موريتانيا.. المرأة قمر الصحراء

موريتانيا.. المرأة قمر الصحراء

غادرت موريتانيا قبل أيام قلائل من وقوع الانقلاب بها، ولكن الأزمة كانت مستعرة، وعلامات الشقاق السياسي تبدو واضحة في الأفق، كانت علامات الخوف جلية في كلمات الأطراف الذين التقيتهم من مسئولين ومثقفين وإعلاميين، كانوا جميعا يشعرون بأن التجربة الديمقراطية - التي مازالت قصيرة العمر - في خطر، لم يكن مبعث الخوف الحقيقي هو ذلك الفوران السياسي الذي يشهده الشارع، فقد شاهدنا باعيننا كل مظاهرات واعتصامات يقوم بها صغار الموظفين، مطالبين بزيادة الأجور لمواجهة الأزمة العالمية لارتفاع الأسعار، وكان هذا طبيعيا ومفهوما، وعندما سألت أحد الوزراء الذين قابلتهم حول كل هذا التذمر قال بهدوء: هذا ثمن الحرية، وهذه هي المرة الأولى منذ سنوات التي يرفع فيها المواطن الموريتاني صوته مطالبا بحقه. ولم يكن مبعث الخوف أيضا انتقال الأزمة إلى مقاعد البرلمان وائتلاف الأحزاب المشاركة في الحكم، فبالرغم من أن العديد من الوزراء كانوا قد بدأوا في الاستقالة، وأخذ النواب في الانسحاب من البرلمان، حتى بلغ عددهم 48 نائبا من أصل 190 نائبا، بالرغم من ذلك قال لي أحد رؤساء صحف المعارضة: هذه ضريبة الديمقراطية، نختلف دون عنف، ونتصارع دون ضحايا.

منذ استقلال موريتانيا عام 1960 قام جيشها الباسل بخمسة عشر انقلابا، ففي الوقت الذي اختفت كلمة الانقلاب من قاموس معظم الدول العربية منذ حوالي عقدين من الزمن، ظلت الكلمة معتمدة وسارية في موريتانيا، تتجدد كل حوالي ثلاثة أعوام ونصف العام، فالنظام المركزي الهش للدولة كان أضعف من أن يحمي الجنرال الموجود في قصر الحكم من منافسه «الجنرال» الآخر داخل الثكنات، أضف إلى ذلك أن التعقيدات والعصبيات القبلية، التي تشكل عصب التركيبة السكانية، تجعل من استئثار أي مجموعة بالسلطة لمدة طويلة أمرا مستحيلا. لم تتجاوز تجربة الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبد الله في السلطة غير أربعة عشر شهرا فقط، وكان قائد الانقلاب الذي سبقه في عام 2005 قد فجر مفاجأة مدوية في العالم العربي لم يعرف لها سابقة غير مرة واحدة في السودان حين قرر العقيد محمد ولد فال أن يتنحى طواعية عن السلطة ويتركها طواعية من أجل إقامة انتخابات ديمقراطية، شفافة، ونظيفة، بعيدا عن مخالب العسكر، وقد جاءت هذه الانتخابات بالرئيس محمد ولد شيخ، (البعض في موريتانيا يشكك حتى في هذه الانتخابات، ويصفها بأنها مسرحية دولية محبوكة). ولكن التجربة الديمقراطية لم تلبث أن وئدت، وعادت موريتانيا إلى حظيرة الديكتاتوريات العربية والإفريقية، ماتت بارقة الأمل التي لاحت والتي كان يمكن أن تنير ظلمة الحكم الفردي الجاثم على العالم العربي منذ عدة عهود.

في مواجهة العشوائية والتصحر

وصلنا إلى نواكشوط ليلا، وكانت القاعة الرئيسية في المطار على شكل خيمة عربية وخافتة الإضاءة، وسارت بنا السيارة وسط ظلمة متقطعة، فلم نستكشف معالم المدينة إلا في صباح اليوم التالي، كان لون الرمل الأصفر مازال غالبا، والشوارع تمتد تحت القيظ، لم تكن المدينة قد اقتطعت شخصيتها من عنف الصحراء التي تحيط بها بالرغم من مرور نصف قرن على إنشائها، كانت تنمو وتتمدد بشكل عشوائي في أغلب الأحوال، بيوت واطئة، لا توجد إلا مبان قليلة تحجب الأفق، تتداخل فيها كل الطرز المعمارية، تقطع الشارع الرئيسي قطعان من الماعز، تسير بين السيارات الفارهة وهي تلتقط الورق الجاف، كما تتجاور الفيلات الفاخرة مع أكواخ الصفيح، لاتوجد أسماء لشوارع المدينة، شارع واحد رئيسي يقسم المدينة إلى نصفين هو شارع جمال عبدالناصر، جاءت هذه التسمية أيام المد القومي الذي كان يغمر البلاد، وهو يبدو أجمل بكثير في الليل حين تتألق فيه الأنوار ويقل الغبار، بقية الشوارع بعضها يحمل أرقاما، والبعض الآخر من الصعب على غير أهل البلد الوصول إليه، قال لي العجوز عبد الله الذي رافقنا لفترة: «الاستعمار ترك لمعظم الدول الإفريقية عواصم، أما نحن فحين رحلت عنا فرنسا لم تترك لنا شيئا، لقد عقدت أول حكومة بعد الاستقلال اجتماعها الأول تحت خيمة في وسط الصحراء». وبالرغم من ذلك فإن الناس يضفون نوعا من الديناميكية على المكان، في الشوارع والأسواق والحوانيت، يهيمن المواطنون المنحدرون من أصل إفريقي أو «السودان» على معظم الأنشطة التجارية، بينما داخل المكاتب والمؤسسات يوجد «البيضان» وهم المواطنون الذين ينحدرون من امتزاج العرق البربري مع العربي، وكل واحد من العنصرين يزعم أنه جاء إلى هذه البقعة من الأرض أولاً. الازدواجية اللغوية واضحة، والفرنسية هي الغالبة كما هي الحال في دول المغرب العربي، ولكن عرب موريتانيا يكنون اعتزازا خاصا للغة العربية، فالدين الإسلامي يوحد حقا بينهم وبين المنحدرين من أصل إفريقي، ولكن اللغة هي التي تميز خصوصيتهم، وتمد جذورهم مع قبائل بني حسان، وهم أحد فروع قبائل الهلالية الذين جاءوا من جزيرة العرب ونشروا الإسلام من هذه المنطقة إلى جنوب نهر السنغال، وهم يفخرون دائما بأنهم بلد المليون شاعر، وأنهم من نسل علماء «شنقيط»، أهم المدن الدينية في موريتانيا، والتي انتشر اسمها على كل المنطقة. يقول الدكتور سيد ولد اباه في مقابلته مع العربي: «في وقت الاحتلال الفرنسي عندما كانت موريتانيا أقرب إلى إفريقيا أو مايطلق عليه بلاد السودان من عالمها العربي والإسلامي، ظلت قوافل الحج لا تنقطع بينها وبين المشرق العربي، وظلت العلاقات الثقافية متواصلة، ولكن من خلال أفراد قلائل أبرزهم هؤلاء العلماء من شنقيط التي كانت بمنزلة المركز الديني والروحي للبلاد، وقد برز منهم الشيخ محمد الشنقيطي الذي أصبح عالما في الأزهر، وكان شيخا مشاغبا كثير السؤال ولا يقنع بالأجوبة التقليدية، وقد تحدث عنه طه حسين، وقد دامت هذه العزلة حتى بعد الاستقلال، وتأخر كثير من الدول العربية في الاعتراف بها». وقد تحدث طه حسين بالفعل عن هذا الشيخ في كتاب الأيام الذي يروي قصة حياته قائلا: «كان أولئك الطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب، وكانوا يذكرون أن له مكتبة غنية بالمخطوط والمطبوع في مصر وفي أوربا، وأنه لا يقنع بهذه المكتبة، وإنما ينفق وقته ناسخا وقارئا».

تحدي الماضي

التحديات التي تواجه موريتانيا كثيرة، تحديات الماضي، وتحديات الحاضر، فهي بلاد قلقة، تمتد على مساحات شاسعة من الرمال ودوامات العواصف، عرفت قديما ببلاد الملثمين، فعندما تتحول ذرات الرمل إلى شواظ حارقة، يصبح على فرسان الصحراء من البربر المرابطين أن يضعوا على وجوههم لثاما دائما لاتظهر من خلفه إلا عيونهم، لا تكف قوافل الملح فيها عن الرحيل عبر الصحراء من الجنوب إلى الشمال حاملة بضاعتها من الملح، التي تساوي في وزنها حياة إنسان، وفي رواية مدن الرياح للكاتب الموريتاني «موسى ولد أبنو» تروي أحداثها كيف باع الأب ابنه في مقابل وزنه ملحا، وكيف تحول الغلام الصغير من حر إلى عبد، إنه تاريخ موغل في القدم، انصهرت في هذا المكان الجاف خلطة من الأعراق، بربر وعرب وزنوج. في البداية جاء البربر من قبائل «صنهاجة» لينشئوا مدنهم ويحفروا نقوشهم على الصخر، كانوا محاربين أشداء، لا يفصح اللثام الذي يخفي الوجوه عن نقاط ضعفهم، استطاعوا أن يخترقوا الصحراء الجافة بفضل استئناسهم للخيول والجمال، ثم جاء العرب مع أول الفتوحات الإسلامية، حاملين الدين واللغة، وطال الصراع بين العرب والبربر، ولم يمتزج العرقان ويتداخلا حتى جاء بنو حسان، إحدى موجات هجرات بني هلال التي عمت الصحراء، هم الذين فرضوا وجودهم وسيادتهم وحرموا على غيرهم حمل السلاح، ومازالت اللغة العربية في موريتانيا يطلق عليها حتى الآن، اللغة الحسانية، وكانت نتيجة هذا التداخل بينهم هي ظهور مجتمع «البيضان» في مواجهة مجتمع السودان أي المواطنين من أصل إفريقي الذين كانوا لا يكفون عن الهجرة للصحراء عبر نهر السنغال. لم تكن الصحراء على الرغم من جفافها خالية أبدا من صراعات البشر، ولم تكن غائبة أيضا عن أعين القوى الأجنبية التي تتصارع للاستيلاء عليها، هذا الشاطئ الممتد على الجزء الدافئ من المحيط، كان دائما يجذب الصيادين والقوافل الرحل والباحثين عن مهرب من ماض بعيد، والمستعمرين والراغبين في الحرية أيضا، وجاءت فرنسا مستطلعة ومستكشفة للمنطقة في أول الأمر، ثم سرعان ما شحذت غريزتها الاستعمارية، ودخلت في صراع هائل مع السكان الأصليين حتى احتلت هذه البلاد، ودام هذا الاحتلال حتى الستينيات من القرن الماضي، وترك خلفه كثيرا من القضايا المفجرة، لعل أبرزها تلك الازدواجية اللغوية ما بين فرنسية وعربية، وكذلك تلك الازدواجية العرقية ما بين عرب وأفارقة.

تحدي الحاضر

التحديات التي تواجه الحاضر الموريتاني كثيرة، فالطبيعة القاسية لا تني تداهمها بنوبات من الجفاف والتصحر، وهي تقضي على الأرض التي قضى الفلاح السنوات الطوال في زرعها وإصلاحها، ويمثل نقص المياه وحالة شح الأمطار التي تغمر غرب إفريقيا كلها مشكلة حقيقية تهدد وجود حتى العاصمة الرئيسية نفسها، وتجد موريتانيا نفسها تتجه أكثر فأكثر إلى استيراد ما تحتاج إليه من مواد غذائية وزراعية من جنوب نهر السنغال، ويمكن أن يمثل البحر نوعا من الخلاص لها، فهي تعد واحدة من أغنى البلاد بثروتها السمكية، وتمتلك أغنى الشواطئ بهذه الثروة في العالم بعد اليابان، وتندفع إلى جوفها القاري تيارات المحيط الأطلنطي الدافئة التي تجعل كثيرا من الأسماك تهاجر إليها، وهي أسماك ذات جودة عالية، ولكنها حتى الآن - وبسبب التخلف التقني وقلة الإمكانات - لاتستطيع ان تستفيد من هذه الثروة بشكل أمثل، وبالرغم من توقيعها العديد من المعاهدات مع الأساطيل الأوربية فإنها لا تملك من القدرة ما يجعلها تستطيع مقاومة عمليات الصيد الجائر التي تتم في مياهها الإقليمية وتحرمها من الكثير من ثروتها، وهي تحاول الاستثمار في هذا المجال وتشجيع بناء السفن الضخمة لعل أنظار الاستثمارات العربية تتجه إلى هذا المجال الحيوي.الثروة المعدنية هي فرصة أخرى للخلاص، ولكن وعود البترول التي مازالت غامضة، أو على حد تعبير أحد المواطنين، الذي قال لي في سخرية: «لقد سمعنا عن البترول حقا ولكننا لم نشم رائحته بعد»، إلا أن ثروة موريتانيا المؤكدة من المعادن هي الحديد الخام، فهي تملك أغنى وأفضل أنواع خام الحديد في العالم العربي في منطقة أزويرات، وهناك قطار شهير يحمل خام الحديد من هذه المنطقة إلى نواذيبو، حيث يتم تصديره، وهو أطول وأبطأ قطار في العالم إذ يصل طوله إلى حوالي كيلومترين، وهو يحتاج إلى التوقف أمام العديد من المعامل والمصاهر والمصانع - في هذا الطريق الممتد - التي تحول هذا الخام الذي تستورده أوربا بأسعار زهيدة إلى ثروة حقيقية.أين العرب من هذه التحديات؟، في النفس مرارات كثيرة، فعلى حد تعبير أحد الوزراء الذين قابلتهم وهو يقول لي: «بعض العرب يعاملوننا بطريقة هامشية، نحن نريد أن يلتفتوا إلينا أكثر، إنهم يتعللون بأسباب مثل بعد الموقع الجغرافي، والحكم العسكري، والفساد الإداري، ولا يأتون إلينا»، ولكن السفير الكويتي طلال الخرافي يقدم لنا صورة مختلفة على الأقل عن العطاء الكويتي لهذا البلد، لقد استقبلنا بحفاوة ليست غريبة عليه، وسهل لنا كثيرا من الأمور، وكان يتابع جولتنا يوما بيوم، يقول: «للكويت وجود كبير هنا، إننا ندرك أن موريتانيا بلد عربي يواجه العديد من التحديات التي تهدد هويته ونحن حريصون على أن يبقى جزءا أساسيا من الجسم العربي، لقد شهد مجال الخدمات أول استثمار كويتي في بناء الفنادق، ومازال المستشفى الرئيسي يحمل اسم الكويت، ونحن نساهم في المشروعات الضخمة، مثل بناء المساكن لمحدودي الدخل وسكان أكواخ الصفيح، كما نساهم في مشروع مد خطوط الكهرباء إلى كل الضواحي التي لم تدخلها الكهرباء بعد، وهناك مشروع ضخم يهدف إلى جلب المياه من نهر السنغال على بعد حوالي 250 كيلو مترا، وهو مشروع حيوي يكمل المشروعات التي مولتها الكويت والسعودية من أجل إنشاء مجموعة من السدود على نهر السنغال وسوف تولد الطاقة وتوفر مياه الري وتستفيد منه موريتانيا والسنغال ومالي وكلها دول إسلامية شقيقة».

المرأة في موريتانيا

بعد تجوال طويل، أتذكر الهدف الرئيسي لزيارتي، وهو إلقاء الضوء على الدور الذي تقوم به المرأة الموريتانية في الحياة الاجتماعية والسياسية، فقد أعطتها التجربة الديمقراطية، مركزا مميزا، وفتحت أمامها كل المناصب بلا استثناء، وقد شهدت الانتخابات الأخيرة ترشيح امرأة لرئاسة الجمهورية، هي «عائشة بنت جدان»، وكانت تحمل برنامجا طموحا من أجل ترقية المرأة، وعلى الرغم من أنها لم تفز فقد فازت نساء غيرها بمقاعد مهمة في البرلمان، وأصبح منهن ولاة وحكاما للمقاطعات، ورئيسات للأحزاب، واحتلت التشكيلة وزيرتان، نجحت في أخذ موعد لمقابلة صحفية مع إحداهما، وما فعله النظام هو مجرد اعتراف بموقعها الذي يتفوق على العديد من المواقع التي تحتلها زميلاتها في كثير من الدول العربية. يبدو حضور المرأة قويا في كل مكان بالحياة العامة، وتنبع هذه المكانة المعاصرة من مكانتها المميزة في الفكر المرابطي القديم، ففي مجتمع لا تكف قبائله عن التنقل، ولا تتوقف قوافله عن الترحال، كان لابد من وجود مستقر يعود الرجل إليه، خيمة وامرأة ترعاها، كانت المرأة هي الجذر الذي يربطه بالأرض والمكان، كان المرابطون من القبائل المتشددة في اتباع تعاليم الدين الإسلامي، يؤمن أفرادها بأنه لايكرم المرأة إلا كريم، ولا يهينها إلا لئيم، ويقول المثل الحساني الذي يجسد التراث المرابطي: «إنهن عمائم الأجواد، ونعال الأنذال، هذه النظرة المتفتحة على المرأة والاعتراف بمكانتها لم يمنع عوامل الغبن التي كانت تمارس ضدها في بعض الأحوال. إنها تاجرة ماهرة، فمعظم الأسواق تقوم على أكتاف النساء، وهناك أسواق مغلقة عليهن فقط، وقد شاهدنا هذا ونحن نتجول في مختلف الأسواق، وقد تطور الأمر وفقا للتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تقصي الرجل عن الاتجار في الأشياء والبضائع التي تخص النساء، ولكن مهارة المرأة التجارية امتدت حتى أصبحت تتاجر في كل شيء تقريبا، من أول سوق السمك، حتى أسواق المنسوجات والمشغولات والذهب، إلى المقاولات والعقار، وهناك مقاولة شهيرة قامت ببناء واحد من الأسواق المجمعة وأطلقت عليه سوق النساء، وبالطبع اقتصر الاتجار فيه على النساء فقط، وهو سوق غريب حقا، لا يفتح أبوابه إلا متأخرا، وربما تنتظر المرأة حتى تفرغ من شئونها المنزلية قبل أن تتوجه للسوق، وبعد ذلك تجتمع كل التاجرات معا لتناول شاي الصباح، ويتم هذا عند الظهر تقريبا، وتبادل آخر الأحاديث والنمائم، قبل أن تتوجه كل واحدة منهن إلى محلها، ويبدو أن هذا الطقس الصباحي لا يقل أهمية عن ممارسة البيع والشراء، ومن خلال التعامل مع التاجرة الموريتانية تكتشف كيف أنها مرنة وحازمة في الوقت نفسه، فهي تدخل عملية المساومة مبتسمة، ولا تدع الزبون ينصرف بسهولة، وتحرص في الوقت نفسه على أن تنال السعر الذي تريده، إنها تتمتع بنوع من قوة الشخصية في مواجهة ظاهرة الحياء التي تبدو واضحة على تصرفات الرجل الموريتاني.

في سوق السمك المشحون بالصيادين وحركة القوارب، كانت الغلبة للنساء، كن يقمن بتوجيه حركة الصيادين، وتسلم الأسماك ووزنها وتنظيفها وتهيئتها ويحتلن مكانهن فوق كل «بسطات» البيع، قالت لي إحدى البائعات: «لقد أرغمتنا ظروف الحياة وصعوبتها على الخروج مبكرا إلى سوق العمل، في العديد من الأسر لم يكن الرجل وحده يستطيع أن يقوم بعبء الأسرة، وكان يجب أن تستغل المرأة قدرتها ومرونتها في التعامل مع السوق، ولكن العامل الأكبر الذي ضاعف من وجود المرأة في سوق العمل هو انتشار ظاهرة الطلاق، الطلاق سهل في موريتانيا، فهو يتم شفهيا، مثلما يتم الزواج شفهيا في العديد من حالات الزواج. وقديما كان الشرع والأخلاق والقيم المتعارف عليها ترغم الرجل على الإنفاق على أولاده، ولكن لم يعد الأمر كذلك، فالرجل يتنصل، ويتزوج من جديد، وينجب أولادا جددا، ولا يبقى أمام المرأة غير الخروج إلى سوق العمل». الرجال بالطبع يعارضون هذا الرأي، قال لي أحدهم إنه لا توجد مشاكل فيما بعد الطلاق، فالمرأة تأخذ كل شيء تقريبا، ويمنع الرجل الحياء من أن يتصدى لها، وإذا هددته المرأة باللجوء إلى القضاء فإنه يرى في هذا فضيحة تمس برجولته، وهو يحاول أن يتجنب هذا الأمر بقدر طاقته، وهو يدفع كل ماعليه من التزامات خوفا فقط من انتقاد المجتمع له. وترى أم كلثوم مصطفى أن هذا الرأي «مثالي وذكوري» أكثر مما ينبغي، وأم كلثوم هي واحدة من نجوم التلفزيون في موريتانيا، تهتم بتقديم برامج الشباب والأسرة بشكل عام، وهي نشطة اجتماعيا، فهي لم تكتف - على حد تعبيرها - بأن تكون ببغاء ملونة تردد كلاما على الشاشة، ولكنها نزلت للعمل العام من خلال إنشائها جمعية نفع عام لتبني قضايا المرأة ومساعدتها، وهي تقول: «لقد تغير المجتمع كثيرا، وقد جعلت الأزمة الاقتصادية نظرة الرجل للمرأة أكثر ضيقا، وأشد أنانية، والأخطر من ذلك جعلته أكثر عنفا ضد زوجته، وهو الأمر الذي لم يتعود عليه هذا المجتمع، فهو عنف مخفي، لايستطيع أي من الطرفين أن يعلن عنه، نحن نحاول أن نبصر المرأة بحقوقها، لايوجد في المجتمع الموريتاني تعدد للزوجات، بالمعنى الرأسي، أي أن يتزوج الرجل أكثر من امرأة في وقت واحد، ولكن يوجد تعدد بالمعنى الأفقي، أي أن الرجل يتزوج ويطلق، ليعاود الزواج والطلاق من جديد، وهذه أخطر المشاكل التي نواجهها، ونحاول التصدي لها، فنتصدى لها بتوعية المرأة، ومنع العنف عنها ومساعدتها في امتهان حرفة تعيل بها نفسها وأسرتها».

السياسة امرأة

خلال جولتي قابلت العديد من السيدات الناشطات اللواتي يملكن موقفا ورؤية محددة للتحديات التي تواجه بلدهن، كانت بينهن ناشطات في المجتمع المدني، ورئيسات للأحزاب، ووزيرات وواليات وأيضا إعلاميات وفنانات، كانت التشكيلة كبيرة ومتنوعة، الرؤى التي يحملنها متعددة أيضا. في مقابلة مع «عزة بنت همام» وهي عضوة في البرلمان عن منطقة العيون في الجنوب ومسئولة الحزب الجمهوري الاشتراكي قالت إنها سعت لتأسيس حزبها حتى تحارب سياسات التهميش والإقصاء التي تتعرض لها المرأة بعد أن لا حظت أن العديد من الأحزاب التقليدية القديمة تصنع من قضيتها مجرد شكليات تضعها على هامش برنامجها، دون أن تسعى لتنفيذ أي منها، ومع ذلك فحزبها مفتوح أمام جميع الموريتانيين رجالا ونساء.وترى بنت همام أن ما زاد من نشاط المرأة في المجال السياسي «هو صدور قانون خلال الفترة الانتقالية بإلزامية تمثيل النساء داخل البرلمان والمجالس البلدية بنسبة لا تقل عن 20 في المائة، وقد أحدث هذا الأمر انقلابا في التشكيلة السياسية لمجلسي النواب والشيوخ واستطاعت 19 امرأة أن تدخل البرلمان وهي تعد بذلك أكبر نسبة تمثيل نيابي تحصل عليها المرأة العربية، قرار التمثيل هذا سوف يكون خطوة جيدة لرفع واقع تهميش النساء في مجتمع تمثل فيه المرأة نسبة 53% من السكان. وعلى الرغم من أن الموريتانيات لم يشاركن في الانتخابات الرئاسية, بالرغم من أن المرشحة الوحيدة التي كانت تعتزم خوض معركة الرئاسة قد انسحبت قبل أن تقدم ملف ترشيحها لوزارة الداخلية، إلا أن حضور الموريتانيات في الانتخابات النيابية التي جرت قبل أشهر كان كثيفا، وقد استغلت المرأة الفرصة وأقبلت على صناديق الانتخاب، ولكن علينا في المرحلة القادمة أن نزيد من وجود المرأة، بالرغم من التشريعات والقوانين التي تشجعها على المشاركة السياسية.

فهل أصبحت المرأة جديرة بالمناصب التي تولتها؟ وهل تحمل من رؤية جديدة؟ حاولت أن أحصل على اجابة لهذا السؤال من إحدى الوزيرات المشاركات في الحكم وهي وزيرة الترقية النسوية والطفولة السيدة فاطمة بنت خاطري، ولكني اعترف أن اللقاء معها كان صعبا، ولا أدري من كان السبب في ذلك، الذين يحددون لها المواعيد؟ أم مشاغلها الكثيرة؟ أم أننا كنا موجودين في عز اشتعال الأزمة السياسية التي كانت تهدد الحكم؟!

اللقاء الأول

- في البداية قالوا لنا إن أفضل طريقة وأسرعها هي مقابلتها وهي تقوم بأحد الأنشطة، وكانت مناسبة طيبة لنا لمعرفة نوعية الخدمات التي تقدمها الوزارة للمرأة، وزيارة مواقع العمل بدلا من الاكتفاء بالبيانات الباردة، وكان الموعد في مركز الترقية النسوية، حيث ستحتفل الوزارة بيوم الطفل الإفريقي، وفي الحقيقة كان المكان على بساطته رائعا، كان المبنى مكونا من عدة غرف أو قاعات صغيرة في وسطها حديقة مزدهرة، وفي وسط اللون الأصفر الذي يغمر المدينة كانت هذه الخضرة تبدو أزهى من المعتاد، وتحتوي كل قاعة على أنشطة تعلم المرأة مهارة من المهارات: الحياكة، تصفيف الشعر، طهي الطعام، كان الهدف هو ترقية المرأة التي لا عمل لها حتى تصبح ذات حرفة، وكان هناك اتصال مباشر بين أصحاب الأعمال لمدهم بالأيدي العاملة في التخصصات التي يحتاجون إليها، وفي إحدى القاعات الصغيرة شاهدنا تجربة جديرة بالاهتمام، قابلنا أعضاء برلمان الأطفال الموريتانيين، تجربة جديدة كانت إحدى ثمرات الحكم الديمقراطي للبلاد، والهدف منها تعويد الأطفال على ممارسة الديمقراطية منذ عمر مبكر، وكان البرلمان الذي تم تنصيبه في عام 2007 مكونا من 42 طفلا، نصفهم من الأولاد والنصف الثاني من البنات، يمثلون مختلف المقاطعات والولايات، وينقسمون إلى أربع لجان هي التنمية والرعاية والحماية والمشاركة، وقد قام الأطفال خلال دورتهم البرلمانية بتوجيه العديد من الأسئلة إلى الوزراء المكلفين بالتهذيب، أي التربية، والصحة والشباب حول المسائل التي تهمهم، مثل رعاية وتنمية ومشاركة الأطفال. القاعة الثانية كانت تجمع أطفالا من نوع مختلف، كانوا جميعا قد عاشوا لفترة في دولة الإمارات، وصلوا إليها وهم صغار السن والحجم وخفاف الوزن، وكانت ميزتهم الوحيدة - بالرغم من أن بعضهم لم يكن قد أجاد الكلام بعد - هي قدرتهم وتحكمهم في قيادة الإبل، وكانت مهمتهم هي المشاركة في سباقات الهجن التي كانت تقام بشكل منتظم، وقد احتجت منظمات حقوق الأطفال حول استخدامهم في هذه الرياضة الخطرة، ونتيجة لذلك فقد اتفقت موريتانيا والإمارات على أن يكون 2005 هو العام الأخير لاستخدام الأطفال في هذه الرياضة الخطرة، وقد استبدلت الإمارات بهؤلاء الأطفال أشخاصا آليين، «روبوت» صنعت خصيصا من أجل القيام بهذا السباق، كما أنها وضعت برنامجا طموحا لعودة الأطفال الموريتانيين إلى موطنهم وتعويضهم عن المخاطر التي تعرضوا لها، وقد شملت التعويضات كل الأطفال الذين شاركوا في السباقات وأسرهم، ودفعت لهم تعويضات مالية مناسبة، ويتم الآن إغلاق هذا الملف الشائك. وتبدأ أسر هؤلاء الأطفال في استغلال مبالغ هذه التعويضات لإقامة مشروعات خاصة بهم. بعد انتهاء هذه الجولات بدأ الاحتفال الذي كان من المقرر أن تفتتحه الوزيرة، ولكنها لم تحضر، حضر كل هذا الجمع من الأطفال، والموظفين الرسميين، وحضر ممثلون عن المنظمات الدولية لرعاية الطفل مثل «اليونيسيف»، و«منظمة أنقذوا الأطفال»، ومنظمة «وردفبرن» الدولية، والعديد من ممثلي الصحافة والإعلام، وبدأت الخطب والفعاليات، ولكن الوزيرة ظلت مختفية بالرغم من أن وزارتها كانت صاحبة الاحتفال والداعية إليه، ولم يقدم أحد تبريرا إلا بعد مرور وقت طويل، حين قال أحد مساعديها، إنها لن تستطيع الحضور لأنها ذهبت إلى المطار لتوديع رئيس الجمهورية الذي كان مسافرا لحضور مؤتمر في مكان ما. وكان الأمر مخجلا بحق. تأملت وجوه الجميع، وبدت الحيرة على وجوه الضيوف الأجانب، فبالرغم من وجودهم لسنوات بيننا فمازالت هذه التصرفات تثير دهشتهم.

اللقاء الثاني

وأخيرا ظفرنا بالمقابلة مع السيدة. فاطمة بنت خاطري بعيدا عن القيود الوظيفية، امرأة شابة وحيية تمتاز بالرقة والبساطة، كان اختيارها واحدة من علامات التغيير التي تهب على المجتمع الموريتاني، ففي عالمنا العربي، حيث لا يتولى المناصب القيادية إلا العجائز، كانت هي في منتصف الثلاثينيات من عمرها، أبوها مناضل قديم من زمن الاستقلال، وحالم أبدي بالديمقراطية والحرية، والقبيلة التي تنتمي إليها هي «الإقلال» لها ثقل مؤثر في التركيبة السكانية للبلاد، وكان هذا ما دعم اختيارها للمنصب بالرغم من عمرها الصغير نسبيا، دار الحوار حول قضايا متعددة، ولكن الجزء الأكبر كان حول تحسين وضع المرأة والحرص على تعليمها، لأن الأم المتعلمة أفضل لطفلها، وأقدر على حمايته، ولكن المتاعب التي كانت تواجه الأسرة دائما هي مشاكل الطلاق، فقد ارتفعت نسبته في السنوات الأخيرة إلى 31% وهي نسبة كبيرة وذات أثر مدمر على الأطفال الذين لا يجدون موردا للرزق بعد أن تخلى عنهم الأب، كانت المهمة التي تراها الوزيرة عاجلة هي أن تضع خطة سريعة لمؤازرة المرأة، فأمام تنصل الرجل من مسئولياته، وبطء عملية التقاضي، كانت الوزيرة تطمح إلى إنشاء «صندوق للنفقة»، مهمته أن يقوم بدفع نفقة سريعة للمرأة، ثم يتولى متابعة الطرف الآخر للحصول منه على المبالغ المدفوعة، بالطبع كانت مشاكل التمويل هي العائق الوحيد أمام تنفيذ هذا المشروع، والوزيرة كانت مصرة على تنفيذه، ولكن الوقت لم يسعفها. فبعد أيام من مغادرتي للبلاد، ووقوع الانقلاب العسكري الأخير، فوجئت بها على شاشة التلفزيون، كانت امرأة حزينة ومنكسرة، ولم يكن يبدو عليها أي أثر من أبهة الوزارة، كانت تتحدث عن أن هذا الانقلاب غير شرعي ولابد من محاصرته حتى تعود الديمقراطية، وأحسست بالحزن عليها وعلى أحلامها التي كانت قصيرة العمر.

مطربة.. ومناضلة

الأمر كان أكثر سهولة عندما ذهبنا لمقابلة مطربة موريتانيا الشهيرة «معلومة بنت الميداح»، المطربة القومية الأولى في موريتانيا، أو فنانة الشعب كما يطلقون عليها، فهي إضافة لنشاطها الفني لها نشاط سياسي كعضوة منتخبة في البرلمان، أو كانت كذلك حين قابلتها على الأقل، عندما ذهبنا إلى بيتها كانت تستعد للسفر إلى أبوظبي لإقامة إحدى الحفلات، وكانت فرقتها واقفة على باب القاعة التي نجلس فيها وهم يحملون جوازات السفر والآلات الموسيقية ويستعدون للانطلاق، ومع ذلك فقد أخرت الجميع حتى تجلس معنا، قالت لنا مبتسمة وهي تستقبلنا: «أتعرفون لماذا أصررت على استقبالكم، لأن مجلة العربي جاءت في الستينيات إلى قريتنا «مشارات» بالقرب من نهر السنغال، كنت لم أزل طفلة صغيرة، ولكن أبي ظل يحتفظ بهذا العدد حتى بعد أن كبرت، كان أبي شاعرا وفنانا ومداحا للنبي الكريم، وعلى يديه تعلمت الموسيقى والغناء، لقد كان أول من علم الناس في قريتنا كيف يسمعون أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وعبدالوهاب، ولم يكتف بهذا، بل ولكنه كان منفتحا على موسيقى العالم، الموسيقى الكلاسيكية والجاز والبللوز». ولدت معلومة في 1960 وسط مناخ من الفن والموسيقى التقليدية، وأحست منذ طفولتها بأنها تريد أن تصنع نوعا مختلفا من الموسيقى غير التي ينشدها أبوها، كانت تريد ابتكار قالب يجمع بين موسيقى القبائل الموريتانية، والفن العالمي الذي كانت تسمعه من خلال الاسطوانات السوداء الكبيرة التي يحضرها الأب، تقول معلومة: «وفي عام 1986 بدأت أكتب كلمات الأغاني وألحنها بنفسي، لم ألجأ للشعراء المحليين، لأن الكلمات التقليدية التي كانوا يكتبونها لم تلب الصورة العصرية التي كنت أسعى إليها، اضطررت إلى أن أعبر عن مشاعري بكلمات لم تكن خاضعة لقواعد الشعر الفصيح، ولكنها كانت تفي من وجهة نظري ببعض مواصفات الأغنية العصرية التي أسعى لتأسيسها، لقد خرجت عن مديح القبيلة، وأخذت أغني عن مشاكل العصر ومتاعب الجيل الذي أنتمي إليه، وكانت ردود الفعل شديدة التباين. البعض وأغلبهم شباب أعجب بهذا النمط الجديد، لكن البعض الآخر - خاصة الأوساط التقليدية المحافظة - استنكر أدائي بل وذهب إلى حد رميي بالجنون». بدأ اكتشاف معلومة عربيا ببطء، وحتى الآن لم يكتمل هذا الاكتشاف، فهي معروفة في بلدان المغرب العربي، ومعروفة أكثر في فرنسا وبعض بلدان أوربا، وقد عرضت علينا فيلما قامت القناة الفرنسية «كانال بلس» بتصويره، وحضر طاقم من فرنسا إلى نواكشوط خصيصا لتصويرها، ولكن من الواضح أن العديد من البلدان العربية لم تحسن الاستماع إليها: «البعض منهم يحس بالتعالي علي، ولا يتصور أن تأتي فنانة تلقائية من دولة نائية لتقدم له شيئا جديدا، لقد عانيت تجربة مرة مع بعض الذين التقيتهم من العرب أثناء مهرجانات أو ندوات دولية. إذ دأب هؤلاء على ازدراء بلادي، واقترح بعضهم عليّ أكثر من مرة أن أغير جنسيتي.. لقد صدمت بشدة، فقد عشت طوال عمري والعروبة تسري في عروقي، فقد ترعرعت فوق تلال الصحراء، وكنت أنام على سماع حكايات الأجداد العرب، ولكن هذا لم يثنني بطبيعة الحال، لقد ظللت أقدم ما أؤمن به، والآن تتولى شركة فرنسية إنتاج كل أسطواناتي». خلال رحلتها الفنية وبحكم نشأتها وجدت نفسها تنحاز أكثر فأكثر للطبقات المسحوقة في المجتمع، للإنسان البسيط سواء كان من السودان أو البيضان، وجدت نفسها تنضم إلى صفوف المعارضة السياسية، كان السخط الشعبي ضد نظام ولد طايع في ارتفاع مستمر، وجاء صوت معلومة مسموعا ومؤثرا بين الشباب، ورد النظام على ذلك بأن قام بمحاصرتها، ومنعها من إقامة الحفلات، وسحب كل أغانيها من الإذاعة، دام هذا الحصار على مدى 12 عاما كاملة، وتتذكر معلومة أن الشبان كانوا يتظاهرون أمام بيتها، ويرفعون صورها مطالبين بالإفراج عنها، ولكن السلطة العسكرية كانت غاية في التعنت، تقول: «عندما أعلن في بداية التسعينيات عن الانفتاح الديمقراطي أحسست بفرحة عارمة. قررت أن أندفع للمعترك السياسي معتقدة أن هذا جزء من رسالتي كفنانة، وحتى أرفع من شأن الفن في المجتمع الموريتاني، إنني أراها معركة أخرى مع الذات قبل أن تكون مع الآخرين. كيف يمكن لفنانة شابة وجميلة أن تقي نفسها من العالم القذر الذي يكتنف هذه المهنة، وأن تفرض احترامها على الآخرين». قبل أن تنتهي المقابلة، تهدينا معلومة نسخة من ألبومها الجديد «نور»، وهو يضم أغنيات دون موسيقى في مدح الرسول الكريم وإبراز صورته السمحة في مواجهة الرسوم الكاركاتورية التي نشرتها بعض الصحف الأجنبية التي حاولت الإساءة إليه ونغادر منزلها المتواضع في ضواحي العاصمة ونحن نسمع صوتها الرائق العذب وهي مازالت تواصل ابتهال. لسنا بلدا غرائيا «البعض ينظر إلى موريتانيا كبلد غرائبي، كل ما فيه مختلف، ناسين أنها جزء من الحزام الصحراوي الذي يلف العالم العربي كله، لذلك تتشابه العادات وتتواصل انساب القبائل كما تتواصل حركة القوافل». هكذا عبر المثقف الموريتاني «د. سيدي ولد أباه» عن نظرة الآخرين لبلاده، كنا قد ذهبنا لزيارته في بيته بإحدى الضواحي الجديدة حول نواكشوط، ولم يكن الطريق إليه قد تم تعبيده بعد، وظلت السيارة تصعد وتهبط بنا وسط الحفر والركام المتخلف عن عمليات البناء، وحتى في منزله كان التيار الكهربائي مقطوعا، ولكنه مع ذلك استقبلنا وفتح لنا قلبه وعقله، والدكتور ولد أباه أستاذ بجامعة نواكشوط، وهو من أشهر الكتاب المعروفين خارج موريتانيا، إذ تحتضن مقالاته كبرى الصحف العربية، وهو يصنف مشكلة موريتانيا قائلا: «هذا البلد عاش في عزلة شديدة بدأت من القرن السادس عشر حين تم هجر طرق القوافل الكبرى التي كانت تصل بين المدن الصحراوية، مثل شنقيط وولايته وتلمسان، بينما ازدهرت الطرق الأخرى القريبة من البحر مثل الطريق الأطلسي، وقد أثرت هذه العزلة على نظرة الآخرين لموريتانيا بشكل عام، وللمرأة الموريتانية بشكل خاص، فبالإضافة إلى النظرة الإيجابية لها والتي تتمثل في انفتاحها على العالم الخارجي، ونشاطها التجاري الذي تعتمد عليه الأسرة في أغلب الأحيان، وعدم استخدام الرجل للعنف ضدها، هناك الكثير من الحقائق التي لا يستطيع الغرباء رؤيتها بسبب «القناع الزائف» الذي تضعه المرأة، وتضعه التقاليد الاجتماعية أيضا، منها على سبيل المثال أن المرأة الموريتانية تحب الطلاق، لأنها تدرك أن المرأة المجربة مرغوبة أكثر من الرجل، وأنها تستطيع الزواج للمرة الثانية والثالثة، هذه أكذوبة، فالطلاق مؤلم لها مثل أي امرأة، وما الحفلة الصاخبة التي يقيمها لها أهلها، والتي تصل أحيانا في الأسر الغنية إلى حد ذبح ثور إلا نوع من التعويض لها، إنه قناع زائف تضعه لتخفي خلفه أحزانها، طقوس الزواج نفسها تكتسي بهذا القناع الزائف، فعلى المرأة ألا تبدي سعادتها بالحصول على زوج، ولكنها تلبس السواد في ليلة الزفاف، وتحرص صديقاتها على أن يخبئنها في مكان بعيد عن أعين الزوج، وعليه أن يبحث عنها في بيوت الأهل والمعارف حتى يجدها، وتفتح له البيوت حتى الغريبة عنه حتى يفتش فيها براحته ويجد زوجته». القبيلة أيضا في داخل الصحراء تساهم في خلق نوع من القناع الزائف حول المرأة، بحيث تقتل فيها أنوثتها، ففي مجتمع الخيمة لا يوجد حجاب، ولا يوجد عازل يبقي المرأة بعيدا عن الرجل، لذلك تلجأ بعض القبائل إلى «تسمين» الفتيات الصغيرات، هذا التسمين لا يهدف إلى تشويه أجسادهن فقط وجعلهن يبدين أكبر سنا، بل لتشويههن نفسيا وعاطفيا وقتل الرغبة فيهن بشكل مبكر، إنه نوع آخر من الحجاب الزائف تضعه القبيلة لتحمي شرفها، الزواج أيضا في موريتانيا مازال نظاما مغلقا، لايستطيع أن يتخطى الطبقة، أو القبيلة، كل واحدة هنا مكتفية مع ذاتها، لا تتزاوج من بعضها، قناع زائف آخر تضعه كل طبقة حول ذاتها، وهناك مظاهر لهذه الأقنعة تتبدى في الشعر الحساني وفي غيره من طقوس أخرى» كلمات المثقف الموريتاني تضع اللمسة الأخيرة حول دور المرأة في هذا المجتمع، إنه دور بالغ الخصوصية، كان من المهم أن نبحث حوله وأن نحاول التعرف على بعض من جوانبه.

القنبلة الموقوتة

قبل أن أغادر البلاد لم يكن من الممكن تجاهل مظاهر تلك القنبلة الموقوتة التي تتجلى في الشارع الموريتاني، وأعني ازدواجية المجتمع مابين ذوي الأصول العربيةـ البربرية وذوي الأصول الإفريقية، ذلك التباين يبدو واضحا ليس في لون البشرة فقط، ولكن في المستوى المعيشي أيضاً، وفي طبيعة المهن التي يقوم بها كل عنصر، فالعنصر الأسود ويمثله نسبة هائلة من المواطنين يقوم بمعظم الأعمال اليدوية، فمراكب الصيد يقودها السود، وكذلك السيارات والحافلات، وأعمال البناء يقوم بها السود وكذلك الصيانة والحدادة والصباغة ومعظم الصناعات البسيطة الموجودة في البلاد، بينما يقوم السادة «البيضان» من الحسانيين بضم الدراريع التي تملؤها الريح من كل جانب، والاحتماء داخل أجهزة الدولة، ويكتفون بالتملك والإشراف، تقسيم طبقي قديم، مازال ساريا بالرغم من كل القلاقل التي شهدتها البلاد، فمن المؤكد أن العبودية قد انتهت في موريتانيا، فقد تم وضع العديد من القوانين لمكافحة العبودية، وأكد على تنفيذها أكثر من نظام على مدى أربعة عقود متوالية، ومازالت حكومات التسعينيات تؤكد عليها، وقد قالت لي سيدة نشطة في مجال حقوق الإنسان ببراءة تامة: «لقد ورثت العديد من العبيد عن أبي، ولا أدري ماذا أفعل بهم، كلما أطلقتهم وذهبوا للخارج لا يجدون عملا ويعودون إلي، إنني أعطيهم أجرا مقابل عملهم، ولكنني أشعر بأنهم ملتصقون بحياتنا أكثر مما ينبغي، أريد أن أحررهم وأن يحررونا». تعود جذور المشكلة الزنجية في موريتانيا إلى أيام الاستعمار الفرنسي، فهو الذي جعل منها جزءا من مستعمراته في غرب إفريقيا، وربطها بالجنوب إداريا وسياسيا وثقافيا، وحول عاصمة المنطقة كلها إلى السنغال، وأنشأ العديد من المدارس التي لا تعلّم إلا اللغة الفرنسية فقط، وبالرغم من دفاع أهالي موريتانيا عن دينهم وهويتهم، فإن الازدواج الإثني واللغوي ظل حقيقة قائمة، فقد غيرت فرنسا في فترة احتلالها من موازين القوة في الصحراء ووضعتها في يد العناصر السوداء حين فرضت عليهم التجنيد الإجباري، كانت تريد أن تصنع منهم قوام الفئة المحاربة في المنطقة، بعد أن كان هذا الأمر مقتصرا على سلالة المرابطين من الحسانيين، والذين يحق لهم وحدهم حمل السلاح، كما أنها اهتمت بتخريج الكوادر الإدارية والفنية منهم، واستعانت بهم في الوظائف العامة. وبدأت القلاقل مع بداية الستينيات، بعد استقلال موريتانيا، فعندما قرر النظام الوطني أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية في التعليم، اعترض التلاميذ السود والجماعات السوداء على ذلك ووقع العديد من المصادمات، وتراجعت الحكومة ولم يكن هناك مفر أمامها من إقرار الازدواجية اللغوية، ولم تتوقف حركة السود عن المطالبة بحقهم في المساوة والاعتراف بوجودهم، فقد أصدروا بيانا يندد باحتكار «البيضان» للمناصب والوظائف العامة للدولة، وتم ادخال تعديل سياسي يقضي بأن يتولى السود ثلاث وزارات مهمة، ودخل الوزراء الزنوج الوزارة للمرة الأولى في أواخر الستينيات، ولكن العلاقة ظلت متوترة بين الطرفين، وبلغت ذروتها في عهد ولد طايع قائد الانقلاب الأسبق حين اتهمته الدول الغربية ومنظمات حقوق الإنسان بقتل حوالي 3 آلاف من الجنود السود بدعوى أنهم قاموا بتدبير انقلاب ضده، وعلى الرغم من الإدانات العالمية الواسعة فقد قام النظام بالإفراج عن المتهمين في هذه المذبحة، وظل ينفي الواقعة بشكل رسمي، ثم خضع فجأة وكما هي العادة للضغوط وقرر محاسبة المتهمين ودفع التعويضات لأسر الضحايا.وبالقطع ليس كل السود الموجودين في موريتانيا من بقايا العبودية، فالهجرة والتفاعل عبر نهر السنغال هي التي أنشأت هذا التفاعل بين السودان والبيضان، ويقول الكاتب أحمد ولد اباه: «إن الديمقراطية هي التي ستحل هذه المشكلة، وهي التي ستقيم حوارا بناء بين الطرفين، نستطيع من خلاله أن نشعر جميعا بالمساواة، حتى الحراطون - وهم أبناء الأرقاء السابقون - سوف يجدون لهم مكانا في ظل النظام الديمقراطي» وهو رأي صحيح في أغلب الأحوال، ولكن أين هي الديمقراطية؟!.

 

 

محمد المنسي قنديل 




صورة الغلاف





 





المسجد الكبير يتوسط مدينة نواكشوط إعلانا عن هويتها الإسلامية التي تجمع أعراقا مختلفة من عرب وبربر وأفارقة





أول اجتماع لمجلس الحكومة تحت الخيمة في موقع العاصمة نواكشوط عام 1957 لم تترك لنا فرنسا شيئا كما يقول أهل موريتانيا





في الوسط بجانب واحد من أطفال موريتانيا يقف الطيار أنطوان دي سانت اكسوبري الذي كان رحالة ومؤلفا فرنسيا شهيرا كتب أرض البشر والأمير الصغير عندما زار موريتانيا في احدى طائرات البريد عام 1926





البحر هو مصدر الثروة الحقيقي في موريتانيا فهي تملك أفضل الشواطئ للصيد في العالم بعد اليابان





الصلاة واجبة في كل مكان ما إن يؤذن للصلاة حتى يخر الجميع سجدا حتى في أماكن عملهم





الجرف القاري لموريتانيا مليء بالتيارات الدافئة التي تجذب أفضل أنواع الأسماك وتتنافس الأساطيل الأوربية على صيدها





أسواق موريتانيا عامرة بالحركة التجارية وأشهر تجارها هم النساء مع نصيب صغير للرجال





الوزيرة فاطمة بنت خاطري كانت تملك أحلاماً كثيرة لترقية المرأة ولكن الظروف السياسية لم تسعفها





على أطراف مدينة نواكشوط توجد الخيام. مزيج من العمارة الحديثة وبقايا العادات الصحراوية التي مازالت قائمة





مكتبات نواكشوط عامرة بكل أنواع الكتب وهذه المكتبة في سوق نواكشوط يتصدرها بيت من الشعر لشاعر موريتانيا الكبير أحمد ولد عبد القادر





أم كلثوم مصطفى إعلامية وصحفية وناشطة في مجال حقوق المرأة وترأس إحدى جمعيات المجتمع المدني





أطفال موريتانيا الذين كانوا يشاركون في سباق الهجن وقد عادوا لبلادهم وتلقوا تعويضات مناسبة





عزة بنت همام. نائبة في الجمعية العمومية ومؤسسة الحزب الجمهوري الاشتراكي





بعض أعضاء البرلمان الموريتاني للأطفال الذي يتكون من 42 طفلا ويهدف إلى تعويد الأطفال على ممارسة الديمقراطية





معلومة بنت الميداح. فنانة الشعب في موريتانيا ونائبة بالجمعية الوطنية ومن أشهر المطربات في المغرب العربي ولكن أوربا تعرفها أكثر





الموريتانيون من أصل إفريقي يعيشون مشكلة ويطالبون بمساواتهم في الوظائف والحقوق مع بقية العناصر وهم أشبه بقنبلة موقوته





الكاتب والمفكر الموريتاني سيدي ولد أباه





المركز التجاري الذي يحمل اسم «شنقيط» وهو الاسم القديم لهذه المنطقة ويطلق عليه سكان العاصمة «سوق النساء» لأن كل التاجرات فيه من النساء فقط





الارتداد عن الديمقراطية مشكلة حقيقية وخاصة للمرأة الموريتانية التي ظفرت في ظلها بالعديد من المزايا والحقوق، ولكنها كانت تجربة قصيرة كالحلم





سلسلة جديدة من المساكن لمحدودي الدخل في العاصمة نواكشوط التي لا تكف عن التوسع





منى بنت دنداني مطربة من جيل الشباب في موريتانيا أخذت الفن من أبيها. الفن هو أحد المهن التي تتوارث في موريتانيا





في مركز الترفيه النسوية واحدة من السيدات تقوم بتعلم فن الحياكة وتفصيل الملابس تدفع من دخلها