تصبح ذات مصداقية لدى من يتلقاها.

من هنا، بات من الملح أن نؤكد أن هناك سباقاً بدأ في العالم اليوم نحو نوعية جديدة من أدوات تكوين المعرفة البشرية ليس عبر الورق، لكن عبر شبكة الإنترنت، ومن سيكون له وجود حقيقي مدار بشكل جيد، سيكون له بالفعل مستقبل في الثقافة العالمية خلال السنوات القادمة. فهل هذا يعني أن مفهوم المكتبات بات حوله نقاش جديد؟

لا شك أن الإجابة بنعم ستكون منطقية،فهناك تحولات جذرية تحدث الآن، أدى بعضها إلى تشكيل اتحاد دولي للمكتبات الرقمية DLF في مقابل الاتحاد الدولي للمكتبات (التقليدية) IFLA، فالأول يضم المكتبات الجامعية في الولايات المتحدة والمكتبة البريطانية وجامعة أكسفورد ومكتبة الإسكندرية، وهي تسعى جميعاً من خلال معايير صارمة نحو خلق مجتمع مكتبي افتراضي يشكل وعاء للمعرفة الإنسانية على شبكة الإنترنت، أما الثاني فهو مجتمع المكتبات التقليدية الذي يرتكز على مفهوم المكتبات الوطنية التي تقوم بخزن وفهرسة وحفظ الإصدارات الوطنية وغيرها من أوعية المعرفة، الفرق بينهما شاسع يماثل الفرق بين الورق والحاسبات الآلية، فالأول انتشاره محدود مقارنة بالثاني، والثاني يوجد في كل بيت يتجدد في كل ثانية، الثاني سيل يتدفق ويتجدد، الأول وهو الورق وعاء وحيد غير مترابط، كل مجموعة أوراق تشكل كتاباته صورا أو أشكالا أو جداول أو إحصاءات، لكن في النوع الثاني هناك ترابط بين النص والصورة والشكل والجدول فضلاً عن الأفلام، هنا يمكن تغيير المادة وتحسينها بصورة مستمرة، من الممكن أن يتفاعل معها القارئ وينقدها، الفرق هنا الفرق بين جمود المعرفة التي يحملها الورق وحيوية التفاعل مع المعرفة عبر شبكة الإنترنت.

عبر شبكة الإنترنت وإمكاناتها غير المحدودة، لم يعد القارئ في حاجة إلى شراء الكتاب الورقي لكي يصل إلى المعلومة، ولا إلى تصفح الموسوعات للوصول لها، كما لم يعد المؤلف في حاجة للناشر التقليدي لكي ينشر كتابه، بل أصبح لديه إمكان أكبر في نشر مؤلفه، فأصبحنا نقرأ عن أدباء وشعراء ينشرون أعمالهم عبر أوعية رقمية مختلفة، ما الذي إذاً يجعل للمكتبات الرقمية دوراً إذا كان القارئ مستقلاًَ عنها والمؤلف ليس بحاجة لمثل هذه المكتبات، إن عملية تنظيم المعلومات التي يقوم بها المختصون في المعلوماتية Information Professionals وهم الذين يفرقون بين الغث والسمين والهزل والعبث واللهو والجد، فضلاً عن دورهم الذي نتخيله في الحفاظ على الهوية الثقافية على شبكة الإنترنت، هذا الدور غاية في الخطورة ويحتاج إلى مكتبات تكون هي الحاضنة لهم والفاعلة في بث هذه المعلومات سواء في شكل كتب رقمية أو مواقع إلكترونية أو بوابات Gateway،أو غير ذلك من أشكال الأوعية الرقمية، من هذا المنطق لا نستطيع لأنه مع التدفق المعلوماتي انتهى عصر المكتبات، بل إن هناك مفهوما جديدا للمكتبات سيكون بلا شك معتمداً بصورة أساسية على البث الرقمي للمعلومات.

الوسيط البشري

إذا كانت المكتبات الرقمية تختلف عن مثيلتها التقليدية في كثير من المعطيات، فإن العامل المشترك بينهما هو العنصر البشري الذي ينتج المعرفة لكي يستخدمها، وما بين المنتج والمستهلك للمعرفة وسيط يتمثل في المكتبات سواء كانت تقليدية أو رقمية، هذا الوسيط يحتاج دائماً إلى كشاف هو الإنسان الذي يقوم بعملية تكشف الأوعية أيا كان نوعها. وأنجح كشاف عالمي حاليا هو Google، لقد غيرت شبكة الإنترنت مفهوم الزمان والمكان، وأتاحت لنا فرصاً لم تكن منظورة منذ أعوام قليلة، فيمكن عن طريقها التعرف على كم هائل من المخزون المعرفي في شتى المجالات، حيث إن شبكة الإنترنت تحوي عشرات المليارات من الصفحات، قابلة للبحث والكشف في ثانية واحدة أو أقل. وفائدة الإنترنت هذه مرهونة بآلة البحث (الكشاف الإلكتروني) المستخدم للتعرف على المادة المتاحة، واختيار الأنسب منها لعرضها على الباحث، فلا يعقل أن نتصور الباحث يحاول أن يجد ما يريد بين مليارات دون دليل. ومن ثم صار الكشاف المستخدم آلية أساسية في عصرنا، بل أصبحت هذه الآلية أكثر أهمية من أي عنصر آخر في عناصر الشبكة الاتصالية المعلوماتية، ولاشك أن أهم كشاف إلكتروني على الساحة حالياَ هو Google إلا أن جوجل لم تكتف بعرض كشافها لاستخدام مئات الملايين من المتجولين على شبكة الإنترنت،بل دخلت في شراكة مع كبريات المكتبات الأكاديمية لرقمنة ملايين الكتب، حتى يتاح للباحث استعمال كشاف جوجل للبحث عما يريد فيها، أثارت هذه المبادرة جدلاً عالمياً، وبصفة خاصة في الولايات المتحدة حيث بدأ الصراع بين الناشرين من جهة وجوجل من جهة أخرى، فضلاً عن أوربا التي باتت في قلق شديد من سيطرة محرك البحث google على الفضاء الرقمي، هذا يعني سيطرة الثقافة الأمريكية والإنجليزية على الثقافة العالمية، فكأن العالم أصبح ذا ثقافة أحادية في الفضاء الرقمي مؤكدا هيمنة ثقافة بعينها، فباتت الثقافات الأوربية والآسيوية ومعها العربية وغيرها غير ذات محل في هذا الفضاء، لعل هذا ما دفع جان - نويل جانيني المدير السابق للمكتبة الوطنية الفرنسية إلى تأليف كتاب عنوانه «جوجل.. عندما تتحدى أوربا» مثيراً للقضايا التالية:

أولاً - إن سيطرة كشاف جوجل Google سوف تؤدي إلى اختيار المادة المطروحة باللغة الإنجليزية دون غيرها. فإذا تعرفت جوجل على آلاف الصفحات فإنها تقدمها في ترتيب أولويات تحكمه «فلسفة جماهيرية» أي الصفحة التي قرأها أكبر عدد من القراء كسبق في الأولويات، مما يؤدي بمزيد من مستعملي الكشاف إلى قراءتها فيعضدوا مكانتها في كشف تال يقوم به باحث آخر.

ثانياً: إن تركيز جوجل على الفقرة الواحدة في الصفحة الواحدة، فيه تحطيم للمضمون الثقافي للعمل، وليس الوسيلة المثلى لتعريف القارئ بكتاب أو مقالة.

ثالثاً: إننا نحن المهتمين بالثقافة يجب علينا أن نؤكد أن تقديم ثقافتنا بلغتنا لا يحجب عن القراء والباحثين في شتى أنحاء العالم لأن كشاف جوجل Google سيعطي الأولوية للمنتج باللغة الإنجليزية.

رابعاً: إنه يتعين علينا أيضاً أن نقدم منتجنا الثقافي في إطار مختلف عن مجرد فقرات متناثرة من صفحات متباينة، ولأن أمهات الكتب في ثقافتنا لا يجوز أن تطمس لمصلحة ما هو رائج مهما كان سطحياً.

إن خلاصة ما ينتهي إليه جانيني هي أن تقام مكتبة رقمية أوربية، تقدم الثقافة باللغات الأوربية المختلفة، وأن تستثمر أوربا لإنتاج كشاف يضاهي كفاءة كشاف جوجل لخدمة القراء والباحثين الراغبين في التعرف على الثقافة الأوربية.

لذا، بات أيضاً من الملح أن نفكر جلياً في إنتاج كشاف عربي وبناء مكتبة رقمية عربية، إذ إن الفضاء الرقمي إذا لم يوجد فيه العرب بقوة فلن يكون لهم مستقبل ثقافي، وإذا كان هناك جدل أوربي، فمن المهم أن نثير هذه القضية عربياً، فهل هناك جهود عربية في هذا المضمار؟

مكتبة المليون كتاب

تبنت مكتبة الإسكندرية عدداً من المشروعات بهدف أن يكون للعرب موطئ قدم في العالم الرقمي فبمشاركة مع كل من Carnegie Mellon Libraries - كارنيجي ميلون - والهند والصين تقوم مكتبة الإسكندرية معهم بإعداد مكتبة المليون كتاب على شبكة الإنترنت ليكون المشروع الأكبر عالمياً في هذا المجال بعد مشروع جوجل، حصة الثقافة العربية به مائتا ألف كتاب ستتضاعف في حالة مضاعفة المشروع، لكن هناك عائقا أمام نجاح مكتبة الإسكندرية، هو حجم ما طبع في الوطن العربي منذ انتشار الطباعة به في القرن 19م، والمسموح من هذا الكم بثه دون عوائق قانونية على المكتبة الرقمية، إذ إن هذا الأمر يتطلب مساهمة ومشاركة كل المؤسسات الثقافية العربية بمطبوعاتها.

ذاكرة مصر

لكن لكي يكون لمصر موطئ قدم في هذا الفضاء يجري منذ ثلاث سنوات الإعداد لإطلاق ذاكرة مصر التاريخية، وهو المشروع الذي أقوم بتنفيذه مع فريق عمل من الشباب بمكتبة الإسكندرية، على المدى البعيد سيكون لذاكرة مصر ثلاثة مستويات:

- مستوى للمستخدم العادي، الذي يبحث عن نص تاريخي مدقق مصحوباً بمواد وثائقية تساعده على رؤية الحدث أو الشخصية بصورة أكثر عمقاً، مثل الفيلم الوثائقي أو اللقطات التلفزيونية التي ترينا مجريات الحدث، أو تعليقات الصحف عليه، أو الطوابع والعملات التي صدرت في هذه المناسبة.

- مستوى للباحثين المتخصصين، حيث يستطيع أن يستدعي مزيدا من التفاصيل والخلفيات التاريخية والوثائق النادرة سواء كانت الرسمية أو الشخصية، فضلاً عن أن الذاكرة تتيح له إبداء رأيه وتصحيح المعلومات الواردة بها، إن كان هناك أخطاء:

- مستوى للأطفال: من خلال رسوم الكارتون التي تشرح التاريخ بصورة مبهجة ومسلية للأطفال، هذا المستوى هو المرحلة الأخيرة في تنفيذ المشروع، وإن كان من وجهة نظري أصعبها.

- المؤكد أن مواد هذه الذاكرة لن تتوقف عند بثها على شبكة الإنترنت بل ستمتد إلى ما لا نهاية، فمن الممكن إضافة مواد لها بصورة مستمرة، بل وتطويرها.

من المتخيل لدي أن الخط الزمني الذي بدأ بعام 1805 وينتهي بعام 1981م سيكون هو محور تصفح هذه الذاكرة، فضلاً عن الموضوعات المتنوعة التي لا تقف عند البعد السياسي الذي اعتدناه، بل يمتد إلى أن يشمل الجمعيات الأهلية، النوادي الرياضية، الشخصيات العامة، المنشآت العامة، المدن، الحياة الاجتماعية، اقتصاد والمؤسسات الاقتصادية، حتى نصل إلى محاولات للتعمق أكثر فأكثر في صلب الحياة اليومية للمصريين عبر مائتي عام تقريباً، لا ننس المشروعات الكبرى مثل خزان أسوان، حفر قناة السويس، أو الصغرى كالصناعات الصغيرة التي ظهرت في مصر في عشرينيات القرن العشرين، إذاً فعبرالخط الزمني سيستطيع الزائر للذاكرة الوصول لما يريده من مداخل متعددة.

هذه الذاكرة التي تحفظ تاريخ مصر، هي نموذج يمكن تقديمه في كل الدول العربية، ليكون هذا خارجاً عن تيار العولمة الجارف، مؤكداً شخصية كل دولة عربية على حدة، إن ما سبق أن ذكرته هو جزء فقط من المحاولات الجارية عربياً.

لقد جعل الورق تسجيل المعلومات سهلاً يسيراً، وحولت الطباعة القراءة إلى عادة يومية، وجعل الكمبيوتر العالم يعيش في ثورة من تدفق المعلومات، فهل انتهى عصر المكتبات؟ هل لم نعد في حاجة إلى تلك المباني الكبيرة لحفظ الكتب؟

هذان السؤالان لم يعودا علينا إلا بمزيد من التحديات، إن نشر الكتب لن يتوقف، ذلك أن اضطلاع الإنسان على النوادر منها تماثل من حيث الكيفية رغبته في اقتناء اللوحات القديمة وزيارة المتاحف والآثار، بل إن نشر كل ما هو نادر وقديم كنشر أوائل طبعات روايات شكسبير على موقع المكتبة البريطانية جعل القراء في نهم نحو التعامل مع هذه الطبعات مباشرة، فإذا كانت المكتبات الرقمية ستوفر النوادر من الصور والكتب التي ليس لها حقوق فكرية، فإن المكتبات التقليدية ستحتفظ بوظائف حفظ الكتب المطبوعة التي سيزداد الإقبال عليها، لأن التجربة أثبتت أن ظهور أي وسيط لا ينفي ولا يوقف الوسيط القديم للمعرفة الذي يطور من نفسه في قوالب ووظائف جديدة، كما أن المكتبات ستكون حاضنة للفكر وصانعة للثقافة، فبدلاً من أن تكون مؤسسة متلقية للمنتج الفكري والثقافي، ستكون أداة صناعة الفكر والثقافة، لذا نجد أن مكتبة الإسكندرية الجديدة وضعت ضمن خطتها الاستراتيجية أن يكون بها مراكز بحثية منتجة لهذا الفكر وحاضنة للأجيال الجديدة من المثقفين نجد هذا من خلال مراكز بحثية مثل:

- مركز النقوش والخطوط والكتابات: الذي يدرس كل أنواع النقوش والكتابات في العالم، ويعد أداة لدراسة الحضارات المختلفة وأصولها.

- معهد دراسات السلام، هدفه نشر ثقافة السلام وهو يتبع حركة سوزان مبارك الدولية للمرأة من أجل السلام وتستضيفه مكتبة الإسكندرية.

- مركز المخطوطات.

- مركز البحوث والدراسات الخاصة.

كما أن من وظائف المكتبات الآتية أن تكون ساحة للحوار والتبادل الثقافي، سواء كان داخلياً أو إقليمياً أو دولياً، لذا أنشئت مكتبة الإسكندرية:

- مركز دراسات الإسكندرية والبحر المتوسط، ليكون هو أداة التواصل بين مكتبة الإسكندرية ودول حوض البحر المتوسط شعوباً ومؤسسات رسمية وغير رسمية.

- منتدى الحوار، ليكون أداة الحوار الفكري والثقافي وملتقى يتم من خلاله مناقشة كل الأفكار والآراء الجديدة.

إن دور المكتبة تجاوز ذلك باستضافة مؤسسة الحوار الأورومتوسطي (أناليند) التابعة للاتحاد الأوربي.

إذاً علاقة المكتبة هنا علاقة تفاعلية مع المجتمع المحلي والإقليمي والدولي، ولم تعد بناية لترفيف الكتب فقط، بل أداة تثقيف وحوار فهل هذا هو دور المكتبات في المستقبل؟

لا شك أن الإجابة عن هذا التساؤل تتوقف حاليا على التغيرات المتلاحقة في وظيفة المكتبات، والتجارب المختلفة في هذا المجال وعلى رأسها تجربة مكتبة الإسكندرية.

أرى إبلي وكانتْ ذاتَ زهوٍ
إذا وردتْ يقالُ لها: قطيعُ
تكنَّفها الأراملُ واليتامى
فَصَاعُوهَا وَمَثْلُهُمُ يَصُوعُ
وَطَيَّبَ عَنْ كَرَائِمِهِنَّ نَفْسِي
مخافة َ أنْ أرى حسباً يضيعُ

ذو الرمة

 

 

خالد عزب