قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
----------------------------------

بعد قراءة نحو خمس وعشرين قصة قصيرة متباينة في موضوعاتها ومستوياتها، وفي غياب ميزان الذهب، فإن فرز القصص الجيدة وترتيبها لابد أن يمر من «غربال» الذائقة، للكشف عن مدى الخصوصية في الموهبة والتجربة والممارسة، في كل نص، مع أهمية تسجيل الملاحظات العامة والجزئية التالية:

- بروز أسماء جديدة تحمل وعوداً طيبة في مضمار القصة العربية الجديدة، خاصة من المغرب العربي الذي تفصله حواجز ثقافية قديمة، تحد من التواصل مع المشرق العربي. - تحمل بعض القصص نواة قصة جديدة، لكنها مكتوبة بلغة ضعيفة، مما يشير إلى هبوط مستوى تعليم اللغة العربية، ومن علاماته الارتباك في استخدام حروف الجر وعلامات الترقيم والأخطاء النحوية، وعلى سبيل المثال هناك قصتان جميلتان في موضوعهما، ضعيفتان في لغتهما، وهما «الجدار» و«وجه معفر بالندم».

- عدم التمييز بين التفاصيل المهمة وتفاصيل الحشو التي تفسد المساحة الحرة لخيال القارئ، فالتجويد يأتي بالحذف والتقطيع الفني، وليس بالإضافات، وفي هذا السياق اخترت القصص التالية:

في «طائر من الكريستال» يتلقى الراوي تمثالاً من الكريستال، من صديقه الفنان، على شكل طائر الفينيق، أو العنقاء، وبعد أن يستشهد الفنان يظل التمثال منتصباً في منزل الراوي رمزاً مثيراً للانبعاث والأمل، وحينما يتحطم التمثال فجأة، ويتناثر، يتهم الراوي زوجته بما حدث، ولكن زوجته تستغرب التهمة فالتمثال لا يزال منتصباً في مكانه، وتتهم زوجها بأنه مريض، فهل هو مريض بالوهم، أم أن طائر الفينيق انبعث من رماده؟!

في قصة «شقراء» فتاة سمراء تكافح الفقر، وتصبغ شعرها بلون ذهبي، وتبيع بضاعة دارجة في «كشك» صغير دون ترخيص، تداهمها دوريات الشرطة وتصادر البضاعة وتتعرض للإهانة والضرب والحجز، وفي المرة الأخيرة كانت في المخفر تنتظر ما يحدث معها كل مرة، لكن الضابط الجديد استقبلها باحترام ونصحها أن تحصل على الترخيص، وألا تصبغ شعرها بلون لا يناسبها، فكان موقفه استثناء نادراً في العلاقات المتخلفة بين الشرطة والمواطنين.

في قصة «كانت إلى جانبي» طقس روحي مغربي، تدير فيه الأم «مجلس الأمداح» يوم الخميس من كل أسبوع، تستعيد فيه «زمن الجذبة»، ولا تستقبل فيه سوى النساء، ولكنها تستثني ابنها ذا السبعة عشر عاماً، وهو ينتظر هذا الموعد ليرى حبيبته «شوق» ويلتقي بها في طقس حميم موازٍ لطقس المجلس الصاخب بأصوات الدفوف وحشرجات الأرواح الهائمة.

في قصة «لم يعد ساعي البريد يضحك» ذكريات عن الماضي والحاضر كان ساعي البريد يثير الفرح بإيصال الرسائل الحميمة، أما الآن فإن الهاتف الجوال والبريد الإلكتروني اختطفا الكثير من اللهفة التي ترافق موزع البريد، أما ساعي البريد الجديد فإنه لا يحمل إلا الفواتير وكشوف الحسابات والمنشورات التجارية.

------------------------------------

طائر من الكريستال
يسري الغول - فلسطين

التقينا واختفى... هكذا كان، وهكذا سيكون... زرته في بيته، تعرفت على كل ما يخصه، صوره، لوحاته السريالية العميقة، رحلاته الغريبة التي كان يمارسها كطقوس لمجنون أدرك حرباً لن تنتهي. حدثني عن عالمه الذي يرسمه، حياته القاتمة داخل جدران أربعة، عن الـ55 متراً التي تتغلغل في أعماق روحه، حتى كادت أن تقتله. وحين هممت بمغادرة المكان أهداني طائر العنقاء من الكريستال. كم كنت أحب تلك الأيقونة، أضعها أمام عينيّ كل مساء، أتأملها، أتأمل هويتي الضائعة، وأستاذ التاريخ يعيد فيّ حياة القدماء:

- العنقاء طائر مقدس، تحمل هويتنا الكنعانية، ذلك الرمز المشفر الذي لا يفقهه أحد غيرنا. أحببت العنقاء، بشكلها الغريب، أحببتها حين أهداني صديقي هذا الطائر الكريستالي العظيم. وما زاد حبي لهذه الهدية أن صاحبها قد استشهد على قارعة الحرب، وتناثرت أشلاؤه في غارة حاقدة على مخيمنا. بعد تلك الحادثة قررت أن أحتفظ بتلك الهدية حتى الموت، وفعلت حتى ذلك الصباح الحزين. ظل ذلك الطائر متربعاً في صالتنا التي لا تنضب من استقبال الضيوف، وحاصر الجميع بدهشته، حتى جاء يوم العودة إلى عملي بعد إجازة طويلة قضيتها في أحضان زوجتي وأولادي. كنت متأخراً كعادتي، دلفت إلى الصالة، ألقيت تحية الصباح على زوجتي فلم ترد، فقد كانت منشغلة عني بمسح وترتيب أثاث المنزل. وحين وصلت باب الحديقة سمعت صوت ارتطام عظيم، هرعت حينها إلى الداخل، فوجدت طائر العنقاء متناثراً في كل مكان، لحظتها نظرت إلى زوجتي وفي عيني كل شرور الكون. تمنيت أن لو ماتت ألف مرة على أن يسقط ذلك الطائر أرضاً. كدت أنفجر في وجهها كبركان لكنني عدلت عن ذلك حين نبهني صوت سائقي من الخارج. طوال الطريق كان يشغلني أمر العنقاء، كيف أصلحها؟ وهل من حل لهذا الجلل؟ ربما ولأول مرة منذ استشهاد صديقي تراودني فكرة الذهاب إلى بيته، أن أقبّل صورته، وأرجوه بأن يسامحني. أعتذر له عن خيانتي، فلقد فشلت في الحفاظ على كل ما يمت له بصلة في بيتي. ما أثار حفيظتي وحنقي في الوقت ذاته، إن سائقي توقف بعربته أمام نصب تذكاري لطائر العنقاء في مركز المدينة وهو يبتسم، كأنه يريد تذكيري بشيء، بأستاذ التاريخ الذي كان لسانه رطباً بذكر العنقاء، ورغم الاتزان الذي أبديته في مكتبي، وأمام زملائي فإنني بدوت أمامهم كغريب لا يعرف شيئاً عن المكان، كأنني ضيف. لربما راود البعض سألني أحدهم:

- ما بك يا عثمان؟ أراك حزيناً هذا النهار. لم أنبس ببنت شفة، اكتفيت بالابتسام في وجهه ثم مضيت. مضيت أمامي طريق واحدة. مقبرة المخيم، نعم، ذهبت إلى هناك، بحثت عن ضريحه بين القبور، ووجدته بعد عسر، كان قد أوشك أن يختفي بين قبور كثيرة زرعت لشباب وأطفال قضوا في غارات متعددة الأشكال والألوان. وعند قبره جلست، قرأت الفاتحة وتمائم البدء، رتلت آيات من القرآن الكريم، ودموعي تتناثر كشظايا طائر الكريستال الذي تهاوى هذا الصباح، تحدثت مع رفيقي، أخبرته بلوحاته التي أضحت معلماً للثوار، عن كلماته القليلة التي غزت الجرائد، عن كل شيء أحببناه معاً، ثم... وقبل أن أعود أدراجي، رجوته أن يغفر لي عدم مقدرتي على الاحتفاظ بتلك الأيقونة التي فنيت منذ احتلال الأرض الكنعانية. ثم غادرت حاسر الفكر، جلست في أحد المقاهي،. لم أفكر حينها بالعودة إلى المنزل، بحثت عن رفيق أو صديق، عن مكان يبعدني عن منزلي، لكنني ولسوء حظي لم أجد. وصلت منزلي في المساء، دلفت إلى صالة الضيوف، والحزن يملأ كياني، لم أفكر بأن أنظر تجاه الطاولة التي يرابط فوقها طائر العنقاء، فلقد شعرت بأنه من الخيانة أن أفعل، لكنني فعلت، هكذا، لاشعورياً فأبصرت الطائر ينتصب أمامي بكامل هيبته وبهائه. دهشت، لم يصب بأي أذى. كأنني أحلم، أو أهذي، صرخت مناديا زوجتي،، جاءت تتعثر وهي تسألني:

- ما بك؟! هتفت مسرعاً:

- ألم تكسري طائر الكريستال هذا الصباح؟! أجيبي؟!!! ابتسمت بخبث، ثم سألت:

- أنا؟!!!!!!

- نعم، ألم تنظفي المنزل هذا الصباح؟

- أنا؟!!!!!! ملأت قهقهاتها المكان، وهي تنسحب كعدو منتصر، كأن شيئاً لم يكن، بينما صوتها يهتف بصخب: يبدو أنك بحاجة لزيارة الطبيب. فقد صِرت تهذي بشكل لا يطاق.

شقراء
حنان عبد الغفار ـ مصر

لم تتوقف يوما عن منح شعرها اللون الذهبي بصبغة زهيدة الثمن تشتريها من صديقتها التي تعمل في محل كوافير.. ولم تكف كذلك عن الاقتناع بأن هذا اللون يلائمها رغم أنه كان واضحاً تماماً أن بشرتها الداكنة لا تتناسب مع هذا اللون الأشقر، ولكنها كانت أمنيتها الداخلية منذ طفولتها.. كم تمنت لو ولدت شقراء..بشرة بيضاء.. شعر ذهبي.. عيون زرقاء.. تمنت كذلك لو تلونت حياتها بذات الألوان، أبيض ... منزل واسع ومريح، تدهن جدرانه كلها باللون الأبيض فيصبح أكثر اتساعا، بدلا من الحجرة الضيقة التى تسكنها مع أسرتها المكونة من ستة أفراد.. ذهبى.. الكثير من المجوهرات التى تتزين بها و تزداد تألقا.. أخضر.. حديقة عذبة الرائحة تحيط بمنزلها الجميل.. أزرق.. حوض سباحة في بيتها يذهب عنها حرارة الجو عندما تجلس أمامه.. ولكنها لم تكن تمتلك أيا مما تمنت ولا حتى الملامح، وكان كل ما تستطيع فعله هو تلك الصبغة كمحاولة يائسة..

واليوم.. هو يوم آخر من حياتها التى سئمت منها، تتجه فى غضب نحو الكشك الذى تمتلكه وتبيع فيه بعض الأشياء البسيطة من حلويات وسجائر.. وقد اعتادت هجمات شرطة المرافق التي تستولي على بضاعتها لأنها لا تمتلك ترخيصاً، وأحياناً تفقد مكاسب أسبوع كامل في مثل تلك الهجمات..كما اعتادت أن تراقب من يشترون منها بقدر لا بأس به من الحسد لأنهم ربما يتمتعون بحياة كانت تتمناها لنفسها.. وفى ذلك النهار جاءت إحدى تلك الهجمات..الشرطة تهجم عليها..تجمع أشياءها.. تجرها جرا نحو القسم.. لأنها لم تتمكن من الهرب بسرعة وإخفاء بضاعتها.. تنتظر جالسة على الأرض خارج غرفة ضابط الشرطة كما تعودت.. وكل ضباط الشرطة الذين قابلتهم في حياتها سواء..طالما عاملوها كحشرة وليس كإنسانة.. ضرب وإهانة وحجز ثم إفراج دون أن تحصل على بضاعتها..كم تمنت أن ترى أحدهم في موضع إهانة مثلها.. هي مستعدة لدفع نصف عمرها مقابل أن تراهم جميعا، تمتهن كرامتهم مثلما يفعلون بها..

جلست فى انتظار تلك المقابلة التى تمقتها وتخشاها.. إلى أن جاء العسكرى وجرها جرا إلى الداخل لمقابلة الضابط.. كان وجها جديدا لم تره من قبل.. ضابط جديد.. وسيم.. كم تمقت وسامته، تشعر أن وراءها وحشا كريها.. انتظرت أن يناديها بأقذع الألفاظ وأن يسب والديها كما اعتادت..لكنه لم يفعل..

- تقدمي يا إحسان..

هى أول مرة يناديها أحد الضباط باسمها..لم تصدق أذنيها..!

- لماذا تديرين الكشك من دون ترخيص..؟

بقيت ساهمة فى مكانها ولم تنبس ببنت شفه.. كانت مفاجأة غير قابلة للتصديق أن يكلمها أحد الضباط بهذه الطريقة.. وظنت أنه أسلوب جديد..يبدأ كلامه بهدوء ثم يباغتها بالضرب والإهانة المعتادين.. حاولت أن ترد فخرجت كلماتها متقطعة : - ل..لا.. أملك نقود الترخيص يا سعادة البك..! لدهشتها أطرق الضابط ثم قال: - حسنا..انصرفي يا إحسان.. بدهشة قالت: - م..ماذا..؟ - انصرفي.. مع السلامة.. بسرعة استجابت لما قال وهى متأكدة أن ما يحدث هو حلم وستفيق منه بعد قليل على صفعات الضابط الوسيم.. وهمت بفتح الباب وقبل أن تغادر قال الضابط فى بساطة: - لماذا صبغت شعرك باللون الذهبي..؟ اتسعت حدقتاها وازدردت لعابها وهى تقول : - ماذا..؟ - أقول إن اللون الذهبي لا يلائمك..الطبيعي أفضل.. وابتسم ثم أردف: - مع السلامة يا إحسان.. حاولي استخراج الترخيص في أسرع وقت.. «علشان ما تتبهدليش» وغادرت.. خرجت من أبواب القسم غير مصدقة لما حدث.. ولدهشتها وجدت قلبها خاليا من الإحساس الذي طالما لازمها.. إحساس الغضب والكراهية لكل من حولها.. وقررت ألا تصبغ شعرها بعد الآن..

كانت إلى جانبي
عماد الورداني- المغرب

كانت دارنا عامرة، تعج بالأصوات. أمي تترأس مجلس الأمداح حيث تحتشد نساء الحي لأداء طقس أسبوعي يبدأ بالوعظ والإرشاد وينتهي بالإغماءات وتمزيق الملابس وخربشات على الوجوه. كان طقسا روحيا لا يحبه أبي، لكن قوة أمي فرضت توجهها على دارنا في كل شيء، حتى عادات أبي. ولعل أمورا كنت أجهلها جعلت دارنا عامرة. فجميع المطبات التي تقع فيها نساء الحي ورجالاته تحل بدارنا. كنت في السابعة عشرة من عمري بالكاد أجاهد من أجل شهادة نهاية السنة، حتى أرحل. ولأني آخر العنقود فقد سمحت لي أمي أن أراقب طقسها الأسبوعي. نساء عريضات مثل الفيَلة يحملن دفوفا، يضعنها فوق المجامير لتصبح أوتارها أشد صلابة مثل قلب أمي. يتجمهرن في فناء الدار العتيق، يفترشن الزرابي، يتكئن على سرر مرفوعة مصنوعة لهذا الغرض. يدشن الطقس بخطبة تستعيد الأم فيها زمنها الأول، حينما كانت أمنا الكبيرة تعشق الله حبا وليس خوفا. وتشجع على الخشوع والانتقال بالروح إلى زمنها الحقيقي زمن الجذبة. لحظة يسرع الجميع إلى التهليل والاصفرار والحشرجات ثم العويل، بعدها بقليل تنساب دقات الدفوف لتحمس مجلس الأرواح الثائرة... كان الخميس مقدسا..يحرم على أبي والذكور من إخوتي ولوج الدار حتى ساعات متأخرة، حينما تصبح أمي ورفيقاتها مثل نسمة ريح عارضة، فقط رائحة البخور وأنين متقطع يتصاعد ويخبو. يومها لا تتكلم. أسترق السمع والنظر، فلا أرى، بينما تصل أذني زفرات مبحوحة وغمغمات مفجعة. لا أحد يستطيع خرق مجاهلها..أنا لا أنام تلك الليلة..تنتابني أسئلة كثيرة، لماذا تقوم أمي بهذا الطقس؟ لماذا يظل صوتها مبحوحا ليلة كاملة؟ لماذا يعذبها الله؟ كل سؤال تتناسل منه متاهة أسئلة، أتوه في دروبها المعتمة، أنادي، أسترشد بخطايا، فلا صوتي ولا صوت الآخرين، وحدها تلك الغمغمات تسكنني، فأبدو مثل سؤال أضاع علامة هدايته. سألت أبي فقال: لا تعبأ يا بني، فالطريق صعبة، أمك صالحة، وهذه وسوسة الشيطان، سألت فقيه المسجد فقال: بدع، وكل بدعة في النار، سألت أستاذي فاكتفى بالتشدق والسخرية، فلم أفهم. لكن أمي لا تبيع جسدها أو تشتري أعراض الناس بآيات قليلة..كل اللاءات لم تقنعك بما يقع. فأزحت همومي. وتحمست لمجلس أمي وباركته، خصوصا أن شوقا بنت جارتنا تواظب على الحضور، وحينما تختنق تتسلل من المجلس خفية وتجالسني فوق. نضع رأسا لرأس ونشاهد ما نشاهد. وينقبض قلبها ثم يرتجف، فأحميها من الخوف الذي يعمني. أمسح دمعتها التي لا أقدر عليها، فأمي تقول دائما «إن الرجال لا يبكون» كان بكائي داخليا، وشوق تخرجه بصمت ودون مواربة.. تجترح أنفاسي فأكاد أتقيأ لكن شوقا تؤجل كل شيء. أحببت يوم الخميس لأن شوقا تكون إلى جانبي، بعد بكاء خفيف تصعد إلى «مصريتي»، تلك الحجرة المباركة كما تقول دائما أمي، لأن أمنا الكبيرة اختارت أن تنام نومتها الأخيرة هناك. لهذا لا ندخل «المصرية» إلا بروح طاهرة. وشوق طاهرة، لكن شطحاتي الكثيرة، كانت تدفعني إلى مرافقة شوق إلى مكان القداسة لأمسح دموعها، وأخفف بعضا من هواجسها، فنصنع قداستنا، ونموت إلى حين..لم أكن لأعي ما تفعله الجذبات بنا، فالجسد تحرر، وتخلص من أدرانه..لكن أمي القوية استوعبت ما يخامرني، فأنهت أسئلتي قبل أن تولد، وبعثتني إلى شيخ طريقتها كي يباركني ويغسل الأشواق من قلبي، فكان ما كان.. وظلت شوق إلى جانبي ردحا من الزمن، وكأن طقوس المباركة مجرد بدايات لشوق أكبر، تعرفت في هذا الزمن على نفسي، وعلى مصائر مجهولة كانت تجتذبني إليها، واهتديت إلى سؤال النهاية، فكانت جذبة شوق وأسئلتها أشد صلابة من قلب أمي.

لم يعد ساعي البريد يضحك
فاطمة الزهراء - المغرب

أُصمت، أطفئ ذاك الجهاز اللعين! صرخت بأعلى صوتي.. كان صباحا طويلا روتينيا ومتعبا.. كالعادة أعمال البيت وغسل الملابس والطبخ.. والضجيج الصادر عن غرفة وحيد الذي يحاول أن يصبح موسيقيا.. ثم هذا الطرق على الباب. توقفت أمامه لحظة أسترجع هدوئي قبل أن أفتحه. كان ساعي البريد يمد لي رسالة مسجلة.. بدا شابا في أواسط العشرين.. أخرج دفتر التوقيع من محفظته بعد أن تأكد من هويتي. لم يكن يضحك كالحاج سعيد الذي كان يسلم لي الرسائل خفية من والدي وشقيقي.. كان الحاج صديقا لكل شباب الحي وكاتم أسرارهم.. يتنقل بحيوية من بيت لآخر.. يقبل بابتسامة ممتنة كأس اللبن البارد من جارتنا ثم يقرأ لها رسالة ابنها المهاجر. كان ينقل الأخبار الحزينة والمفرحة، ولكنه كان يأتي خاصة برسائل الحب. - كبرت أيتها الشيطانة وأصبح لك حبيب، هه؟ علت الحمرة وجهي بينما خبأت الرسالة بين ثيابي.. - غدا أعطيك الجواب؟ - ..وألف قبلة وإلا فسأفشي سرك. . ثم غادر ضاحكا بينما ازدادت حمرة وجهي. هذا يوم مميز، فكرت وأنا أوقع في الدفتر. عليّ أن أكمل التنظيف وباقي أعمال البيت بسرعة، ثم أغتسل وأذهب إلى الصالون لأصفف شعري. يجب أن أكون في كامل أناقتي وأنوثتي حين يعود أحمد من سفره. سأطلب منه أن نعيد لزواجنا لمعان البداية.. علينا أن نحاول فقط.. مازال تحت الرماد نار تنتظر أن تشتعل من جديد.. لي الآن من سعة الخاطر ما يكفي لأحب أحمد الكاتب المعروف كما أحببت أحمد المراهق صديق أخي الأكبر.. أعلم أنه يحتفظ لي بمكانتي الخاصة رغم أنه يسافر وحيدا إلى لقاءاته ومحاضراته. لكنه يعود إلي لألهمه أو ليستشيرني بخصوص نص جديد.. وليرتاح من مظهر الكاتب المعروف. حالما أنهي كتابة تعليقي على هامش نصه، يتهرب من قبلتي وينغمس في الكتابة ثم بعد يومين أو ثلاثة يعاود مشاوير السفر. حان الوقت لنجدد حبنا، فكرت وابتسامة تعلو وجهي.. وحيد كبر الآن. يستطيع تدبر حاله في غيابنا. سأعاود الكتابة. أفكار كثيرة تشغلني.. أشعر بالإثارة. لي شوق للكتابة ولأحمد ولحضور الملتقيات والسفر.. - شكرا، قلت لساعي البريد ذي الوجه الصارم المتعب. أخذت رسالتي إلى الشرفة مبتعدة عن صخب وحيد. جلست على الكرسي الهزاز.. تعرفت على خط أحمد منذ الوهلة الأولى. - أحبكَ، أحبكَ.. كنت أصرخ عاليا، مهللة. وكان ينظر إلي بابتسامة واسعة.. ثم تأتيني كلمات حبه كتابة.. أحمد لا يجيد الكلام. لكنه يخط كلمات العشق بسحر استثنائي بعيدا عن سوداوية رواياته. تمهلت في فتح الرسالة، أستلذ بلحظة انتظار إضافية.. لابد أنها آخر رسالات الحب التي يسلمها ساعي البريد. ربما لم يتصور أنها رسالة حب. لم يعد أحد يبعث برسائل الحب عبر البريد، ولم تتبق للساعي صفة كاتم الأسرار أو كاشفها حسب مزاجه.. أصبح الإنترنت والهاتف النقال يقومان بالمهمة بسرعة مذهلة وبسرية فائقة.. انحصر دوره في نقل الرسائل المحملة بالفواتير وكشف الحساب البنكي وأحيانا المنشورات التجارية. فتحت الرسالة ببطء، و.. لم تكن كسابقاتها تبدأ بالعبارة الساحرة: مُلهمتي.. أعدت قراءة الرسالة مرتين. ثم توجهت إلى المطبخ لأعد لي فنجان شاي.. لم يعد هناك داع للاستعجال بأشغال البيت.. وضعت الرسالة على الطاولة.. كنت قد علمت لِمَ لمْ يعد ساعي البريد يضحك.
---------------------------
* كاتب من سورية

 

 

بندر عبد الحميد*