صورة الشاعر العربي على مر العصور

صورة الشاعر العربي على مر العصور

كان الشاعر العربي - وسيظل - هو لسان أمته منذ امرئ القيس، غير أن فهمه لمعنى التعبير عن أمته اختلف بتأثير الكيانات السياسية والثقافية والاجتماعية التي ينتمي إليها الشاعر العربي الذي عاش حياة القبيلة وأصبح مفخرة من مفاخرها، ليس كالشاعر الذي عاش حياة الدولة وأصبح له فيها مكانة يغبطه عليها أكبر أعيانها وليس كالشاعر الذي يعيش حياة الأمة فيرسل النظر ليرى أمته تتراءى له في مواكب الأجيال فيعتز بمفاخرها، ويشيد بمآثرها، ويذكر من نبغ فيها من أبطال وعلماء وعظماء، داعيا آخرها إلى وصل ما بدأ به أولها، مؤكدا أن كل ما خلفه الماضي للحاضر، وما سيخلفه الحاضر للمستقبل، من علم وعمل، من حكمة وفلسفة، من إبداع وابتكار، من تقدم وازدهار... هو ثروة الأمة التي ينبغي ألا ينضب نوعها ولا تفنى مادتها.

وإذا كانت هذه هي الصورة العامة للشاعر العربي، فهناك صورة خاصة لكل شاعر تفرضها كونه ابن زمانه وابن مكانه. ولكي نتبين حقيقة ملامح وقسمات صورة هذا الشاعر العربي من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث، علينا أن نستأنس بعدد من المصادر العربية والأجنبية التي تعلن عن نفسها عند الرجوع إليها.

نحن الآن نقف عند أطلال العصر الجاهلي. وبالتحديد عند المائة والخمسين عامًا قبل الإسلام، تلك التي ورثنا عنها الشعر الجاهلي المعروف لنا واللغة الجاهلية التي تكامل فيها الخط العربي. وأما من قبل هذه الفترة الزمنية فالشعر فيها مجهول الهوية، يشوبه الغموض. وينبغي أن نعرف قبل المضي عبر القرون أن كلمة «جاهلية» التي تطلق على هذا العصر أو ما قبله ليست مشتقة من الجهل، إنما هي مشتقة من معاني الحمق والغضب والنزق والأخذ بما حرمه الإسلام من موبقات ونقائض كما تشير الآية الكريمة: خذ العفو وأمُرْ بالعرف وأعرض عن الجاهلين .

وموضوعات الشاعر الجاهلي أجملها أبو تمام في عشرة هي: الحماسة، والمراثي، والأدب، والنسب، والهجاء، والمديح، والسير، والنعاس، والملح، ومذمة اليسار. بينما وزعها قدامة بكتابه «نقد الشعر» في ستة هي: المديح والهجاء والنسيب والمراثي والوصف والتشبيه. وجعلها ابن رشيق في كتابه «العمدة» تسعة هي: النسيب والمديح والافتخار والرثاء، والاقتضاء، والعقاب، والوعيد، والهجاء، والاعتذار.

وأيا كان هناك اختلاف في تقسيم هذه الموضوعات. فالثابت أن لها خصائص معنوية وأخرى لفظية. فأما الخصائص المعنوية فإنها تنطوي على معان واضحة بسيطة ليس فيها تكلف أو إغراب أو غموض، حين يتكلم الشاعر الجاهلي عن أحاسيسه أو حين يصور ما حوله في الطبيعة. وأما الخصائص اللفظية فتتحدد في أن شعره كامل الصياغة، تام التراكيب، وأن أكثر مدلولاته حسية. والعبارة فيه مستوفاة فلا قصور فيها ولا عجز. وهو ما يجعل معاني الشاعر الجاهلي ترقى رقيا لغويا باهرا. هذا الرقي الذي يحدث عفوا، قد سبقته إلى ذلك تجارب طويلة في غضون عصور ماضية، ومازالت هذه وتلك تنمو وتتكامل حتى أخذت الصياغة الشعرية عنده هذه الصورة الراقية.

فالألفاظ توضع في مكانها، والعبارات تؤدي معانيها.. ومرجع ذلك أن الشعراء كانوا يرددون معاني بعينها، حتى تكاد قصائدهم ومعلقاتهم تتحول إلى ما يشبه طريقا مرسوما يسيرون فيه كما تسير قوافلهم سيرا رتيبا: وكانوا هم يشعرون بذلك ولا يتحرجون من الاعتراف به، وإلا فما معنى أن يقول أحدهم وهو الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في بيت مأثور:

ما أرانا نقول إلا معارا
أو معادا من لفظنا مكرورًا

وطبيعي أن يكون لهذا العصر أعلام من الشعراء في مقدمتهم امرؤ القيس، والنابغة الذبياني والأعشى، وعنترة، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى. يضاف إلى هؤلاء طوائف من الشعراء يعرفون بالفرسان تغلب فروسيتهم على شعرهم وآخرون يعرفون بشعراء الصعاليك وهم الذين يتجردون لقطع الطرق طلبا للرزق. ومع الفروسية والصعلكة قالوا شعرا رفيع المستوى.

وإذا ما تأملنا ملامح صورة زعيمهم امرئ القيس نجده من قبيلة كندة باليمن من بيت ملك وسيادة، ولهذا فإن له أسماء وألقابا مختلفة فيسمى حندجا، وعديا، ويلقب بالملك الضال أو ذى القروح إلا أن أشهر ألقابه هو لقب: امرئ القيس انتسابا إلى صنم في الجاهلية كانوا يعبدونه اسمه القيس. وأبوه الملك حُجر بن الحارث، وأمه فاطمة بنت ربيعة أخت كليب والمهلهل المشهورين بحروب البسوس التي دامت عشرات السنين مع أعدائهما.

ولا نعرف على وجه اليقين سنة مولده ويظن أنها كانت في أوائل القرن السادس الميلادي ويقال إن أباه حجرا - وقد كان ملكا - طرده وأقسم بأيمان مغلظة ألا يقيم معه في دار واحدة مادام يقول الشعر ويتعاطاه. فقد كانت الملوك - وقتئذ - تأبى وتأنف من أن يقرض أبناؤهم الشعر. فكان امرؤ القيس يسير في أحياء العرب ومعه شذاذ القبائل وصعاليكها حتى إذا صادفوا غديرا أو موضع صيد أقاموا فيه وذبحوا مما يصيدونه.

وبقي على هذه الحال حتي أتاه مقتل أبيه فعلق تعليقًا صار بعد ذلك مثلاً يقال بين العرب: «ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا.. اليوم خمر وغدا أمر» وأقسم ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بطيب، ولا يقرب النساء حتى يأخذ بثأر أبيه. ولا يرتاب مؤرخو الأدب ونقاده في أنه قد حاول ولكن محاولاته باءت بالفشل ولم يلبث أن مات، ولا يعرف بالضبط تاريخ وفاته غير أنهم يرجحون أن تكون هذه الوفاة بين عامي 530 و 540 ميلادية.

وقد اشتمل شعر امرئ القيس على بعض الموضوعات التي اتسم بها الشعر الجاهلي عامة، ومنها الغزل فنراه يبث محبوبته فاطمة حبه، مصورا دلالها، ومعاتبها قائلا:

أفاطمَ مهلاً بعض هذا التدللِ
وإن كنتِ قد أزمعتِ صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ

الشعر وروح الدين

ونسارع الخطى في رحلتنا مع الشعر.. فنحن على موعد مع شعراء صدر الإسلام. وعن هذا العصر يقول بعض المؤرخين - ومنهم المستشرقون - إنه انحسر على قدر قليل من شعر المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام. إلا أن الكثرة من المؤرخين تدحض هذا الزعم وتقرر أنه حين أتم الله على هؤلاء الشعراء المخضرمين نعمة الإسلام وجاهدوا في سبيله.. استلهموا من روح هذا الدين أشعارا أرادوا بها نشر نوره في أطباق الأرض. وقد مضوا يصدرون أشعارا رفيعة المستوى عن الإسلام، اتسمت بما في هذا الدين الجديد من سمات وملامح، في مقدمتها القيم الروحية على اعتبار أنه لم يكن عقيدة سماوية فحسب، بل هو أيضًا سلوك خلقي قويم يدعو إلى طهارة النفس، ونبذ الفواحش والأحقاد، ومراقبة الإنسان لنفسه فيما يأتي من قول وعمل. وإلى جانب هذه القيم الروحية كانت هناك القيم الاجتماعية حيث اتجه كتاب الله إلى العقل ورفع من شأنه، إذ جعله الحكم في فروع الشريعة وفتح للعقل أبوابا موصدة للاجتهاد والتفكير والتثقيف فرأينا المسلمين الأوائل يتعرفون على ما لدى الأمم المفتوحة أمامهم من تراث عقلي.

هذه القيم وغيرها التي اتسم بها الإسلام بأمر كتابه وسنة رسوله كان لا بد أن يكون لها صدى في مشاعر الشعراء وأحاسيسهم، حتى ولو كانوا قد أدركوا الجاهلية، فتحولوا إلى هذه القيم الجديدة التي تصدرت أسفارهم، حيث وقف شعراء المدينة المنورة يتقدمهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة إلى جانب الإسلام مصورين قيمه الجديدة مستمدين أقوالهم من كتابه حتى في ردهم على المشركين، فنقرأ لعبدالله بن رواحة بيته المشهور:

شهدتُ بأن وعدَ الله حقٌ
وأن النارَ مثوى الكافرينا

وقد برز من شعراء الجاهلية شاعر الرسول حسان بن ثابت، وإلى جانبه كعب بن زهير، ولبيد، والحطيئة والنابغة الجعدي. فنرى حسان بن ثابت يدرك الإسلام فيسلم بعد أن عاش حياة الجاهلية، التي غلبت عليها ألوان اللهو والمجون والنزق، حتى إذا أخذ شعراء المشركين في هجاء الرسول وصحبه انبرى لهم حسان بلاذع الهجاء وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدعو له: «اللهم أيده بروح القدس».

وطبيعي والأمر كذلك أن نلمح في صورة هذا الشاعر معاني الاستمساك بالدين الجديد في شعره. فيجري شعره بعبارات جاءت في القرآن الكريم حيث يشير إلى قوله تعالى «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا» فيقول شعرًا:

فينا الرسولُ وفينا الحقُ نتبعه
حتى الممات ونصر غير محدودِ
مستعصمين بحبل غيرمنجذَم
مستحكم من حبال الله ممَدودِ

ونراه يرثي الرسول (ص) بعد وفاته قائلا:

ما فقد الماضون مثلَ محمدٍ
ولا مثله حتى القيامةِ يفقدُ

مديح بني أمية

في هذا العصر تعددت أغراض الشعر وتنوعت. وأول ما يستوقفنا من صور شعرائه هو صورة شاعر المديح. هذا اللون من الشعر امتد من العصر الجاهلي حيث تعود العرب أن ينوهوا بأشرافهم، فيتحدثوا عن خصالهم النبيلة من الكرم والشجاعة والحلم والوفاء، وحماية الجار. وكان لا يعتبر الشريف منهم شريفًا إلا إذا تغنى بفضله ومناقبه أكثر من شاعر. وأجزاء كتاب الأغاني للأصفهاني والتاريخ للطبري تسجل ذلك، إلى درجة الظن بأن الشعراء لم يعد يشغلهم غير مديح الخلفاء والولاة والقادة والعمال، خصوصا في عصر معاوية مؤسس الدولة الأموية الذي كان أكثر أمراء المسلمين طلبًا للمديح كما كان زياد بن أبيه والي العراق أكثر الولاة الذين يطلبون المديح. ومن أشهر شعراء المديح: نصيب، والقطامي، وكعب بن معدان الأشقري.

وبعد المديح يجيء الهجاء، حيث احتدم في هذا العصر احتدامًا شديدًا، بتأثير العصبيات القبلية، وما تم من أحداث كبرى فرقت شمل المسلمين إلى شيع وأحزاب.

واستفحل أمر الهجاء في عهد معاوية بسبب صراعه على الحكم مع آل البيت. وكان هناك من الشعراء من يتصدى للدفاع عن بني أمية، وآخرون يتصدون للدفاع عن آل البيت، وكان من أشهر شعراء الهجاء ابن مفرغ الذي كان في الأصل عبدا مسترقا وعتق، وابن عبدول الذي كان هواه مع بني أمية يتكلم بلسانهم ويضرب بسيفهم، وثابت بن قطنة أحد الموالي الذي أصيب بسهم في عينه فكان دائما يضع عليها قطنة فلقب بابن قطنة.

وشعراء النقائض الذين تحولوا عن الهجاء إلى نقائض مثيرة. فشاعر القبيلة مثلا ينظم قصيدة في الفخر بقبيلته، فينبري له شاعر آخر من قبيلة أخرى يرد عليه بقصيدة بالوزن نفسه تنقض ما يقوله الأول، والجميع من حول الشاعرين يصفقون ويهتفون. ومن أبرز شعراء هذا اللون ثلاثة من أعلام هذا العصر هم: الأخطل والفرزدق وجرير.

وقد اتسم العصر الأموي بلون جديد من الشعر هو الشعر السياسي، نتيجة لهذا المناخ الذي ساد الحياة ككل وفي مقدمة هذا اللون من الشعر الزبيريون ويمثلهم ابن قيس الرقيات، والخوارج ويمثلهم عمران بن حطان، والثوار ويمثلهم أعشى همدان. ويقابل هذا الاتجاه السياسي في الشعر اتجاه مغاير هو الغزل العذري أو الصريح، شعر المجون واللهو. وقد انتشرت هذه الفنون الشعرية نتيجة لازدهار المدينة ومكة، حيث غرقتا في الرفاهية والنعيم بسبب أموال الفتوحات التي صبت في خزائنهما.

وقد ظهر الغزل الصريح والعذري بشكل لافت ولم يعد الغزل تشبيبا بالديار وبكاء على الأطلال، كما كان يحدث في الجاهلية، بل أصبح تصويرا لخلجات الحب وأحاسيسه. وظفرت المرأة من هذا اللون بنصيب كبير،. خاصة أنها تمتعت بمزيد من الحرية، فكانت تلقى الرجال في حجاب من الوقار، كان لا يضيق أحيانًا بما يوجه إليها من الغزل. ولعل هذه الحرية التي تمتعت بها المرأة وقتئذ جعلت السيدة سكينة بنت الإمام الحسين رضي الله عنهما تقيم أول ندوة أدبية في تاريخ الثقافة العربية انضم إليها كبار الشعراء من أمثال عمر بن أبي ربيعة وجرير والفرزدق وغيرهم، ولعل ذلك جعل جميلة الجميلات عائشة بنت طلحة لا تضيق بالغزل الموجّه إليها.

الشعر وتفاعله

وثمة أجراس تدق، ماذا تقول دقاتها؟ إنها تعلن نهاية عصر بني أمية الذي تحولت فيه الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض، وبداية عصر بني العباس. ترى هل يحقق الشعراء نهضة كما حقق العلماء والفلاسفة؟

بدهي إذن أن تصطبغ الحياة السياسية في هذا العصر بما كان يجري من نظم وظروف، وأحداث وتحوّلات، والحياة العقلية بما التحم بها من ثقافات أجنبية غربية كانت أو شرقية، والحياة الاجتماعية بما يشيع فيها من تحضر وترف، زندقة في الفكر، وزهد في الدنيا، إغراق في المجون وإغراب في التصوّف، والحياة العلمية وما يحدث فيها من تقدم وتطور نتيجة «لنقل علوم الشعوب المستعربة، وبداية وضع العلوم اللغوية والدينية والكلامية.

لاشك أن كل هذا فرض نفسه فرضًا عادلاً على الشعراء. فازدهرت أشعارهم ازدهارًا رائعًا. حيث انكبوا على بلاغة لغتهم يتقنونها ويتمثلون ملكتها تمثلاً واعيا، نافذين بأذواقهم المتحضّرة إلى أسلوب مصفى يجمع بين الجزالة والرصانة مع الرقة والعذوبة.

إن اطلاع الشعراء على ما وقع في أيديهم من ثقافات أجنبية مترجمة، واستماعهم إلى مناقشات ساخنة بين المعتزلة، ومواكبتهم لهذه التحوّلات الكبرى قد أثر في نفوسهم تأثيرًا عظيمًا، فأثار في نفوسهم وعقولهم الكثير من الخواطر التي لا تكاد تحصى أو تعد ودفعهم كل ذلك إلى النهوض والتطوّر بموضوعات الشعر الموروثة من عصوره السابقة، تطوّرًا ونهضة تواكب روح هذا العصر بما فيه من خصب الفكر ورهافة الحسّ.

فأضافوا إلى هذه الموضوعات جديدًا هو صدى لحياتهم اليومية، ففتحوا بابا لم يخطر على بال أسلافهم وهو باب شعر التعليم والحكمة، صاغوا فيه من المعارف والأمثال والقصص على لسان الحيوان منظومات طريفة، واكتشفوا للشعر أوزانًا جديدة لم تكن معروفة من قبل، وأنماطًا من القوافي كانت مجهولة تمامًا.

في هذا العصر يمكن تبيين صور لأعلام شعرائه في مقدمتهم بشار بن برد ذلك الكفيف الداهية الذي سنّ للشعراء أسلوبًا قوامه المزاوجة بين عناصر الشعر التقليدية وعناصره التجديدية، بحيث يتدافع فيه تيار القديم الموروث دون تعويق لتيار الجديد المستحدث بمقوماته الحضارية والاجتماعية والعقلية والعلمية. وأبو نواس ذلك الشاعر، الماجن أحيانًا، الحكيم أحيانًا الذي استحدث طرائق للشعر وأساليب، وكان أكثر تأثرًا بهذه السيول الحضارية والاجتماعية والعقلية الوافدة، ولذلك تعمّق مذاهب المتكلمين، وكما تأمل مظاهر الحياة اليومية ليخرج بأسلوب مميز يُعرف به. وأبو العتاهية ذلك الشاعر الحكيم الذي عكف على دراسة الحكمة الفارسية والهندية واليونانية عكوفًا أفضى به إلى تنويع شعري واسع المدى عميق الأثر في أغراض الزهد والمواعظ والحكم والأمثال. ومسلم بن الوليد الذي جذب الشعراء إلى أبنية الشعر المحكمة الشامخة، مع التدقيق في المعاني، والإكثار من ألوان البديع. وأبو تمام الشاعر الفيلسوف بعيد النظر، الذي امتزج الشعر عنده بالفلسفة امتزاجًا باهرا، حتى أصبحت قصائده معارضة هائلة لطرائف البديع وطرائف المعاني والأخيلة.

عصور التفكك

نحن الآن في عصر تفكك الأمة العربية وانقسامها، فما الذي جرى؟ لقد جرى الكثير، ففي هذه الأمة وبالتحديد في الأندلس قامت حضارة عمالقة عرب كابن رشد وإبن طفيل وابن خلدون وابن عربي وغيرهم ممن استنبطوا الحكمة من أعماقها، وأهدوا أوربا نهضتها الحديثة، ترى ماذا سيحدث للشعر والشعراء في هذا العصر؟

يختلف هذا العصر الممتد من عام 443 هجرية إلى العصر الحديث عمّا سبقه من عصور في أمر مهم هو انقسام الدولة العربية الإسلامية، إلى عدة دول وإمارات، أمر جعل بعض مؤرخي الأدب ونقاده يعتقدون بأن هذا الانقسام قد ترك أثرًا في الأدب عامة والشعر خاصة. إلا أن الحقيقة أنه لم تحدث انقسامات فيهما، بسبب الشعور العام في هذه الدول والإمارات الذي يؤكد أن هذه الدول والإمارات في مجموعها تمثل وطنا عربيا واحدا ليس فيه انقسامات روحية أو فكرية، وأن هذه الانقسامات التي كانت في الأقاليم والبلدان هي مجرد فواصل وهمية في المخططات السياسية والجغرافية، وهي بالتالي لا تدل على فوارق عملية أو فكرية أو أدبية. فديوان الشعر حين يوضع في أي من هذه الدول أو الإمارات يصبح ملكًا للجميع في الوطن العربي، يقرأه ويتذوّقه قاصيهم مع دانيهم. وخير مثال ديوان شاعر هذا العصر المتنبي الذي لم يكد يظهر في واحدة من هذه الدول حتى تجرّد له النقّاد والشعراء وعلماء اللغة في بقية الدولة والإمارات.

وقد برز في هذا العصر المتنبي شاعر العصور جميعها الذي أقام لدولة الشعر وجودًا بما استمدت من تعبيرات وأساليب معجزة. كذلك ظهر صفي الدين الحلي والشريف الرضي الذي عني مع مهيار الديلمي بشعر التشيّع. كما عني هذا العصر بشعر السياسة والحكمة والغزل والزهد.

رثاء الأندلس

وفي الأندلس يتحوّل المجتمع بعد أن استوطنها العرب عام 711 ميلادية وظلوا فيها ثمانية قرون، من مجتمع بدائي همجي إلى مجتمع متحضّر يؤثر في الحضارة الأوربية والإنسانية ككل. وقد كان لهذا أثره على نشأة الشعر العربي، حيث تعددت أغراضه خاصة بعد تعريب الأندلس، وكثرة الشعراء، وظل الشعر حيّا في الأندلس حتى بعد سقوطها عام 1492م. لقد كان الشعراء في مواكبتهم للوجود العربي بالأندلس ينطلقون من ماضيهم العربي مستحدثين أغراضًا جديدة للشعر. فكان الغزل - على سبيل المثال - وهو من موضوعات الشعر العربي من أول هذه الأغراض التي برع فيها شعراء الأندلس وأجادوا وتفوّقوا على سائر البلدان الناطقة بالعربية، بل وأثروا بعد ذلك في أوربا من خلال منفذين هما إيطاليا وفرنسا. وقد برز من شعراء الغزل الرمادي الكندي، والشريف الزقاق. كذلك تفوّقت الأندلس في شعر الطبيعة لما كانت تمليه هذه الطبيعة على الشعراء من جمال، حيث كانت تبدو الأندلس في عرس دائم. وهكذا تغنى الشعراء بجمال هذا الفردوس الأرضي، وخير مثال عليهم هو ابن خفاجة وابن ماء السماء. كذلك تحول الرثاء عند شعراء الأندلس من رثاء الأفراد إلى رثاء الدول والممالك حين تغرب شمسها وتدور عليها الدوائر، مثل رثاء ابن اللبانة لدولة المعتمد بن عباد يوم استولى على دولته يوسف بن تاشفين ونفاه في المغرب، كذلك رثاء ابن عبدون لدولة المتوكل أحد أمراء الأندلس يوم فتك به المرابطون عند أبواب مدينته بطليوس. كذلك ظهر لدى الشعراء لون جديد أملته عليهم حياتهم وهو الموشحات الأندلسية الشهيرة التي برز فيها ابن عبادة القزاز كما استحدثوا لونًا جديدًا من الأزجال برع فيه ابن قزمان. ولا تكتمل صورة شاعر الأندلس دون ذكر شعر التصوّف الذي برع فيه محيي الدين ابن عربي وشعر الحكمة الذي برع فيه حازم القرطاجني هذا إلى جانب الأغراض التقليدية التي أثرت في أوربا وهو ما سجله الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه «دور العرب في تكوين الفكر الأوربي».

عصر جديد من الشعر

لابد أن تتباين ملامح صورة الشاعر العربي في هذا العصر عن ملامح صورته فيما سبق من عصور، تبعًا لما تم في هذا العصر من أحداث وتحوّلات. مثلا لابد أن يتأثر الشعر العربي بما حدث عقب الحملة الفرنسية إلى مصر وغيرها من البلدان العربية. أو تولي محمد علي حكم مصر بعد أن تنكّر لزعمائها، ثم لبنائه مصر الحديثة، أو للجمود الذي شمل الحياة بمصر في عهد كل من عباس الأول وسعيد، أو للنهضة الثقافية التي أحدثها إسماعيل والأزمة الاقتصادية بعد فتح قناة السويس وما جرت على مصر من الديون، أو لفساد الأحوال بمصر في عهد توفيق مما أدى إلى قيام الثورة العرابية وإخفاقها وبداية الاحتلال البريطاني لمصر، ثم لتقسيم احتلال العالم العربي بين انجلترا وفرنسا. كذلك لابد أن يكون هناك تأثير على الشعر والشعراء بعد ظهور المطبعة والصحف، لابد أن يكون هناك تحول في الشعر يواكب كل هذه التحوّلات وكانت بداية هذا التحول في النظر إلى الصورة المسفة التي كان يجري عليها الشعر العربي أثناء العصر العثماني هذه الصورة تتطلب بعث الشعر العربي من جديد. وهو بالضبط ما أحدثته حركة البعث والإحياء التي قادها البارودي الذي يعتبر بحق رائد الشعر العربي الحديث. لابد من إنقاذ هذا الشعر من عثرة الأساليب الركيكة الموروثة من عصوره المظلمة، ولن يحدث هذا إلا بعودة الروح التي اتسم بها الشعر العربي مرة ثانية.

ويواصل أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر القطرين خليل مطران ما بدأه البارودي من إحياء وبعث لهذا الشعر، بعد مراجعة للشعر العربي كله تصحبها معرفة بالثقافات الأجنبية. وتكون النتيجة نهوضا ملحوظا بالشعر العربي، وتعددا لأغراضه مع المحافظة على شكل القصيدة ومضمونها.

وتظهر مدرسة الديوان في عشرينيات القرن الماضي وأقطابها العقاد وعبدالرحمن شكري والمازني لتعيد النظر إلى ما قامت به حركة الإحياء والبعث على يد البارودي وشوقي وحافظ ومطران، وهنا يرى أقطاب مدرسة الديوان أن شعراء حركة الإحياء والبعث لا يبسطون الشعر على الحياة النفسية أو حياة الكون من حولهم، بل هم يبسطونه على الحياة العامة، وقلما وقفوا عند الحياة الإنسانية في عواطفها ودوافعها وظواهرها وبواطنها، ثم هم يبالغون في التقيد بنظام الشعر العربي القديم شكلا ومعنى، صياغة وأوزانا، ومن هنا يصبح التجديد في الشعر العربي ضرورة، فجدّدوا في قوافيه، واستخدموا الشعر المزدوج، الذي تتغير فيه القافية في كل بيتين، وحاولوا أن يستخدموا ضربًا جديدًا من ضروب الشعر يعرف عند الأوربيين بالشعر المرسل، فيه يتقيّد الشاعر بالوزن ولكنه لا يتقيد بالقافية. وكما يقولون أن لكل بيت قافيته أو نهايته.

كذلك يستحدث في العصر الحديث المسرح الشعري الذي يبدأه اليازجي ويتولى لواءه أحمد شوقي، ليخلفه عزيز أباظة، ثم عبدالرحمن الشرقاوي، ثم صلاح عبدالصبور ثم أنس داود ونفر من جيله يتقدمهم مهران السيد وأحمد سويلم.

ولا نصل إلى العقد الرابع من القرن الماضي حتى تتألف جماعة أبولو، ويكون زعيمها أحمد زكي أبو شادي، وفكرة هذه المدرسة السمو بالشعر، وغايتها العناية بالشعراء، وتسميتها مستعارة من الميثولوجيا الإغريقية التي تزعم أن أبولو هو رب الشعر والموسيقى. ويظهر في هذه الفترة على محمود طه، وإبراهيم ناجي.

ولا يجيء منتصف هذا القرن حتى يظهر الشعر الحر الذي يتحرر تمامًا من القافية والوزن على يد الشرقاوي وعبدالصبور وباكثير.

أين بقية الرفاق؟ أين جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وجميل الزهاوي ومهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وأبو القاسم الشابي وعمر أبو ريشة وعبدالحميد الديب وأحمد محرم ومحمود غنيم ونزار قباني وعبدالمعطي حجازي وإبراهيم أبو سنة؟ أين شعراء الأرض المحتلة ويتقدمهم محمود درويش وسميح القاسم؟ أين الأجيال الشابة من الشعراء؟ لقد قلت إن هذه الصفحات تقدم قليلاً من كثير. إنها مجرد إشارة إلى صورة سريعة للشاعر العربي.

 

 

سامح كريم