ذو الرمة.... المعلق بحبل الغزل

ذو الرمة.... المعلق بحبل الغزل

«فُتح الشعر بامرئ القيس وخُتم بذي الرمة».. هذه عبارة تقريرية دسها ناقد عربي قديم هو أبو عمرو بن العلاء بين أسفار الكلام، لكنها اشتهرت فيما بعد بين مؤمن بها ومشكك بنصفها، أما امرؤ القيس فلا يكاد يختلف على مكانته وريادته في القصيدة العربية اثنان من متذوقيها، وأما ذو الرمة فيحتاج منا الى أن نسبر أغواره الغامضة كي نسهم في الحكم على النصف الآخر من عبارة أبي عمرو بن العلاء، خاصة أن أسرار الشاعر ذاك ظلت معلقة بحبل كان على عاتقه، عندما قابل فتاة لا تعرف اسمه فلم تسأله ولكنها اختارت أن تناديه بحبله المعلق على عاتقه..ذو الرمة! فكان الاسم واللقب، وكان الشاعر المولود عام 77 هـ (696م ) الذي تنازل عن اسمه الحقيقي لمصلحة لقب هامشي لمجرد أن فتاة جميلة، صارت فيما بعد محبوبته الأثيرة، وملهمته الأبدية، ابتكرته من أجله، حتى وإن كانت السخرية أُمُّ الابتكار.

هذه إحدى حكايات لقبه الغريب. أما الحكاية الثانية فتبدأ من الشعر وتنتهي إليه حيث تعيد التسمية إلى بيت شعر قال فيه:

وَغَيرَ مَرضوخِ القَفا مَوتودِ أَشعَثَ باقي رُمَّة التَقليدِ

وتنقل لنا الحكاية الأخيرة صورته طفلا صغيرا علقت أمه في رقبته حبلا، أو رمة رقيقة تنتهي بتميمة وصفها لها البعض علاجا للخوف الذي ينتاب صغيرها ليلاً، وربما تعويذة تدفع بها حسد الحاسدين، فتذكر الناس ذا الرمة طفلا يكبر ويتخلص من رمته وتميمته ليصير شاعرا، ونسوا غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي.. وهو اسمه ونسبه الذي ينتهي به إلى مضر.

على أن اللقب الذي تنازعته الحكايات وغلب على اسم الشاعر كان علمه لدى الناس، أما شعره فكان طريقه إلى إعجابهم وإعجاب فئة مميزة من شعراء عصره ممن أكبروا فيه أنه أخلص في شعره للجمال يتوسمه في البشر والحجر، ويبحث عنه بين تضاعيف الجمال وأسرار اللغة، ويسقيه من عاطفته التي يقلبها على جمر الواقع فتنبثق من بين الرماد فينيقيا شعريا طائرا بين الأغراض المعتادة لأغلب شعراء ذلك الزمان.

وقد كان أولئك الشعراء أول من اعترف بشعرية ذي الرمة ومكانته الخاصة بينهم. حتى أن الشاعرين المختلفين والمتناقضين في بوتقة النقائض الشعرية الأشهر في تاريخ العرب ونعني بهما جريرا والفرزدق، اتفقا -على الرغم من اختلافهما في كل شيء تقريبا - على ذي الرمة كشاعر كبير، فقال جرير «لو خرس ذو الرمة بعد قصيدته: (ما بال عينيك منها الماء ينسكب) لكان أشعر الناس». وقيل للفرزدق: أتعلم أحدا أشعر منك ؟ قال: غلام من بني عدي، يركب أعجاز الإبل... يقصد ذا الرمة بالطبع.

وقد أجمعت الكتب التاريخية التي عنيت بترجمات الشعراء على أنه أحد شعراء العصر الأموي المبرزين بالرغم من أن من راق له أن يضع الشعراء في طبقات تقييمية متتالية وفقا لمكانتهم الأدبية وضعه في الطبقة الثانية منهم. لقد كان ذو الرمة ممن ساروا على نهج سابقيه في اختيار موضوعاته، محافظا على فصاحته الموروثة ورصانته اللفظية بشيء من السمت البدوي في مفرداته. وقد طرق أبواب كل الأغراض الشعرية التي اشتهر بها الشعراء العرب في عصره والعصور التي سبقته إلا أن الغزل كان هواه وهويته الشعرية، على الرغم من أن المؤرخين ونقاد الأدب القديم المولعين بتقصي أخبار الشعراء نقلوا إلينا انه كان قصير القامة دميم الوجه شديد السمرة مما لا يتوافق مع الصورة النمطية التقليدية لشعراء الغزل، الذين يتخذون من وسامتهم أحيانا أداة لترويج قصائدهم الغزلية بين ممن يتذوق هذا اللون الشعري تحديدا. فقد اشتهر ذو الرمة بحبه لمي تلك الفتاة التي أهدته لقبه ساخرة ذات يوم، فأهداها جل قصائده الغزلية، وكثيرا من مدائحه التي لم يكد يبدؤها بالثناء على الممدوح حتى يغادره إلى مي وحكاياته معها وشوقه الذي لا ينتهي لها.

وفي حكاية موت الشاعر التي يرويها لنا الأصفهاني في أغانيه ما يشير إلى خضرة قلب الشاعر دميم الملامح، ورقيق العواطف، فيقول صاحب الأغاني إنه لما احتضر ذو الرمة قال: إني لست ممن يدفن في الغموض والوهاد. قالوا: فكيف نصنع ‏بك ونحن في رمال الدهناء؟ قال: فأين أنتم من كثبان حزوى - وهما رملتان ‏مشرفتان على ما حولهما من الرمال - قالوا: فكيف نحفر لك في الرمل وهو هائل؟، قال: ‏فأين الشجر والمدر والأعواد؟ قالوا: فصلينا عليه في بطن الماء ثم حملنا له الشجر والمدر ‏على الكباش وهي أقوى على الصعود في الرمل من الإبل. فجعلوا قبره هناك وزبروه ‏بذلك الشجر والمدر ودلوه في قبره، فأنت إذا عرفت موضع قبره رأيته قبل أن تدخل ‏الدهناء وأنت بالدو على مسيرة ثلاث.‏

وكان ذلك بأصبهان، وقيل بالبادية عام 117هـ (735م).

 

 

سعدية مفرح