أبو نواس للشاعر أكثر من وجه
أبو نواس للشاعر أكثر من وجه
لهذا الشاعر العباسي شخصيات ثرية متعددة الأبعاد في تراثنا الأدبي، فهي مرتبطة بالتمرد على التقاليد القديمة للحياة العربية التي كان عليها أن تتجدد في العصر العباسي، وقرينة الثورة على التقاليد الجامدة في الموروث الشعري. إن دعوة أبي نواس إلى التجديد الشعري لا تنفصل عن الدعوة إلى وصل الشعر بالحياة والتجارب الفعلية التي يعاينها الشاعر أو يعانيها، فلا قيمة لشعر لا يبدأ من الواقع الذي يصدر عنه ليعود إليه، ولا معنى لشعر لا يسلط بؤرة انتباهه على معنى الحياة التي يحياها، باحثا عن مغزاها ومرماها، مؤرقا بأبعادها الإنسانية التي ينتهكها القمع، فيدفع الشاعر الشاهد إلى الفرار منها، وممارسة كل ما يستطيعه من حيل التقية التي قد تدفعه إلى التظاهر بالمجون والإغراق فيه، فالاستخفاف بالشاعر الماجن والنظرة الهازئة إليه أخف وطأة من النطع والسيف الذي يطيح برقاب أمثال بشار بن برد. أما إذا فرغ الشاعر لنفسه، في لحظات توحده، بعيداً عن خطر السلاطين الذي يتهدده، ورقابة العسس الذي يترصده، فهناك التوحد مع الواحد الذي هو الأنا التي تعاني الأسئلة الوجودية المحيرة التي تحاصرها بالحيرة والشك والقلق، ولسان حالها يقول على لسان النواسي: وفوق رأسي غبار وليس من المهم أن نوافق أدونيس على ما ذهب إليه من أن أبا نواس هو بودلير العرب، فالواقع أن أهم ما في قراءة أدونيس للنواسي هي التفاته إلى البعد الوجودي في شخصيته، وهذا الوعي المؤرّق بالحضور الذي دفع أدونيس إلى أن يصوغ بالكلمات رؤيته الشعرية في أحد مقاطع «الموت المعاد» من ديوان «أغاني مهيار الدمشقي» الذي صدر في مطالع الستينيات. وكانت مرثية أبي نواس إحدى المراثي المرتبطة بالولادة الجديدة المتكررة التي يعبر من خلالها المبدعون الموتى إلى الحياة في مرايا إبداع غيرهم أو تجدد الوعي بإبداعهم الذي يظل مقاوماً العدم. وتنطلق مرثية النواسي الأدونيسية على النحو التالي: تائه والنهار حولك دهر من الدِّمن ضياع واغتراب والقصيدة تبدأ بدال «التيه» الذي يومئ إلى الضياع والاغتراب، والسير بلا هدى في فيافي الحياة في طريق يمتد بامتداد الدهر، تحيطه الأطلال من كل جانب،كأنها علامات حيوات ذاهبة، يمضي الشاعر الرجيم في موازاتها،أو بالرغم منها، تبرز على وجهه علامات الزمن الذي يهزمه الإبداع، فيجمع بين الأصل (النواسي) والمرأة (الأدونيسية) في المدى الذي يتحول إلى مواكب من حجر كأنها مواكب الحجر التي يصاغ جمعها بالمفرد الذي يطارده تاريخ محتشد بالموت لأنه مزدحم بالقمع، لا يقاومه سوى المبدع الذي يغدو إبداعه علامة خصب، أنشودة للمطر، البعث، الحياة التي ينطوي عليها الشعر في انبثاقة الحضور الفتي للكتابة النواسية التي تكتب ريشتها على أجساد الجواري النواهد، وتأخذ مادة كتابتها من الحياة التي علّمنا شعر النواسي ألا قيمة لإبداع إلا بمعاينتها ومعاناتها. هكذا يتحد الأصل وصورته في المرآة، ويتجاوب المنزع ما بين أبي نواس وأدونيس في مبدأ الإبداع الذي لا تهبط التماعاته إلا في التوحد الليلي، في الظلمة الصافية التي تحتضن لوامع الشعر فتلف المبدعين بالعباءات التي يتسربلون بها، كأنها دروعهم في مواجهة الدِّمن وغيرها من علامات الموت، وفي تحد للطغاة المرائين الذين أغرقوا التاريخ بالدماء، فصنعوا عالماً من القمع،جديد قديم، لا مواجهة له إلا بتمرد المبدع الذي يستعذب الألم في سبيل ما يرى أنه الحق، معلقاً مصيره على شبا ريشته علامة على استعذابه العذاب الجميل الذي يستبدل الحرية بالضرورة، والريح التي تجعل الحركة موضع السكون، والشرر الذي لا يتباعد، في دلالاته، عن النار التي سرقها بروميثيوس، فتأتي في إثرها علامات الخصب والحياة المجددة: الحضور في الوجود، الإبداع، خصوبة الأرض وعودة الربيع إلى الحياة. ولتكرار «خلِّنا يا أبانواس» دلالة الرغبة التي تجمع بين الحاضر والماضي في المدى الذي يفترشه مبدأ الرغبة التي تريد الانتصار على مبدأ الضرورة، كي تتفجر بالإبداع الذي يقاوم الموت والجدب والطغيان الذي يكمل زوايا المثلث المعادي للحياة والشعر والبعث والأمل. تفسير اجتماعي هذه الصورة الوجودية لأبي نواس التي صاغها أدونيس على شاكلته، تقابلها صورة اجتماعية صاغها أمل دنقل على شاكلته، خصوصاً في تمرده الاجتماعي السياسي، بعيداً عن الآفاق الميتافيزيقية التي يومئ إليها حضور النواسي الأدونيسي. وتتكامل ملامح الصورة التي يصنعها أمل، من منظوره، في قصيدة «من أوراق أبي نواس» الموجودة في ديوانه «العهد الآتي» الذي صدر في السبعينيات الساداتية، في سياق اقتصاد يتحول «الانفتاح» فيه إلى «سداح مداح». وكانت النتيجة اتساع الفجوة بين الطبقات، وانسحاق الفقراء على نحو متزايد، وسيطرة رأسمال وحشي، ظل يواصل تصاعد وحشيته التي لاتزال تترك الفقراء أكثر فقراً، والأغنياء أكثر غنى، في موازاة موجة تديين متزايدة، أشاعتها جماعات الإسلام السياسي التي تحالف معها السادات، في مواجهة المجمعات اليسارية والناصرية والقومية التي أصبحت في موقع الأعداء، خصوصاً بشعاراتهم التي ظلت متعلقة بماض أراد السادات محوه. هكذا يظهر أبو نواس أمل دنقل في أوراق بالغة التكثيف، موازية لحياته المتعاقبة والمنحى الفكري الذي اختاره، أو الذي فرضته عليه الشروط الاجتماعية السياسية التي عاش فيها، والتي جعلته قناعاً عصرياً لأشباهه من المبدعين، وعلى رأسهم الشاعر الذي افتتح ديوانه الجسور - العهد الآتي - بصلوات إلى أبيه الذي في المباحث، ذلك الذي تفرد وحده في اليسر، بينما ترك اليمين واليسار في الخسر، إلا الذين يماشون، ويوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت. ولم يكن أبو نواس واحداً من هؤلاء. فقد كان متمرداً وشاعراً رجيماً مثل شبيهه العصري (أمل دنقل) الذي يقدم حياة شبيهه القديم في سبع أوراق، مستغلاً الرقم سبعة (بدلالاته المتعددة) في إغلاق الدائرة التي تبدأ بالورقة الأولى على النحو التالي: «ملك أم كتابة؟» *** «ملك أم كتابة؟» والمقطع الأول من الورقة دال في سخريته التي تؤكد أننا نختار، ولكن لعبة الحياة (التي تبدو كأنها لعبة حظ) تختار لنا ما يؤكد أن مصيرنا مقدور علينا، وأننا بالقدر الذي لا إرادة لنا في صنع حياتنا، على أعيننا، لا إرادة لنا في تحديد مجرى هذه الحياة منذ البداية، فهي تدور بنا كأنها لعبة الحظ التي تأتي نقيض إرادتنا فتتضافر لعبة الطبقات والمراتب التي نساق إليها على الرغم من إرادتنا. والقالب السردي مقصود لتأكيد السخرية، وإكمال تصوير الموقف الذي يجمع بين طفلين متآخيين، سرعان ما يتحولان إلى نقيضين، وذلك في المدى الذي يبدو فيه من العملة وجه المليك السعيد: باسما في مهابة. ويكتمل الموقف بالمشهد الطبيعي الذي يوازي بين طفلين لايزال حبر الطفولة فوق رداء كل منهما والعصافير التي تمرق عبر البيوت، وتهبط فوق النخيل، في أفق يظهر صغر المتحركين فيه، ويرد مصائرهما إلى إرادة غير إرادتهما. وتبرز المفارقة عندما يختار أحدهما الكتابة فيخرج له الملك، ويختار ثانيهما «الملك» فتخرج له الكتابة، فتكتمل السخرية بما يشبه دلالة عجز البيت القديم: «أريد فلا أعطى، وأعطى ولم أردِ» لغة الحياة اليومية والحرص على التقنية دال في هذا المقطع الاستهلالي، تأكيداً لنغمية الأسطر، وإبرازاً للإيقاع، خصوصاً مع تدفق السرد الواقعي، في لغة أقرب إلى لغة الحياة اليومية التي يؤكدها التلاعب بالتفعيلة العروضية خصوصاً حين تنبسط أو تنقبض مع تموجات الأسطر التي يطلقها السرد، وتعقلها القافية التي تضبط إيقاعها الدال عبر كل مقطع. ونصل إلى بقية المقطع: دارت الأرض دورتها.. والمقطع المكمل للورقة الأولى وسخريتها الدالة (التي ترهص بما بعدها) يبدأ بالاستعارة التي تردنا إلى دوران الأرض، حيث الفلك الدوّار الذي يتقلب بالمصائر ما بين أبراج السعود والنحوس، أو حقول الأسى وحقول الصبابة، فيلتقي الصديقان القديمان، كأنهما قطرتان على درجات سلم القصر الذي يحتويهما، في مجاز البعضية الذي يدل فيه الجزء الكبير على الصغير، أو يضيع حجم الجزء الصغير في فضاء الجزء الكبير، فيغدو الصغير نافلة يمكن الاستغناء عنها في هوان موقعها حتى لو انتهى الأمر بالذي اختار صورة الملك صغيراً، إلى أن يصبح الحاجب أحد رموز السلطة القمعية، والذي اختار الكتابة، أن يغدو نديم الملك الذي يقوم بتسليته من وراء أقنعة المجون التي غدت نوعاً من التقية. وتنقلنا الورقة الثانية إلى ما أدركه المختفي وراء أقنعة المجون: من يملك العملة يمسك بالوجهين وهما سطران دالان على سطوة المال الذي يمكن أن يشتري السلطة، ويغوي الملوك، فيتحكم في الملك والأقلام على السواء، أما الفقراء فهم البؤساء المحتجزون بين شقي الرحى، أو بين مطرقة الحاكم وسندان رأس المال، وارتفاع درجة الكثافة دالة في الورقة التي تقول الكثير باللفظ القليل، خصوصا في تعبيرها عن الخاص الذي يغدو عاما يجاوز زمانا بعينه إلى غيره من الأزمنة. فتبدو دلالة الورقة كأنها ترجيعة قصيرة الرجع، تردنا من العام إلى الخاص مرة أخرى، وتضعنا في مواجهة بطش السلطان الذي يقمع عسسه كل من يرونه خارجا على فكر النخبة الحاكمة المتحالفة مع رأس المال الذي يحركها. ومن هذا المنظور، تستعيد الورقة الطفل أبا نواس وهو يرى مصرع أبيه على أيدي زبانية السلطان: نائما كنت جانبه، وسمعت الحرس يوقظون أبي والمقطع بالغ الدلالة في تصوير قتل الأب الذي يحفر تفاصيله في وعي الطفل الذي لا ينسيه تعاقب الأعوام دموية المشهد وبشاعته، وهل هناك ما هو أفظع على وعي طفل من انتزاعه من حضن أبيه وقتل الأب أمام عينيه. وطبيعي ألا تترك عينا ذاكرة الطفل التفاصيل التي علقت بذاكرته، موجعة إياه بدلالاتها القاسيات: الأم ترقب المشهد محلولة الشعر، بعد أن انتهك العسس حرمة منزلها، والأب الذي يضربه العسس كي يعترف بجريمة لم يرتكبها، بل يتعجب لإلصاقها به، ولا يملك إزاء ضربات العسس له أمام ابنه سوى أن يظل مرفوع القامة، لا ينحني تحت وطأة الضرب، كأنه يحافظ على مهابته العائلية أمام عينيّ ابنه وزوجه، ويظل كذلك إلى أن يسوقه العسكر إلى مصيره، تاركين اليتم متشحاً بالخرس لأطفاله وزوجه الذين أخرسهم رعب انحفر كالعلة التي لا برء منها على مدى العمر، مقدوراً على الطفل الذي أدركته حرفة الشعر. ويبدو أن دلالة كلمة «الخَرَس» التي تنتهي بها الورقة هي التي تولدت منها أسطر الورقة الرابعة. وهي تدور حول علاقة الابن بالعسس الذي حرمه منه أبيه، ذلك الأب الذي لم ينس صورته وهو يمسك مهابته العائلية. ونقرأ: أيها الشعر.. يا أيها الفرح المختلس. بلاغة المقموعين وكان النواسي القديم يعبر بمثل هذه الأبيات عن بلاغة المقموعين التي اشترك في صياغتها مع أقرانه، سواء بامتداح الصمت، أو باللجوء إلى حيل التمثيل والكناية والمجاز الذي ينطق المسكوت عنه على نحو مراوغ لا يمكن الإمساك به، أو الاتهام على أساسه. أما النواسي العصري (أمل) فإنه لم يقبل الصمت، ولجأ إلى حيل الأقنعة والكنايات المراوغة حتى يظل الشعر له، ولنا، نوعاً من الفرح المختلس، حتى لوصادره عسكر الدول التسلطية التي تحاصر لهب التمرد فيه. ولقد كان من الطبيعي، بعد الورقة التي تبين عن أسباب خرس الشعر، أن تعود تداعيات ذاكرة الطفل إلى الأم الفارسية التي ظلت ترعاه بعد موت الأب: وأمي خادمة فارسية *** نائماً كنت جانبها ورأيت ملك القُدُس ودال أن يكون الموت، قمعاً، هو الوجه الآخر من الموت، مهانة، فكلاهما موت حرم الابن الطفل من أبيه وأمه، كي يواجه الحياة وحيدا، يشق فيها طريقه بمهنة الشعر التي احترفها بعد أن أدرك الذين رعوه، يتيماً، موهبته في الكتابة، لكن الطفل الذي ظل يحفظ في وعيه المقموع صورة اغتيال أبيه، على أيدي عسس السلطان، ظل يحفظ بالقدر نفسه صورة أمه التي امتهن كرامتها سادتها الذين آذوها بأعينهم الفاجرة، وتندروا على لهجتها، وأرهقوها بخدمتهم إلى أن ماتت في حضن ابنها الذي تركته للحياة، عاقداً العزم على أن يكون أفصح من العرب الفصحاء لغة، وأقدر على مواصلة الحياة تقية، والسخرية من أثريائها وأمرائها ومن تسببوا في حرمانه من أبيه وأمه، سلاحه الشعر الذي يخفي الجدّ وراء الهزل، ويستبدل المراوغة بالمصارحة، حتى يحفظ على نفسه الشعر الذي رآه، وحده، الفرح المختلس في ذلك العالم المليء بالقمع والظلم، حيث يتحالف ذوو اللحى مع الأثرياء والسلاطين، شاغلين المسلمين عن قضاياهم الأساسية بجدال يباعد بينهم ورؤية الواقع على حقيقته، وهو الأمر الذي تؤكده الورقة السادسة حين نقرأ فيها: لا تسألني إن كان القرآن طبائع الاستبداد والأبيات تصلح في الدلالة على زمانها وزماننا، وتلمز السلاطين الذين ينهبون ومن يلوذ بهم ثروات شعوبهم، مشيعين طبائع الاستبداد المصاحبة للظلم والقمع وصور التدليس التي تصوغها وتشيعها الأجهزة الأيديولوجية للدولة التسلطية، ومن يتحالفون معها من المتاجرين بالدين أو المتمسحين فيه، هؤلاء الذين يرضى عنهم سلاطين الجور ما ظلوا يشغلون الناس عن السؤال الجذري: هل السلطان لص أو شريف، غاصب أو عادل، خيّر أو شرير؟ وهذا سؤال يوصلنا إلى ما يكمل الدائرة بالورقة التي تبرر المنحنى الشخصي لحياة أبي نواس الذي استبدل السكر بالصحو، والهزل بالجد، والمراوغة بالصراحة، والمجاز بالحقيقة: كنت في كربلاء *** وتساءلت كيف السيوف استباحت بني الأكرمين *** إن تكن كلمات الحسين *** هكذا نصل إلى ذروة القصيدة، وأسطر الورقة الأخيرة تضع إصبعها على الجرح الذي هو المصدر الأصلي لكل بلاء: رأس المال الفاسد الذي يشتري الحكام والمحكومين، فيغدو الجميع طوع بنانه، كأنه الشيطان الذي لا راد لتسلطه وجبروته. وهل هناك أقوى من الذهب المتلألئ في كل عين؟ الذهب الذي يفسد الجميع، ما ظلوا قابلين للفساد، فيستبدل الباطل بالحق، والظلم بالعدل، والغاصب بصاحب الحق، ودليل ذلك ما فعله الذهب الأموي الذي أغرى رسل الشر بمطاردة حفيد الرسول الذي حالوا دونه والماء، وقطعوا رأسه ليحملوها إلى مغتصب الخلافة التي أصبحت ملكاً عضوضاً، بعد أن أصبح الفرات لساناً أخرس من الدم، وصمتت كل الأصوات رعباً وخوفاً، فذهبت كلمات الحسين سدى، وسقط جلال الحسين، وتكسرت سيوف الذين نصروه إلى آخر لحظة في حياتهم، وشهد الجميع التمثيل البشع بحفيد الرسول. وماذا كان يمكن أن يفعل الشعر في هذا العالم، خصوصاً حين يخرسه القمع، وتتربص بأصحابه السيوف المشرعة؟ لا شيء سوى الصمت، والسخرية الواضحة المكتنزة الدلالة في السؤال: «أفتقدر أن تنقذ الحق ثرثرة الشعراء». والإجابة المريرة مضمنة في السؤال، فلا معنى للكلمة دون الفعل، ولا معنى للفعل إلا إذا تحول إلى عاصفة تقتلع كل أشجار الشر. وإلى أن يحدث ذلك ليس أمام النواسي القديم سوى معاقرة الخمر، والتطوح في حاناتها، والهروب من الصحو، ما ظل الصحو مقروناً بالدماء والظلم والفظائع التي يرتكبها حكام الجور الذين يسلطون الزبانية من عسسهم على كل من يشتبهون في ولائه للسلطان، فيأخذونه بالظن حتى لوكان بريئاً، كذلك الأب الذي ظل يمسك قامته ومهابته العائلية حتى لا يرى أبناؤه ضعفه، ويظل موفور الكرامة في ذاكرتهم إلى النهاية، مهما تراكمت على هذه الذاكرة سحائب الدم وأشكال القمع. أما الشعر فيظل هو الفرح المختلس بالإبداع الذي يتبرعم كالزهور العنيدة ما بين الصخور، ويراوغ القمع بما ينسبه إلى بلاغة المقموعين.
|