العالم الثالث و«التقهقر» نحو المستقبل.. د. أحمد أبوزيد

العالم الثالث و«التقهقر» نحو المستقبل.. د. أحمد أبوزيد

لعالم الديموجرافيا الفرنسى الكبير ألفرد سوفى Alfred Sauvy عبارة دالة تقول «العالم الثالث لا شيء, ولكنه يريد أن يكون شيئا».

وربما كان سوفى هو أول من استخدم مصطلح tiers monde الفرنسى للإشارة إلى العالم الثالث، على اعتبار أن مجتمعات ذلك العالم كانت خاضعة للاستعمارالغربى لعقود طويلة لم تكن تملك خلالها من أمرها شيئا، وإنما كانت موضعا للاستغلال البشرى والمادى إلى أن نالت استقلالها السياسى بعد الحرب العالمية الثانية فأرادت أن تنتقل بنفسها من حالة السلبية والخضوع والإذعان المفروضة عليها إلى مرحلة أكثر إيجابية تحقق لها ماتصبو إليه من تقدم ومشاركة في الحضارة الحديثة، وهو حلم كان سوفى يرى أنه لن يتحقق إلا عن طريق قيام شعوب تلك المجتمعات الـتى أصبحت دولا مستقلة بعمل ثُورى يقلب الموازين القديمة ويفتح آفاقا جديدة للحياة وإن لم يكن ذلك بالأمر السهل، خاصة أن تلك المجتمعات لم تكن خلال تلك الفترة الطويلة تنتمى إلى أى من العالمين الرأسمالى الصناعى والشيوعى الصناعى وتخلفت بذلك عن مجتمعات ودول هذين العالمين. ولقد أنشأ سوفى «المعهد الوطنى للدراسات السكانية» في باريس لدراسة المجتمعات النامية كما نشر كتابا مهما عن أوضاع ذلك العالم تحت عنوان Le Tiers Monde، وكان ذلك هو البداية لانتشار تعبير «العالم الثالث» في مختلف اللغات وفى كل أنحاء العالم.

وتؤلف مجتمعات العالم الثالث فئة قائمة بذاتها لها خصائص مشتركة بالرغم من تباعدها في المكان وتوزعها بين قارات العالم الثلاث: أفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا. فهى كلها تتصف بالفقر وانخفاض الأجور وارتفاع معدلات المواليد وكثرة السكان بشكل مأساوى والاعتماد على الدول الأكثر تقدما في كثير من جوانب الحياة واتساع نطاق النشاط الرعوى والزراعى وتضاؤل النشاط الصناعى وتدهور نوعية البيئة وقلة الحراك الاجتماعى وعدم استقرار الأبنية السياسية، والاعتماد في النشاط الاقتصادى على علاقات القرابة والصداقة بدلا من الخبرة والكفاءة. فالأوضاع في ذلك العالم تثير الأسى بوجه عام نظرا لتفشى الأمراض والأوبئة والجهل والمجاعات والاضطرابات السياسية والحروب الأهلية والنزاعات القبلية. والواقع أن الأغلبية العظمى من دول العالم الآن تندرج تحت مقولة «العالم الثالث» بمقياس الثروة والتقدم الذى تعيش فيه دول العالم الأول المتقدمة في الغرب. وربما كانت هناك دائما تفرقة بين من يملكون ومن لايملكون، ولكن الفوارق أصبحت الآن صارخة بعد الحرب العالمية الثانية وقيام الحرب الباردة ومحاولة استقطاب الدول الفقيرة عن طريق تقديم المنح والقروض والتسهيلات الاقتصادية، بحجة إقرار الاستقرار السياسى في تلك الدول، مما أوقعها تحت الهيمنة الغربية في كثير من الأحيان وتوطيد أقدام هذا النوع الجديد من الاستعمار.

ثقافات سلبية

ويرد بعض الكتاب هذا التخلف إلى نوع الثقافة السائدة في هذه المجتمعات وهى ثقافة تتميز بعدد من الجوانب السلبية المتمثلة في العجز عن المبادأة، بل و عدم الرغبة في المبادرة والمثابرة مع الركون إلى الاتكالية والاعتماد على الغير نظرا لعجزها عن مواجهة الواقع ومحاولة التغلب عليه، لدرجة أنها أصبحت تستمرئ هذا النمط من السلوك, وتؤمن بأن نمط الحياة في الغرب هو النموذج المثالى الكفيل بإنقاذها من أوضاعها المتدهورة، مما يعنى تنكر تلك الشعوب لتراثها الثقافى والاجتماعى وأنشطتها الاقتصادية التقليدية، (بالرغم من عدم كفاءتها) وسقوطها بالتالى تحت هيمنة الغرب الذى كانت تخلصت منه. وهذا لايعنى عدم وجود مؤثرات خارجية, ولكنها تعتبر في نظر أصحاب ذلك الرأى عاملا ثانويا إذا قورنت بالعوامل الثقافية الخاصة، وذلك فضلا عن مركزية الحكم والسلطة، كما أنه لاينفى تأثير تيارات العولمة وما جلبته من هيمنة القوى الكبرى، وما أدت إليه من انقسام عالم اليوم إلى دول المركز ودول الهامش، أو دول القلب المتقدمة ودول الأطراف المتخلفة التى اصطلح على تسميتها بالعالم الثالث. وتميل بعض المنظمات الدولية إلى إلقاء المسئولية عن التدهور والتخلف على أسلوب الحكم في تلك المجتمعات. فالحكم السيئ يعجز عن اختيار وتنفيذ سياسة رشيدة تنجح في الارتقاء بمستويات الحياة وتنظيم قدرات المجتمع على مواجهة الصعاب والتغلب عليها، واتباع النظم السياسية والقانونية السائدة في العالم المتقدم، والتى تكفل للأفراد حقوقهم وكرامتهم. وإذا كانت بعض دول العالم الثالث تأخذ بمبادئ الحكم الديمقراطى فإنها لاتفعل ذلك عن اقتناع, وإنما لأن ذلك يعتبر أحد الشروط التى تفرضها تلك المنظمات لاستمرار المعونة وحل مشكلة الديون المتراكمة على تلك الدول النامية. بل إنه حتى تحت هذه الشروط كثيرا مالا تراعى تلك الدول حقوق الإنسان أو سيادة القانون أو تعمل على القضاء على الفساد أو تطبق مبدأ تداول السلطة والمشاركة في الحكم وكلها من أسس الديمقراطية.

وتعتبر الهجرة التى قد تتخذ شكل النزوح الجماعى بطرق غير شرعية من الملامح المميزة للحياة في مجتمعات العالم الثالث النامية، وهى ظاهرة تكشف عن مدى التدهور في تلك المجتمعات من ناحية، كما تعتبر من الناحية الأخرى عنصر إفساد للمجتمعات المتقدمة التى يقصدها المهاجرون النازحون, حيث تتحول مناطق فسيحة في المدن الكبرى إلى عشوائيات تشبه ماهو موجود في العالم الثالث. وثمة خوف في أمريكا على سبيل المثال من هذا التحول الذى بدأ يفرض نفسه بوضوح في بعض المدن مثل لوس أنجلوس, حيث يعيش أكثرمن ثلاثة ملايين من المهاجرين من دول العالم الثالث. وثمة قلق حقيقي في بعض دول أوربا من أن تتحول بعض مدنها الكبرى إلى النمط الحضرى السائد في العالم اللاغربى، حيث يعيش أغلبية السكان في فقر يدعو للأسى, بينما يؤلف الأغنياء القلائل نسبيا الصفوة المتميزة والعاجزة عن التغيير أو غير الراغبة فيه أصلا لأنه يتعارض مع مصالحها الخاصة. والخوف الذى ينتاب الشعوب الغربية هو أن يأتى اليوم الذى يسيطر فيه المهاجرون المستوطنون الذين يتزايد عددهم باطراد على اقتصاديات الدولة، ويصبحون هم أصحاب الأعمال الكبرى ودافعى الضرائب الأساسيين، التى سوف تصرف منها المعاشات التى يعتمد عليها كبار السن من المواطنين وهو ما يمثل انقلابا في الموازين. والغريب هنا أن نجد من الكتاب من يعتقد أن أمريكا تسير في طريق التردى والتقهقر إلى الخلف بالفعل، وأن هذا التردى يظهر في كثير من جوانب الحياة ومختلف الخدمات وأن المستويات الذهنية للشعب الأمريكى بوجه عام قد تراجعت عما كانت عليه منذ عقدين فقط، تحت تأثير الوافدين إليها من دول العالم الثالث، على الرغم من أن هذه الهجرات تضم أحيانا أفضل العقول في أوطانها الأصلية، وإن تكن هناك أسباب أخرى لهذا التراجع لاداعٍ للدخول في تفاصيلها هنا. فالعالم الثالث يعتبر موطنا لتفريخ التخلف وتصديره إلى الدول المتقدمة، إنه وباء سريع الانتشار ويحتاج إلى كثير من المقاومة الشرسة حتى يمكن القضاء عليه تماما.

ولقد أدرك العالم الثالث مدى تخلفه عن الأوضاع السائدة في العالم المتقدم، وأن مسئولية تخلفه ترجع في معظمها إلى الاستعمار الذى استنزف ثرواته ووضع سياسات تتبنى مبدأ فرض القيود التى تحرمه من التقدم وأهمها نوع التعليم المسموح للأهالى الوطنيين بتحصيله، ولذا فالمشكلة التى يجب مواجهتها هى الخروج من حالة السلبية التى تسيطر عليه وإعادة بناء الثقة في نفوس شعوبه وفى قدراتها على بناء نفسها بعد أن نجح الاستعمار في هدم هذه الثقة. ولكن هذا يتطلب توافر مساحة واسعة من الإمكانات للاختيار من بينها ما يعتبر أكثر ملاءمة بالنسبة لنظرتها إلى المستقبل الذى تصبو إليه والذى يرتكز على التوفيق بقدر الإمكان بين الماضى بكل تاريخه وتقاليده وثقافته، وبين أنماط الفكر التى تسود العالم الآن والتى تستند إلى قواعد ثابتة من العلم الذى يتعارض مع كثير من الموروث الثقافى. ولكنه بدأ يدرك في الوقت ذاته أن المعونات التى تقدم إليه من الغرب عن طريق المنظمات والهيئات الدولية ليست في تقديره سوى جزء صغير جدا من الثروات التى قام الغرب المتقدم بنهبها خلال فترة الاستعمار وأنها ليست (معونات) بقدر ماهى نوع من سداد الديون، وأنه ليس ثمة ما يدعو إلى عدم المطالبة بها أو الشعور بالخزى من قبولها والإفادة منها. وبصرف النظر عما قد يكون في هذا المنطق من صواب أو خطأ. فالعالم الثالث يحتاج «لكى يصبح شيئا» إلى اتخاذ قرارات عملية وإجراء تغييرات جذرية خطيرة لتحسين الأوضاع العامة التى تحيط به حتى يمكنه اللحاق بما يحدث خارج حدوده الضيقة علميا وفكريا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا. إنه يحتاج إلى تلك الثورة الشاملة التى تحدث عنها ألفرد سوفى منذ أكثر من نصف قرن.

مضمون هذه الثورة حسب تصور معظم الكتاب في الخارج هو أن يتحول العالم الثالث إلى نمط الحياة السائد في الغرب المتقدم، وهو نمط يقوم أساسا على العلم والتكنولوجيا الحديثة المعقدة، وعلى التصنيع والاقتصاد الرأسمالى وحرية التجارة. وقد يكون ذلك هو منطق التطور الذى قد يتحقق في يوم من الأيام في تلك المجتمعات ولكنه يوم بعيد جدا في رأى الكثيرين من المفكرين والدارسين في العالمين الثالث والأول على السواء، بل إنه قد لايتحقق أبدا نظرا للطفرات والقفزات السريعة والواسعة والفجائية التى يحققها الغرب المتقدم في مختلف الجوانب طيلة الوقت، والتى سوف تعجز المجتمعات النامية عن اللحاق بها في الأغلب واستيعاب مقتضياتها. وقد يكون هذا الرأى متأثرا بالنظرة الاستعمارية والاستعلائية القديمة التى ترى أن تحول العالم الثالث إلى الاقتصاد الصناعى - على افتراض إمكان تحقيقه - من شأنه إلحاق الأذى بالبيئة العامة نظرا لاستهلاك مزيد من الطاقة، وهو أمر لم تعد حالة البيئة قادرة على أن تتحمل منه المزيد، ولذا فقد يكون من الخير - إنقاذا للبيئة من مزيد من التلوث - أن تقنع دول العالم الثالث بالرجوع إلى نمط اقتصادها التقليدى الأصيل، مع تطويره وفتح الأسواق العالمية أمامه بقدر الإمكان. فمستقبل العالم الثالث يجب إذاً أن يكون مرتبطا بتاريخه وقائما على إحياء ذلك التاريخ.

وقد أمكن التعبير عن هذه النظرة في صورة بلاغية جذابة لاتخلو من تناقض وهى«Back to the Future». فالتقهقر إلى الخلف أو الماضى هو إذن الطريق المأمون نحو مستقبل زاهر. بل وقد صدر عن تشارلس ويكس Charles Weeks قبل ذلك بسنوات طويلة تعبير لايقل عن ذلك بلاغة وطرافة وهو «One Acre and Independence» ويرى أنه يصلح تماما للعالم الثالث، لأنه يعنى إنتاج الطعام والاكتفاء الذاتى على المستويين العائلى والمحلى، وهو أقصى ما يمكن للفرد في المجتمعات النامية أن يحصل عليه دون أن يضطر إلى الاستعانة بالأيدى العاملة الأجيرة التى تكلفه الكثير، وقد تتحكم فيه فيصبح هو أسيرا لديها بالرغم من أنه هو مصدر رزقها، وتتكرر بذلك الصورة النمطية للعلاقة بين صاحب العمل والعمال في النظام الصناعى الرأسمالى الذى يعتمد على الأيدى العاملة الأجيرة - أى على جهد الآخرين - وبذلك يخضع لإرادتهم وتحكمهم.... وقد يكون في ذلك بعض المفارقة ولكنها المفارقة التى تكشف عن حقيقة الوضع القائم، الذى يختلف عما يبدو في الظاهر. فالمبدأ الذى تتضمنه عبارة ويكس تتفق تماما مع شعارات الغرب عن ضرورة ارتباط العالم النامى بتاريخه وماضيه، والاحتفاظ بأساليب حياته التقليدية التى تتفق تماما مع ماخلق الناس هناك لأجله بحكم قدراتهم العقلية وتجربتهم في الحياة وإمكاناتهم المحدودة على الابتكار، كما انه مبدأ كفيل بأن يقضى على ظاهرة البطالة والتشرد والتسول التى تعانى منها الآن بعض المجتمعات المتقدمة نتيجة للهجرات المتزايدة من العالم الثالث. فالمبدأ إذاً يحقق - في رأى أصحابه - تنمية المجتمع المتخلف في حدود القدرات والإمكانات الإنسانية المتاحة فعلا في تلك المجتمعات، مع العمل على رفع كفاءة أساليب التعايش مع البيئة المحيطة دون الاعتداء عليها كما يحدث في المجتمعات الصناعية المتقدمة، والتى تميل بعض دول العالم الثالث لمحاكاتها على اعتبار أن ذلك هو الأسلوب الأمثل للحياة الحديثة. يساعد على ذلك أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بمعناها وحدودها ومجالاتها الحالية في المجتمعات المتخلفة تتحكم فيها بعض المنظمات والمؤسسات الخاضعة لسياسة الغرب المتقدم. فكبار ممولى البنك الدولى على سبيل المثال (أمريكا-اليابان-ألمانيا- فرنسا-بريطانيا) هم الذين يتحكمون في وضع خطوط السياسة المتعلقة بوسائل ومجالات الإنفاق على المشروعات، بل وتحديد المشروعات التى يمكن تنفيذها كما أن هناك من بين دول العالم الأول من يرى أن القروض تؤدى إلى زيادة الفقر لأن مصاريف خدمة هذه الديون تلتهم جزءا كبيرا من الدخل القومى للشعوب النامية المدينة، مما يعوق مسيرة التنمية وذلك فضلا عن أن العالم الأول الغنى قلما ينفذ الوعود التى يقطعها على نفسه فيما يتعلق بالمعونات والمساعدات. فكأن الاتجاه العام السائد في الغرب هو أنه ليس هناك مايمكن للعالم الثالث أن يتعلمه من العالم المتقدم لأنه يفتقر، ليس فقط لروح المبادرة والمثابرة والرغبة الحقيقية في الخروج من الأوضاع السيئة المحيطة به، ولكن أيضا لأنه يفتقر إلى حرية الكلام والتعبير وكثير من إنجازات العالم المتقدم في مجال حقوق الإنسان التى من شأنها أن تدفع إلى التمرد على الأوضاع المهينة.

وعلى الرغم مما قد يبدو من قسوة في هذه الأحكام حول قصور العالم الثالث عن اللحاق بالعالم الأول فالظاهر أن هذه الأحكام بها قدر كبير من الصدق والصحة وأن قطاعات كبيرة من سكان ذلك العالم يؤمنون بها بالرغم مما فيها من تثبيط للهمم ويعاودون التفكير فى إحياء أساليب الحياة التقليدية، التى كانوا قد انصرفوا عنها تحت تأثير الاستعمار ويبحثون عن أفضل الوسائل التى تمكنهم من استغلال بعض عناصرها في التنمية الذاتية التى تتيح فرصا أوسع للنمو والارتقاء, حتى وإن لم يصل إلى مرحلة التصنيع التى وصل إليها العالم المتقدم، وربما يتيح التحول الذى يطفو الآن على السطح والمتمثل في ظهور مجتمع المعرفة إمكانات أكبر للترقى، خاصة أن في حياة شعوب العالم الثالث وتقاليدها وتراثها الخصب العميق المتنوع مجالا كبيرا للإنتاج والإبداع، والإسهام بالتالى في بناء الحضارة الحديثة.

ولكن هناك على الجانب الآخر ظهور بوادر تلك الثورة التى تكلم عنها الأستاذ سوفى. فالواقع المشاهد الآن يكشف عن كثيرمن حالات الرفض والتمرد على الحكومات التى تتهم بأنها تعمل لصالح الفئات الغنية على حساب التنمية الموجهة أساسا للارتفاع بمستوى الطبقات الفقيرة في ظل مشروعات وطنية ترتقى بالمجتمع ككل. فشعوب العالم الثالث تتشكك في سياسات حكوماتها المعلنة وفى نزاهتها ورغبتها في رعاية مصالح الجماهير العريضة والفئات الفقيرة بل وتعتبر حكوماتها أعدى أعداء هذه الطبقات والفئات، وترميها في الوقت ذاته بأنها عميلة للقوى الغربية المهيمنة وبالعجز عن تحقيق مستوى أفضل للحياة وتحسين الخدمات والقضاء على الفساد واحترام حقوق الإنسان، وبدأت تطالب بضرورة الإصلاح بل وتقترح المشروعات التى يجب تحقيقها في إطار ظروفها الصعبة التى ترزح تحت ثقلها. ويبدو أن الجماهير هى التى سوف تأخذ بزمام المبادرة الآن بعد التمرد الذى ازداد ظهوره في الآونة الأخيرة. فالعصر الحالى هو إلى حد كبير عصر التمرد على الحكومات بل والتشكك في أهميتها والجدوى من وجودها. وقد عبر عن هذا الموقف الحالى خير تعبير ويليام جننجز برايان حين قال عن أمريكا: «حين جاء الإصلاح إلى هذه الدولة فإنه بدأ من الجماهير « مشيرا في ذلك إلى حركة التمرد التى عرفت فيما بعد باسم «الشعبوية Populism».

فهل تفلح جماهير العالم الثالث في فرض إرادتها، بحيث تقوم نهضتها على اقتباس مايصلح لها من منجزات العلم والتكنولوجيا الحديثة، مع إحياء مايمكن تطويره من تراث وتقاليد الماضى الذى لايزال حيا على أي حال في عقولها؟!.

أَتَعْرِفُ دَارَ الْحيِّ بَادَتْ رُسُومُهَا
عَفَتْ بَعْدَنَا جَرْعَاؤُهَا وَهُشُومُهَا
وَأَقْفَرَ عَهْدُ الدَّارِ مِنْ أُمِّ سَالِمٍ
وَأَقْصَرَ عَنْ طُولِ التَّقاضي غَرِيمُهَا
أطلَّتْ علينا كلَّ يومٍ مقالة ً
غَذائِرَ لاَ يُقْضَى لِخَيْرٍ صَرِيمُهَا
لكِ الخيرُ كمْ كلَّفتْ عينيَّ عبرة ً
إِذَا انْحَدَرَتْ عَادَتْ سَرِيعاً جُمُومُهَا
وكلَّقتني منْ سيرِ ظلماءَ والدُّجا
يَصِيحُ الصَّدَى فِيهَا وَيَضْبَحُ بُومُهَا
بمائرة ِ الضِّبعينِ معوجَّة ِ النِّسا
يشجُّ الحصا تخويدها ورسيمها
وَخُوداً إِذَا مَا الشَّاة ُ لاَذَ مِنَ اللَّظَى
بعبريِّةٍ أو ضالةٍ لا يريمها
يَلُوذُ حِذَارِ الشَّمْسِ فِيهَا وَيَتَّقي
بها الرِّيحِ إذا هبَّتْ عليهِ سمومها

ذو الرمة

 

 

 

 

أحمد أبوزيد