الإصلاح والثقافة!

  الإصلاح والثقافة!
        

          لم يذهب الدكتور سليمان العسكري رئيس تحرير مجلة (العربي), في افتتاحية عدد أغسطس 2005, بعيدًا عن الحقيقة, عندما أشار إلى أهمية عوامل الثقافة في توجيه أو تعطيل عملية الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلدان العربية, وربما يمكن للمرء أن يزعم بأن هذه العوامل هي الأساسية والمحرّكة لعناصر الإصلاح, وغني عن البيان أن الواقع الثقافي في العالم العربي مازال مثبطًا ومعطلاً لعمليات التغيير والإصلاح, حيث يتراجع الفكر الحر وتسود الثقافة الشعبية وعناصر التخلف والجمود والخرافة. هناك أسباب عدة لهذا الواقع المرير الذي تعانيه بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا, لكن السبب الرئيسي يكمن في عدم تطور الواقع السياسي باتجاه الديمقراطية والحرية منذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين, لابد أن يقر الإصلاحيون العرب والمثقفون الأساسيون في هذه المنطقة من العالم, حتى لو تناقض ذلك مع المواقف السياسية التي سبق أن اتخذوها, أن يقرّوا بأن الانقلابات العسكرية التي حدثت في البلدان الرئيسية, كانت من أهم أسباب التراجع السياسي ثم الفكري والثقافي.

          ربما يصعب على الكثير منا الإقرار, أو الاعتراف, بخطل أو خطأ المواقف التي سبق أن تبنيناها, ولكن ليس هناك أفضل من عملية مراجعة شاملة لأداء البلدان العربية, التي خضعت لحكومات الانقلابات العسكرية على كل الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية للتعرف على الحقيقة, إن من أهم عمليات المراجعة تتبع معدلات النمو الاقتصادي وتطور الأوضاع الديمغرافية, وتطور مستويات المعيشة والأوضاع التعليمية والأحوال الصحية للسكان, كذلك هناك جانب الحريات السياسية, ومدى تعدد الأفكار في المجتمع ودرجة التسامح والمنظمات المتاحة أمام المواطنين للانخراط بها للتعبير عن مواقفهم السياسية أو لتعبئة جهودهم لخدمة المجتمع في ميادين عدة. وقد تمكنت المجتمعات الإنسانية المتقدمة من تعزيز دور الفرد ودور الجماعات في تنمية قدراتها في لعب دور سياسي واجتماعي لتعزيز إمكانات المساهمة في تطوير الفعاليات الوطنية المنتجة والمجدية. وتعتمد فلسفة المجتمعات الديمقراطية على أن الفرد والجماعات المستقلة تغني البلدان بأفكارها ومبادراتها وتزيد من الإمكانات المنتجة, ويعزز دورها في تنمية الفكر الحر والهادف, بينما ترى المجتمعات الشمولية, والتي تضم الكثير من المجتمعات العربية أن النظام الحاكم هو الذي ينوب عن المجتمع في عمليات البناء الاقتصادي وصناعة القرار السياسي وتأسيس الثقافة والتحكم في وسائط الإعلام. هذه الفلسفة الشمولية التي تعتمد على قيم (الأخ الأكبر), كما أشار لذلك جورج أورويل في روايته 1984, مهدت لعبادة الفرد والانصياع لقيم الاستبداد والتبرير لتوجهات الحكام دون مناقشة أو اعتراض.

العقل المعطل

          وقد نتج عن تحكم هذه الأنظمة الشمولية في الحياة السياسية تراجع أكيد في الحياة الثقافية, واندفاع الجماهير المغيّبة في طريق الفكر الخرافي والبعد عن العقلانية, ويمكن أن يزعم المرء أن هزيمة يونيو 1967, والتي هزت الفرضيات بقدرة الأنظمة على مواجهة إسرائيل ومن يقف وراءها, قد أدت إلى تعطل في العقل العربي, وهو ما نشهد حصاده الآن على مختلف الأصعدة, كيف حدث ذلك? عندما انهار المشروع القومي بقيادة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر, اندفع الكثير من أفراد وجماعات تلك النخب في البحث عن مشروع آخر, وتوجه الكثير منهم إلى الفكر اليساري المتطرف, وآخرون اعتمدوا المشروع الإسلامي. وغني عن البيان أن المجتمعات العربية في ظل التخلف والاستبداد لابد أن تتجه, في غالبيتها, نحو الفكر الديني, وترى فيه خلاصها, حيث لم تكن هناك من أسس لتقييم الأمور بناء على وضعية ديمقراطية حرة, وقد عزز هذه التوجهات الواقع التعليمي والبنية الثقافية المتواضعة, وانتشار الأمية الأبجدية والثقافية في أوساط أغلبية من المواطنين.

          لقد تحطم حلم النهضة العربية في الأعوام الأربعين الماضية, ولن يستطيع العرب أن يستعيدوا قدرتهم على الإصلاح والبناء الحضاري, دون أن يعالجوا مواضع الخلل في ثقافتهم. إن الخطوة الأولى في هذا المشوار الطويل, تعتمد على قدرة المثقفين العرب على الخروج من شرنقة (الفكر المعولب), والذي بني على فرضيات, ربما غير واقعية تتعلق بالصراع العربي مع الآخرين.

          عندما يتأكد لهؤلاء المثقفين الذين يرسمون الخريطة الفكرية للجماهير, بأن هناك اختلالات مؤكدة في الواقع العربي ناتجة عن أخطاء في الممارسات الوطنية أو قصور في مواجهة تحديات العصر الحديث, يمكن أن نفترض إمكانات لإنجاز إصلاح سياسي واقتصادي. لقد بات النهوض الثقافي مهمًا في الحياة العربية, حيث لا يوجد مكان للمتقاعسين عن دروب التحضر والتوافق مع مستلزمات الحضارة الإنسانية, التي تعتمد على المنطق والعقلانية وفلسفة الإبداع والخلق, ولابد أن يواكب هذا التطور في البنية الثقافية توفر آليات سياسية تعتمد على الديمقراطية والحرية, وتعزيز دور الجماعات في نشر القيم, كذلك لابد أن تشجّع القوى السياسية لتبني قيم جديدة بعيدة عن العصبيات الطائفية أو القبلية أو القومية الشوفينية, وتعتمد قيم الولاء الوطني.

مِنْ أَيِّ عَهدٍ في القُرَى تتَدَفَّقُ? وبأَيِّ كَفٍّ في المدائن تُغْدِقُ?
ومن السماءِ نزلتَ أَم فُجِّرتَ من علْيا الجِنان جَداوِلاً تتَرقرقُ?
وبأَيِّ عَيْنٍ, أَم بأَيَّة مُزْنَةٍ أَم أَيِّ طُوفانٍ تفيض وتَفْهَقُ?
وبأَيِّ نَوْلٍ أَنتَ ناسجُ بُرْدَةٍ للضفَّتيْن, جَديدُها لا يَخلقُ?


(أحمد شوقي)

 

 

عامر ذياب التميمي