ملف العدد «العربي» مواقف وذكريات.. أحمد السقاف

ملف العدد «العربي» مواقف وذكريات.. أحمد السقاف

أحمد السقاف يتذكر
الجَرْي خَلف «الحلم الجميل»

صوت فريد في الشعر العربي، وشخصية متفردة في الحياة الثقافية المعاصرة. تجد بصماته واضحة كلما قلبت صفحات التاريخ الأدبي في الجزيرة العربية، مثلما نجد حضوره بهياً حين نتذكر رحلة «العربي» في يوبيلها الذهبي، خاصة وهو - أحمد السقاف - يضع بين أيدينا ذكرياته وأوراقه الخاصة وصوره النادرة.

ما كنت أجهل ضخامة المهمة لتلك السفرة التي بدأت في الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح السبت 14 / 12 / 1957 حين غادرت الطائرة مطار الكويت القديم في النزهة نحو البصرة، فبغداد، وقد حطت في مطار البصرة بعد نصف ساعة من الطيران، ولم تنتظر طويلاً، فقد استأنفت طيرانها نحو بغداد، ووضعت حقائبنا في فندق السندباد بشارع الرشيد في تمام الساعة الثانية بعد الظهر، وكانت إلى جانبي في تلك الرحلة الميمونة المثيرة أم أسامة تصحب معها أسامة الذي لم يتجاوز الثامنة، إنها ذكريات تثار على الورق مستعيدة ما يستحق الإعادة.

لقد خرج المشروع الضخم من الأفكار التي نوقشت في ذلك الأسبوع، واستبعدت فكرة المجلة الصغيرة المتواضعة التي أرادها الصحفي الضيف، فالكويت يجب أن تقدم للأشقاء في كل قطر من أقطارهم زاداً ثقافياً يختلف عمّا تقدمه النشرات والمجلات المحلية، وقد تجلت بوضوح حماسة الشاب العاشق لكل مشروع جليل، فكان لمشروع المجلة الضخمة خير نصير، وكان تكليفه إياي بهذه المهمة، وهو رئيس دائرة المطبوعات والنشر أعظم امتحان مر بحياتي دون ريب.

إنني مع استعادة الذكرى الشائقة لأحيي بكل أجلال وتقدير صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد الذي آمن بأهمية الثقافة في إيقاظ الشعوب وتحررها من الجهل والتخلف.

نعم، لقد رسم الطريق المؤدي إلى الهدف المنشود، فلنسر بخطى ثابتة نحوه، وما كدنا نستقر قليلاً في فندق السندباد حتى اتصلت ببعض مَن أعرف من الأساتذة اللامعين، ودعوتهم للاجتماع للحديث في شأن ثقافي مثير، وحددت لهم مساء اليوم التالي الاثنين 16 / 12 / 1957، وكان في طليعة مَن لبّى الدعوة الأستاذ الدكتور عبدالعزيز الدوري، والأستاذ الدكتور يوسف عزالدين، والدكتور باقر عبدالغني، والدكتور أحمد السامرائي، وكنت قد مررت في الصباح على فضيلة الشيخ محمد بهجة الأثري رئيس مفتشي اللغة العربية في مكتبه بديوان الوزارة، ودار حديث مسهب حول المشروع الثقافي الذي أحمل. واستقبل الأخوة الكرام خبر المجلة بدهشة وفرح كبيرين، وكانوا يرددون «الله يوفق كل عمل يراد به يقظة العرب، فقد طال الانتظار لمثل هذه المشاريع».

بغداد - بيروت القاهرة

في صباح يوم الثلاثاء 17 / 12 / 1957، غادرنا بغداد، بلد الرشيد ومنارة المجد التليد، كما قال أخونا علي الجارم - رحمه الله، غادرناها بعد أن صار لمشروع المجلة الثقافية الضخمة حديث يتناقله الناس كل يوم، وما هي إلا ساعة ونصف الساعة حتى بلغنا مطار بيروت الدولي، وانتقلنا إلى فندق على البحر مريح، واتصلت ببعض الأصدقاء وكان منهم الدكتور نقولا زيادة والدكتور محمود زايد، أما يوم الأربعاء، فقد كان حافلاً بالاجتماعات المفيدة وجلها من نصيب أساتذة الجامعة الأمريكية، ولاسيما الاجتماع الذي عقد بيني وبين نائب رئيس الجامعة الأمريكية الأستاذ فؤاد صروف - رحمه الله - في الثامنة والنصف من صباح الخميس حتى الساعة الحادية عشرة والنصف، ولا ننسى أن الأخوين يعقوب صروف وفؤاد صروف، قد اقتحما ميدان الصحافة العلمية، فأصدرا في العشرينيات من القرن الماضي مجلة المقتطف في القاهرة، فكانت بغية المثقفين في تلك الفترة.

وبعد الاجتماعات الكثيرة، اتضح لي أن العقبة التي تكمن في طريق هذه المجلة هي الاختلاف بين العيش في المدن الكبيرة كبيروت والقاهرة، والعيش في مدينة كالكويت في تلك الفترة، واشتد عندي التحدي، فهذا مشروع له جاذبية هائلة تستأهل الاستهانة بجميع المعوقات، كيف لا وهو إصدار مجلة ثقافية ضخمة ستهدى كل شهر إلى جميع أبناء العروبة، وكنت واثقاً كل الثقة من أن الضالة المفقودة المنشودة ستتحقق، فقررت زيارة دمشق وقصدناها صباح الإثنين 23 / 12 / 57، ومن الفندق بدأت بعميد كلية الآداب الأستاذ شفيق جبري، واتفقت معه على الاجتماع صباح الثلاثاء، ثم اتصلت بالدكتور أمجد الطرابلسي وحدد الموعد على ضوء الارتباطات السابقة، وكذلك فعل الأستاذ علي طنطاوي الذي رأى أن يعقد الاجتماع بيني وبينه في محكمة التمييز العليا، وفي مساء الثلاثاء اجتمعت بالأستاذ سعيد الأفغاني لاستجلاء رأيه في شأن طبع بعض المخطوطات القيمة، وهو الخبير في هذا، وفي صباح الأربعاء 25 / 12 عدنا إلى بيروت، وحجزنا للسفر إلى القاهرة صباح الأحد 29 / 12 / 1957.

وقد شاءت المصادفة أن يكون قدومنا إلى القاهرة مقترناً بأعياد الميلاد، وفيها يشغل الناس بهذه المناسبة، ومع ذلك فقد وجدنا في المطار مَن ينتظرنا، إنه السيد سعيد شقيق أم أسامة، الطالب في إحدى الكليات بالقاهرة، فركبنا معه السيارة وانطلق بنا إلى الزمالك حيث يسكن. وفي صباح الإثنين 30 / 12 / 1957، تحدثت هاتفياً إلى الدكتور أحمد زكي وحددنا موعد اللقاء بالسادسة من مساء الثلاثاء 31 / 12 / 1957، وفي الموعد المحدد، عقدنا الاجتماع، وذُهل الدكتور أحمد زكي حين سمع كلاماً ملؤه الثقة والتصميم حول المجلة المطلوبة.

وقال بدهشة واستغراب: أنا أنتقل إلى الكويت من أجل رئاسة تحرير مجلة؟ وكان ردّي: نعم، إن هذه المجلة ستضيف إلى أمجادك السابقة مجداً جديداً ولن تنتقص مكانتك بالانتقال إلى الكويت المستيقظة حديثًا، فالمرء بما يصنع، وأنت ستساهم في عمل جليل تشتد حاجة العروبة إليه يومًا بعد يوم، فلجأ إلى ذكر ارتباطاته القوية في القاهرة كالمحاضرات في نادي الضباط عن الفضاء الخارجي والصواريخ والمركبات الفضائية وغير ذلك من الشئون، وللنظر في الأطروحات العلمية للمتخصصين في الجامعات.

كما أن ارتباطه بمعهد البحوث ارتباط وثيق. فقلت: أنت للعمل الجديد الذي اختارك، ففقع ضاحكاً، وقال: دعني أفكر بضعة دقائق، وكان ردي إني في انتظار الهاتف.

ولم تذهب سُدى تلك الأيام التي طلبها الدكتور أحمد زكي للتفكير في أمر الانتقال إلى الكويت لرئاسة تحرير المجلة، فلقد اغتنمت الفرصة فزرت معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، وأبرمت اتفاقاً مع مديره الدكتور صلاح الدين المنجد، فطبع بموجبه ما يستحق الطباعة من تلك المخطوطات الثمينة، ثم إني التفت نحو اختيار الفنيين، ولما اكتمل العدد، واتصل بي الدكتور أحمد زكي - رحمه الله - للاجتماع، حضر الذين نالوا الترشيح للعمل في الكويت، ومنهم سليم زبال وأوسكار متري البارزان في دار أخبار اليوم، فسرّ بهما الدكتور كثيراً، وفي هذا الأسبوع، سنحت لي الفرصة لأزور أكثر من عشر مطابع ضخمة في القاهرة مع زيارة لبعض الصحف والتحدث مع رؤساء التحرير، وفي زيارتي لجريدة القاهرة تم التفاهم بيني وبين الأستاذ عبدالوارث كبير، ليكون مدير تحرير المجلة، وفي صباح الأحد 19 / 1 / 58، قصدنا المطار للعودة إلى لبنان ثم الكويت، فلقد أنجزت المهمة على خير ما يرام، ووعدوا جميعهم بالقدوم إلى الكويت في أقرب وقت ممكن، وكان السبق في القدوم إلى الكويت للدكتور أحمد زكي وسليم وأوسكار.

وشاء الحظ الباسم أن يقام معرض عالمي لآلات الطباعة في مدينة دسيلدروف الألمانية مطلع شهر مايو 1958 ووصلت دعوة من إدارة المعرض إلى المطبعة، وعرضت على رئيس دائرة المطبوعات والنشر، فأمر بتكليف أحمد السقاف حضور هذا المعرض على أن يرافقه خبير المطبعة بيبوس، ولم يكن هذا الرئيس غير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الذي أصبح اليوم أمير البلاد - حفظه الله.

البحث عن مطبعة

وفي الأول من مايو 1958 غادرنا من مطار النزهة القديم إلى مطار بيروت، وكنا ثلاثة، خبير المطبعة الألماني بيوبر وزوجته وأنا، ونمنا ليلة بفندق جميل مريح على البحر، وفي الصباح شددنا الأحزمة في الطائرة الألمانية لوفتهانزا، متوجهين نحو ميونيخ، وبعد بضع ساعات بلغناها، ولا حاجة للاسترسال مادام الموضوع الذي نحن بصدده هو مجلة العربي وليس موضوع المطبعة، فلندع معرض ديسيلدورف إلى الحديث عن المطبعة في مناسبة تخص الطباعة، مع العلم أن المطبعة قد حظيت من هذا المعرض العالمي بأحدث الماكينات وأقواها وأقدرها على طبع مجلة علمية أدبية ثقافية شاملة ذات حجم كبير وبالألوان الجذابة. وصدر العدد الأول من مجلة العربي في ديسمبر من عام 1958 كما أرادت له الطباعة الحديثة أن يصدر، وتوّجت الطبعة بتعيين الشباب الذين تدربوا تدريباً ممتازاً رؤساء للأقسام، وتولى إدارتها، اثنان منهم لاقى تعيينهما ترحيباً من جميع العاملين في المطبعة، لما عرف عنهما من جد وحزم وانضباط، ثم قدم الباقون تباعاً، واكتمل العدد في نهاية الصيف. وألقى رئيس التحرير نظرة على الموجود من وسائل الطبع، ورأى أن الماكينات الصغيرة وعددها ثمان لا تصلح لطباعة «العربي»، فهذه الماكينات لطباعة الجريدة الرسمية وطباعة القرطاسية اللازمة لبعض إدارات الحكومة، كما أن مصنع الزنكوغراف يحتاج إلى تطوير كبير. ومن حسن الحظ أن يتقدم للعمل في الزنكوغراف بضعة نفر من الألمان بتشجيع خبير المطبعة «بيبوس» الذي ألم بجميع فنون الطباعة حين أقام بلبنان بضع سنوات. ولم يبق من المعوقات غير ماكينات الطبع الكبيرة، وهي الأهم، وأشياء أخرى لا يحتاج جلبها إلى جهد كبير.
-----------------------------------------
صورة تذكارية
في مكتب الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي يوم صدور العدد الأول من هذه المجلة الرائعة ديسمبر 1958.
ويشاهد في الصف الأول جلوساً من اليمين: فضيلة الشيخ ابن عاشور مفتي الديار التونسية، فالأستاذ أحمد السقاف نائب مدير دائرة المطبوعات والنشر، فسعادة سفير المملكة المغربية ببغداد، فالأستاذ محمود شوقي الأيوبي الموظف بإدارة المعارف، فضيف عراقي من الوفد العراقي المشارك في مؤتمر الأدباء العرب بالكويت. ويرى الدكتور أحمد زكي واقفاً في أول الصف الثاني وبجانبه ضيف عراقي، فموظف من موظفي المجلة، فالأستاذ المرحوم أحمد القصاب من موظفي الإدارة، فالأستاذ محمد مزالي المدرس في المدارس الثانوية التونسية ثم وزير الثقافة فرئيس للوزراء.

 

 





في ديسمبر من عام 1962، سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح (وزير الإرشاد والأنباء آنذاك) ووكيل الوزارة أحمد السقاف يتجاذبان أطراف الحديث حول شئون الوزارة





في مكتب الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي يوم صدور العدد الأول من هذه المجلة الرائعة ديسمبر 1958





صورة من التقرير الذي قدمه أحمد السقاف إلى «حضرة صاحب السعادة رئيس دائرة المطبوعات والنشر الأفخم» حول اختيار رئيس تحرير «العربي»، مؤرخاً في 25 يناير 1958م