ثورة الاتصالات.. هل تخفّف من حرارة الأشواق? جودت فخر الدين

ثورة الاتصالات.. هل تخفّف من حرارة الأشواق?

هل تختفي المعاناة القاسية... وتنطفئ حرارة العواطف وتنمحي الأبعاد الحقيقية للهفة والشوق, نتيجة ماشهده العالم أخيرا من ثورة شاملة وكبيرة في الاتصالات?

الاتصالات هي العصب الأساسي للحياة الاجتماعية, وتطورها هو التعبير الأوضح عن تطور هذه الحياة. وفي أيامنا, بلغ التقدم في مجال الاتصالات مبلغًا لم يكن من الممكن توقعه قبل سنين قليلة. لقد بات في إمكان المرء أن يجلس إلى طاولته ويتابع كل ما يجري في العالم, ويخاطب من يشاء من خلال الأجهزة التي قرّبت المسافات إلى أبعد حد.

كذلك أصبحت للإنسان عيون فضائية تستطيع النظر إلى أقاصي الكون, فالتلسكوب (هابل) مثلا, الذي أطلقه الأمريكيون إلى الفضاء عام 1990, يرى إلى مسافة تبلغ عشرة بلايين سنة ضوئية, أي إلى حافة الكون المعروف حتى الآن, ويعود إليه الفضل في توفير معلومات عن نجوم تقع على مسافة 1500 سنة ضوئية من الأرض, ومن الطريف أن هذا التلسكوب أصيب مرة بقصر في النظر, نتيجة عطل طرأ على بعض عدساته, ما استدعى رحلة فضائية قام بها المكوك الأمريكي (أنديجر) في ديسمبر 1993, مأهولاً بسبعة روّاد لإصلاح ذلك العطل, وتمت العملية بنجاح بعد مطاردة قام بها المكوك للتلسكوب مسافة مليون و320 ألف كلم.

إن ما حققه العلم من إنجازات كبيرةلا يقتصر على توفير السهولة في الاتصال أو الانتقال, وإنما من شأنه أن يغني تصوّرات الإنسان ويمدّها بمعطيات جديدة. ففي مجال محاذ لاستكشاف الفضاء, راح العلم يحدس بوجود كائنات عاقلة غير أرضية, وبات يسعى إلى الاتصال بمثل هذه الكائنات لكي تشاركنا البحث في أسرار الوجود.

لقد أحدث العلم قفزة واسعة جدا في مجال الاتصالات, وأصبح التطور الهائل في وسائل الاتصال يشكّل الطابع الأساسي لحياتنا المعاصرة, وفي تراثنا العربي - خصوصًا في الشعر نجد تعبيرات جميلة ولمّاحة عن أهمية الاتصال ووسائله, وكذلك عن المعاناة القاسية التي تنشأ حيال صعوبته أو استحالته. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الحضارة العربية الإسلامية حققت - فيما حققته - الكثير من الانجازات والاكتشافات في مجال الاتصالات والمواصلات. وهذا الموضوع تناوله يوسف أحمد الشيراوي في كتابه (الاتصالات والمواصلات في الحضارة الإسلامية), الصادر عام 1992 عن دار الريس للكتب والنشر. ولكن بعض الإشارات الشعرية إلى هذا الموضوع, من قريب أو بعيد, تكشف عن أبعاده النفسية والعاطفية, إضافة إلى أبعاده العلمية والحضارية, ما يجعل التأمل فيه أمرًا مغريًا.

ومن المعروف أن الإبل كانت الوسيلة الأكثر فعالية للتنقّل في الصحراء. ولهذا شكّلت نبضًا أساسيًا للحياة العربية. ولا ننسى هنا ما كان للخيل أيضًا من أهمية في حياة العرب, إلا أن ارتباط الإبل بالأسفار أوثق من ارتباط الخيل بها. فالخيل لها شأن مهم في ميادين أخرى غير السفر, كالفروسية مثلاً, أو لنقل كان لها شأن مهم في فنون الحرب, وفي المغامرات على أنواعها. لهذا, سوف نركز على الإبل, ونحن نتكلم عن الاتصالات والمواصلات, التي تنبّه الشعراء العرب إلى أهميتها, فعبّروا عن ذلك بأشعار جميلة, سوف تنتخب منها مثالاً واحدًا, هو الآتي: يقول أبو الطيب المتنبي في قصيدة نظمها على أثر هروبه من مصر, متحدثًا عن الإبل:

ولكنهنّ حبال الحياة وكيد العداة وميط الأذى


إذا كان الشاعر قد أشار إلى الأهمية القصوى للإبل, معبّرا عن حاجته القصوى إليها وهو ينشد النجاة, هاربًا ومطاردًا, فإن ذلك لا يحجب عنّا روعة الحقيقة التي انطوى عليها تشبيه الإبل بحبال الحياة, وهو تصوير بديع أكّد ضرورة الاتصالات, بل جعلها سببًا للحياة. هل تنبغي هنا الإشارة إلى أن الحبال لها في المعجم معنى الأعصاب ومعنى العروق? (من ذلك مثلاً حبل الوريد).

الابل حبال الحياة

لقد جعل الشاعر الإبل طرفًا في تصويره الباهر, الذي جعل له (حبال الحياة) طرفًا آخر. وإذا كان قد استمدّ الطرف الأول من حياته وعصره, فإن الحقيقة التي قدّمها, والتي تقوم على أهمية الاتصالات, تتجاوز كل ظرف وكل زمان. إنها لتبدو لنا حقيقة (مقترنة) بالحياة نفسها, توجدان معًا, أو تنعدمان معًا.

كم هو مغر أن نتأمل في القيم الجمالية, التي يختزنها تصوير المتنبي. إنه تصوير باهر للحقيقة. ذلك أنه يقدم لنا ما نعرفه, ليشعرنا بأننا لم نكن نعرفه! أو بأننا لم ننتبه إليه, ومثل هذه المهمة يؤديها الشعر الرفيع دائمًا. ففيما يتجه هذا الشعر إلى مفارقة الواقع أو مناقضته, إنما يحتضن الحقائق على نحو تلقائي, فتبدو في نسيجه أكثر إشراقًا منها في أي تفسير أو تعبير آخر.

التأمل مُغر في القيم الجمالية والإيحائية لبيت المتنبي, ولكنه يذهب بنا بعيدًا عمّا ترمي إليه هذه المقالة. لهذا, سوف نكتفي بالقول إن تصوير المتنبي لم يقتصرعلى إظهار أهمية الإبل, التي بها يسعى المرء إلى الرزق, يخرج من المهالك, ويكيد الأعداء, ويدفع الأذى, وإنما ينطوي أيضًا على شيء من التغزّل بالإبل. هذا التغزّل يبدو لنا أكثر جلاء في البيتين اللذين يسبقان البيت الذي ذكرناه, واللذين هما مطلع قصيدة المتنبي, وهما:

ألا كلّ ماشية الخيزلى فدا كل ماشية الهيدبى
وكل ناجية بجاوية خنوف ومابي حسن المشي


الخزيلى ضرب من مشي النمساء, والهيذبي ضرب من مشي الخيل, والناجية هي الناقة السريعة, وبجاوية نسبة إلى بجاوة, وهي أرض بالنوبة تعرف نوقها بالسرعة, والخَنوف من الإبل هي اللينة اليدين في السير.

يريدالشاعر أن يجعل النساء فداء للخيل وللإبل, كما يريد الإيحاء بأنه ليس من أهل العشق والتغزل بالنساء, وإنما هو من أهل السفر, وهو يستدرك في نهاية البيت الثاني (وكذلك في البيت الثالث الذي يجعل الإبل حبال الحياة), بالقول إنه - في تقديمه الإبل أو الخيل على النساء - لا يقصد حسن المشي, وإنما يقصد ما للإبل والخيل من فضل في نيل الرغبات وتحقيق الغايات.

لا يخفى علينا - انطلاقًا مما تقدم - أن المتنبي تكلّم على الإبل والخيل, ولكنه استطاع في كلامه هذا أن يقبض على حقيقة خبرها الناس وأقرّوا بها في كل مكان وزمان: الاتصالات ووسائلها هي حبال الحياة.

والرياح في الشعر العربي هي وسيلة الاتصال (الروحي) بين المحبّين والعشاق, إذا تعذّرت وسائل الاتصال (المادي). وليست الاستعانة بالرياح في نقل الرسائل إلا تعبيرًا عن صعوبة الانتقال أو استحالة الاتصال, إلا أنها في الوقت نفسه تعبير عن حرارة الأشواق وتوقّد المشاعر. من ذلك مثلاً هذان البيتان اللذان ينسبان إلى شاعر قديم, هو هُدبة بن خشرم (توفي حوالي 670م-50 هـ).

ألا ليت الرياح مسخرات بحاجتنا تباكر أو تئوب
فتخبرنا الشمال إذا أتتنا وتخبر أهلنا عنّا الجنوب


لم تكن المسافات البعيدة لتسمح باللقاء, ولم تكن بعض التقاليد الاجتماعية إلا لتزيد من صعوبته, بل لتجعله متعذّرًا. لذلك سعى الشاعر العربي إلى لقاء يقوم على البعاد! هذا اللقاء يتمثل - في أعلى مستوياته - بالشعر العذري, الذي يجمع بين عاشقين, فيقرر لهما مصيرًا واحدًا, وإن كان محتومًا أن يعيش الواحد منهما بعيدًا عن الآخر. لقد صوّر الشاعر العذري حبّه لقاء لا يقوم إلا على البعاد أو الفراق. وهذا ما عبّر عنه جميل بثينة في هذا البيت:

يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا إذا ما فارقتها فيعود


وسائل الاتصال إذن قد تكون وهمية, أو بالأحرى متوهمة, وأفضلها الرياح, لأنها أسرع ما يجوب المسافات. هكذا باتت الرياح بريدًا للعشاق, تنقل الرسائل فيما بينهم, وقد شكا أحد الشعراء (قيل إنه أبو العتاهية) من أنهم بالغوا في منعه عن حبيبته, حتى أنهم حجبوها عن الرياح, فقال:

حجبوها عن الرياح لأني قلت يا ريح بّلغيها السلاما


لقد كان لبعد المسافات وصعوبة الاتصال أثر بعيد في تأجيج العواطف, وفي التركيز على الأبعاد الروحية للحب. هكذا راح الشعر يبحث عن إمكانات اتصال عبر المسافات, من خلال تصويره حالات الهيام والشوق في أقصى توهجها. من ذلك هذا البيت لعمر بن أبي ربيعة:

أقلب طرفي في السماء لعلّه يوافق طرفي طرفها حين تنظر


هل نقول هنا إن الشاعر تمنّى لو تكون هنالك وسيلة للاتصال أسرع من الرياح, وأكثر سهولة? هل نقول إن في تصوّره (عبر التمني) لقاء بين طرفه وطرفها (في السماء) منتهى اليأس أم منتهى التهالك والجيشان?

الدهشة الجديدة

أصبح الاتصال الآن ممكنًا عبر مسافات هائلة. وبات التحكم عن بعد ممكنًا بين الأرض وغيرها من الكواكب, كأن الاتصال الذي تخيّله الشاعر العربي عبر الرياح, أو بالنظر إلى السماء, بات ممكنًا, ولكن على نحو مناف للتوهم, بل على نحو علمي دقيق, وسهولة الاتصال المتمادية في تطورها, راحت تحد أكثر فأكثر من ضرورة التنقل. فقد أصبح في إمكان المرء أن يرى ويسمع ويتكلم مع آخرين بعيدين جدًا, وهو جالس إلى طاولته. لقد باتت الأرض مكشوفة لسكانها, وباتت صغيرة في دائرة الشبكات المتطورة التي تحدّق بها. كأنما حب الاستطلاع أخذ يتجاوز الأرض ويتجه إلى الفضاء, بحثًا عن عوالم جديدة للدهشة.

هل نقول إن سهولة الاتصال التي تحقّقت في زماننا قد أثّرت في نزعاتنا وتطلعاتنا, وولدت لدينا أنواعًا جديدة من الأشواق والرغبات والطموحات? هل نقول إن سهولة الاتصال في أيامنا, قلّصت ما كانت تفرضه المسافات في السابق من حرارة في العواطف? هل قلّصت اللهفة ما بين المرسل والمرسَل إليه, وتكاد تلغي الأبعاد الحقيقية للانتظار والشوق?

الأسئلة كثيرة, ولانملك الإجابات عنها إلا أن تكون مزيجًا من الحماسة والحيرة. فهاهي الاتصالات قد قرّبت بين أقاصي الأرض, وها هم البشر قد قطعوا أشواطًا بعيدة في تقليص المسافات ما بينهم. هاهم يُقلّبون أنظارهم في السماء, بعيدًا جدًا عن كوكبهم, ولكنهم - مع ذلك - يزدادون خوفًا حيال مصشاكلهم وأزماتهم الأرضية!

أضْحَى التّنائي بَديلاً مِنْ تَدانِينَا, وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تجافينَا
ألاّ وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ, صَبّحَنا حَيْنٌ, فَقَامَ بِنَا للحَيْنِ نَاعيِنَا
مَنْ مبلغُ الملبسِينا, بانتزاحِهمُ, حُزْناً, معَ الدهرِ لا يبلى ويُبْلينَا
غِيظَ العِدا مِنْ تَساقِينا الهوَى فدعَوْا بِأنْ نَغَصَّ, فَقالَ الدّهرًُ آمينَا


(ابن زيدون)

 

جودت فخر الدين