ملف العدد.. العربي ترسم «خارطة طريق» لتجديد الفكر القومي

ملف العدد.. العربي ترسم «خارطة طريق» لتجديد الفكر القومي

في الذكرى الخمسين لتأسيسها، استحقت مجلة العربي دراسات رصينة تحيي صمود هذه الظاهرة الثقافية العابرة لجميع الدول العربية، متجاوزة الحدود ومؤسسات الرقابة.

ترتكز هذه الدراسة حول نقطتين أساسيتين:

الأولى: التأثير الثقافي لهذه المجلة العربية التي ما زالت تلقى الترحيب في كل بيت عربي، ويحتفظ بعض قرائها بأعدادها كاملة.

الثانية: مدى الحاجة الملحة إلى أكثر من مجلة، ومؤسسة ثقافية، ووسيلة إعلام، واتحادات مهنية ذات طابع قومي عربي شمولي. بالمقابل، فتحت بعض المحطات التلفزيونية العربية أخيراً حوارات ساخنة من المغرب العربي، كما عقدت مؤتمرات ثقافية مهمة حول واقع العلاقات بين مشرق العرب ومغربهم. وقد ضمت تلك الحوارات مثقفين وطلبة وإعلاميين ،وأتيحت لي الفرصة للمشاركة الشخصية في بعضها. وكان لافتا للانتباه تركيز بعض المثقفين المغاربة حول مقولة «المركزية المشرقية» تجاه عرب المغرب. وتم توصيفها بكثير من التفصيل كما لو كانت شبيهة بالمركزية الثقافية الأوربية. وبلغ ذلك التوصيف أقصى مداه حين اعترض بعض المثقفين على تسمية «المغرب العربي» لأنها - برأيهم - «غير علمية ولا تقدم توصيفا سليما لواقع الشعب المغربي».

وغالبا ما توضع الأمازيغية في مواجهة العروبة.

أشير أيضاً إلى نماذج أخرى من حوار ساخن دار في مؤتمر «تجديد الفكر القومي والمصير العربي» الذي عقد في دمشق في الفترة ما بين 15 - 19 أبريل 2008 وحضرته نخبة متميزة من المثقفين العرب. وقد تمحور النقاش حول مدى قدرة الفكر القومي العرب على التجدد بعد موجة من الهزائم والإحباط التي حلت بكثير من التيارات القومية العربية، ومؤسساتها، وأساليب عملها.

وذلك يطرح أسئلة منهجية حول ضرورة تجديد الحوار في هذا الجانب البالغ الأهمية، وحشد أكبر عدد من المثقفين العرب ،وتنشيط المؤسسات الثقافية ذات الطابع العربي، بحثا عن صيغ عقلانية وديمقراطية سليمة للتواصل بين مختلف الدول العربية وشعوبها.فقد تغيرت أوضاع العرب في الشكل أكثر منها في المضمون.وفي حين كان العرب في مطلع القرن العشرين موزعين ضمن ولايات مفككة وتابعة لحكم عثماني ضعيف أو للاستعمار الأوربي المباشر، فإن النظام الإقليمي العربي اليوم يعيش حالة من الضعف الشديد تهدد بانهيار أكثر من دولة عربية تحت وطأة تفكك بناها الداخلية وحدة الضغوط الخارجية. لكن الشعوب العربية ما زالت شديدة التمسك بمقولة التاريخ الحافز لأمة عربية لعبت دورا بارزا ومعترفا به في التاريخ العالمي،وكانت لها إسهامات كبيرة في تراث الحضارة الإنسانية الكونية.

مشروع القومية والعولمة

تحتل الدول العربية موقعاً استراتيجياً مهماً بين القارات الثلاث أوربا وآسيا وإفريقيا. وهي تختزن في باطنها موارد طبيعية بالغة الغنى،ولديها احتياطي كبير من النفط والغاز يعد الأول في العالم، ولديها موارد كبيرة من المعادن. وتشكل مدنها أسواقاً كبيرة لتصريف السلع الأوربية ولتوظيف قسم كبير من فائض رساميلها في عمليات تجارية مربحة. فتعرضت لغزو أوربي استعماري منذ مطلع القرن التاسع عشر أدى إلى سقوطها تباعا تحت السيطرة الأوربية، بأشكال متعددة من الاحتلال والحماية والوصاية والانتداب.

وفي حين تشكلت الدول الحديثة في القارة الأوربية على أساس مكوناتها القومية، التي تبنت نمط إنتاج رأسمالياً ليبرالياً في المجال الاقتصادي، وديموقراطية علمانية في المجال السياسي، تعرضت المنطقة العربية إلى هجوم استعماري أوربي مكثف أدى إلى تفكيكها وإفشال النهضة العربية الأولى بعد هزيمة رائدها محمد علي باشا وانكفائه إلى داخل حدود مصر، لتحكمها أسرته بالوراثة. الآن، وبعد قرنين من فشل تلك النهضة العربية مازالت أسئلتها الكبرى عرضة للنقاش المتجدد في كثير من المؤتمرات العربية. وهي تتناول القضايا القومية الكبرى التي تطول غالبية الشعوب العربية وتتفرع منها قضايا محلية تنبع من خصوصيات كل دولة عربية.وقد طرحت أسئلة النهضة والتجديد القومي ومسألة التوحيد القومي في ظل قيادة سياسية متنورة، وعجز العرب عن بناء حداثة سليمة،ومأزق التنمية القطرية كبديل للتنمية العربية المستدامة، وغياب الحرية والممارسة الديموقرطية، ومشكلة العصبيات القبلية والعرقية والطائفية والمذهبية،وتحدي المشروع الاستيطاني الصهيوني، وتبديد مداخيل النفط والغاز وباقي الموارد الطبيعية في الوطن العربي في بناء مجتمع استهلاكي دون توظيف نسبة كبيرة في دعم وتطوير قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج في الوطن العربي.

حضرت هذه الموضوعات بقوة في مؤتمرات تجديد الفكر القومي التي عقدت بكثافة خلال العقدين المنصرمين. وشاركت فيها نخب متميزة من المثقفين العرب الذين قدموا أبحاثاً أثارت نقاشات سجالية. فالمرحلة الراهنة مليئة بالإحباط المنتشر بكثافة في أوساط المثقفين العرب، داخل دولهم وفي بلاد الاغتراب. لكن المؤتمرات الأخيرة تشهد توجها جديداً في طرح القضايا العربية بكثير من الجرأة والموضوعية، مع هاجس البحث عن الحلول العقلانية لها. وهذا ما قام به المفكر القومي البارز قسطنطين زريق في آخر كتبه:

«ما العمل؟».واللافت للانتباه الدعوة الملحة لحضور عنصرين أساسيين من عناصر التجديد القومي هما: مشاركة المرأة في تقديم الأبحاث والنقاش معا، والإصرار على جيل الشباب من القوميين العرب الذين يشكلون القاعدة البشرية لتجديد الفكر القومي ومعه المشروع النهضوي العربي.

ليس من شك في أن الوقت قد حان لرواد الفكر القومي القدامى لكي يسلموا الراية إلى نخب قومية جديدة. وتجديد الفكر القومي يحتاج إلى بناء مؤسسات ثقافية قومية قادرة على جمع شمل الشباب العربي في إطار مشروع قومي جديد، بمقولات جديدة، وبأساليب نضالية جديدة تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة. ومن أول واجبات الجيل القومي الجديد القيام بدراسات نقدية لمسار قرن من الشعارات الطنانة التي أعاقت العمل العربي المشترك وانتهت بتجدد كل أشكال العصبيات المحلية التي تمنع تجديد الفكر القومي العربي. وهي مسألة حيوية ما زالت تحتل حيزاً واسعاً في كتابات المفكرين العرب ، فالإنسان الحر هو حجر الزاوية في بناء التاريخ الإنساني.

وقد بشر الفكر القومي العربي بقيادات متنورة تؤمن بأن الناس يولدون أحراراً، وأن مصادرة الحرية أو الحد منها يشكل تعدياً على كرامة الإنسان، وجعل النهضويون العرب النضال من أجل حرية المواطن في أعلى مراتب النضال.ألم يخاطب الرئيس جمال عبد الناصر الإنسان العربي المسحوق قائلا: «ارفع رأسك يا أخي فإن عهد الذل قد فات؟». فالقمع، والكبت، ومصادرة الحريات، والإذلال وغيرها قضايا مصيرية كانت وراء استعادة السؤال النهضوي الأهم: «لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم ؟».

يضاف إلى ذلك أن النهضويين العرب لم يدرسوا بشكل معمق تجارب الشعوب الأخرى التي نجحت في نقل مجتمعاتها، وبسرعة قياسية كاليابان والصين ودول النمور الآسيوية، من التخلف المريع إلى التطور العلمي والتقني والاقتصادي والاجتماعي.

التفكك العربي

نخلص إلى القول إن العرب دخلوا القرن الحادي والعشرين وهم في حالة من التفكك المقلق الذي يهدد حاضر شعوبهم ومستقبلها، بالإضافة إلى ماضيها الذهبي.

وما زال سؤال الهوية القومية حيا في نفوس العرب أكثر من باقي شعوب العالم. ويعتبر منظرو عصر العولمة أن الإحساس المفرط بالهوية القومية يشكل عائقا أمام تحول العالم إلى وحدة كونية تعمل عليها يوميا وسائل الإعلام الغربية المتطورة.

وهم يؤكدون على أن التاريخ الكوني أصبح حقيقة راهنة،كما أن فرص اندلاع حروب عالمية باتت شبه معدومة لأنها تقود إلى تدمير الجنس البشري بكامله.

لكن الهوية الكونية، وفق منظري عصر العولمة، هي المدخل الطبيعي للتاريخ الكوني الجديد،وشرطها الأساسي أن تتجاوز جميع القوميات المشاعر التقليدية كالهوية القومية،الاستقلال، والسيادة الوطنية، وغيرها. إلا أن الدول التي أنجزت وحدتها القومية هي الوحيدة التي تستطيع الانخراط في النظام العالمي الجديد من موقع المشاركة في تحديد معالمه الأساسية كما فعل الأوربيون والصينيون واليابانيون وغيرهم. أما الدول التي لم تنجز وحدتها القومية ، وفي طليعتها العرب،فلا تزال أسيرة إحساس قوي بعصبيتها القومية. وهي تشعر بالخوف من التبعية والاستلاب للقوى المهيمنة على النظام العالمي الجديد.

ولدى العرب رغبة قوية في بناء دولة عربية واحدة انطلاقا من إيمان راسخ بوحدة اللغة والدين والثقافة والتاريخ والحضارة وإرادة العيش المشترك، تضاف إلى ذلك التحديات الكبرى التي يواجهها العرب في جميع دولهم وفي طليعتها المشروع الاستيطاني الصهيوني، وفشل مشاريع التنمية القطرية، والخوف على الاستقلال والسيادة الوطنية في عصر تكتلات جغراسية عملاقة، ومشروع نظام شرق - أوسطي يجعل إسرائيل أقوى دولة في المنطقة، تحيط بها دول عربية عاجزة عن المجابهة والتنمية معاً.

إن عرب اليوم بأمس الحاجة لبناء كتلة من الدولة القومية العربية لمواجهة عصر العولمة والشركات المالية والاقتصادية الاحتكارية العملاقة التي باتت السمة البارزة للقرن الحادي والعشرين. لكن تجديد المشروع القومي يتطلب أعلى درجات التخطيط الطويل الأمد والمقرون بتضحيات كبيرة لمواجهة مشكلات تنامي الأمية،والفقر،والبطالة، والمجاعة، والتصحر وغيرها في الوطن العربي. إذ أكد معظم الاقتصاديين العرب أن مشاريع التنمية في كل قطر عربي على حدة قادت إلى طريق مسدود دون أن تؤدي إلى تحقيق تنمية عربية شاملة . واعتقد منظرو التنمية الوطنية أن مشاريع التكامل الاقتصادي والتنمية الشمولية بين جميع الدول العربية تأتي تتويجا للجهود المشتركة بين هذه الدول بعد إرساء البنى التحتية العصرية فيها، وتأهيل الكوادر البشرية للارتقاء بالتنمية القطرية من الآفاق المحدودة إلى التنمية القومية الشمولية ذات القدرة على مجابهة التحديات الإقليمية والدولية في عصر التكتلات المالية والاقتصادية التسلطية العملاقة.

إن توصيف السمات الأساسية للحركة النهضوية العربية القادمة بأنها حركة شعبية ذات أبعاد شمولية لتجاوز الموروث السلبي للمرحلتين العثمانية والأوربية، والاستفادة من إيجابيات مرحلة الاستقلال والسيادة الوطنية، والتأسيس عليها لمواجهة تحديات عصر العولمة بقيادة أمريكية. ولعل أخطر ما يواجه العرب في المرحلة الراهنة أن مشكلات النهضة الأولى بقيت دون حل بسب كثافة الحضور الاستعماري الأجنبي على الأراضي العربية،قبل الاستقلال وبعده.وما زالت أسئلة الحرية، والسيادة الوطنية،والوحدة القومية، والتنمية الشمولية، وغيرها مطروحة بحدة وبات الاستقلال السياسي لجميع الدول العربية الآن مهددا أكثر من أي وقت مضى بسبب تفكك النظام الإقليمي العربي، وغياب التضامن بين أركانه على المستويين الإقليمي والدولي.

والحدود الإقليمية للدول العربية القائمة الآن غير مستقرة .كما أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يضع الوطن العربي أمام تحديات خطيرة جداً قد تقود إلى تبدلات جذرية في جغرافية العرب وحدود دولهم القائمة. وبما أن عصر العولمة هو عصر التكتلات الضخمة في جميع المجالات، فعبثا تحاول الدول الصغيرة الحفاظ على التنمية المستدامة ما لم تدخل في وحدات إقليمية كبيرة قادرة على مواجهة تحديات العولمة.

الطائفية والعصبيات

يواجه المشروع القومي العربي تحديات داخلية وإقليمية ودولية لا حصر لها في المرحلة الراهنة. ومنها تحديات موروثة منذ قرون طويلة كالمسألة الطائفية في لبنان والتي تفجرت منذ أواسط القرن التاسع عشر دون أن تلقى حلولا جذرية . فكانت تعود إلى الانفجار بصورة دورية حتى باتت اليوم تهدد الدولة والمجتمع في لبنان، ولها انعكاسات خطيرة على المستوى القومي العربي، بسبب تداخلها مع النزاعات الإقليمية والدولية المتفاقمة في عصر العولمة.

والأمة العربية هي من الأمم الحية التي ما زالت تتعرض لتحديات داخلية أبرزها العصبيات القبلية والطائفية والزعامة الفردية من جهة، والمشروع الاستيطاني الصهيوني وعودة الاستعمار الجديد من بوابة الاحتلال الأمريكي للعراق من جهة أخرى. ولا تستقيم الرؤية النقدية للفكر القومي العربي في مواجهة الفكر الطائفي، في لبنان وغيره، دون تصويب مسار الفكر القومي باتجاه تبني العلمانية بشكل واضح ليصبح قادراً على تجديد النهضة العربية على أسس جديدة تتلاءم مع طبيعة المواجهة لتحديات عصر العولمة. وقد شكل التحدي الصهيوني المتحالف مع القوى الإمبريالية، القديمة منها والحديثة، المعوق الأكبر للمشروع القومي العربي منذ انطلاقته حتى الآن.

فمن حق العرب، لا بل من واجبهم القومي بناء دولتهم القومية القادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية معا. وفي هذا الإطار يشكل صعود العصبيات القبلية والطائفية والعرقية وغيرها معوقات أساسية أمام تجدد المشروع النهضوي العربي . وهو يؤكد على تراجع دور الفكر القومي العربي في إنجاز المهمات الأساسية التي رفعها المتنورون العرب منذ بداية عصر النهضة ولم تنجح في بناء الدولة القومية الحديثة. كما أن هناك علاقة تناقضية بين صعود الفكر الطائفي وتراجع الفكر القومي العربي على ضوء التطور التاريخي لهاتين المسألتين. فقد شهد تاريخ المشرق العربي مراحل خطرة من العلاقة التناقضية بين المشروع القومي وصعود العصبيات المحلية. وأبرز تجلياتها المسألة الطائفية في لبنان،وما يجري من تشبه بها في العراق.

فقد عرف لبنان مرحلة الطائفية المستقرة في إطار نظام الملل العثماني حين كانت السلطنة أقوى دولة في العالم طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر وحتى أواسط الثامن عشر. ثم مرحلة الطائفية المتفجرة في إطار المشروع الاستعماري الأوربي للسيطرة على السلطنة العثمانية واقتسام ولاياتها. وقد بدأت تلك المرحلة بحملة نابوليون بونابرت على مصر في السنوات الأخيرة للقرن الثامن عشر وانتهت بسقوط السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى بعد أن عرفت باسم رجل أوربا المريض الذي لا أمل بشفائه. وأخيرا مرحلة الطائفية المدمرة التي تلعب اليوم الدور الأساسي في تفجير الدولة اللبنانية من الداخل.ويعيش المجتمع اللبناني اليوم بكامل طوائفه ومناطقه وطبقاته الاجتماعية،ازدواجية الانتماء السياسي بين الطائفية والوطنية. ويتجدد الوعي الطائفي الموروث من خلال النشاطات التي تقوم بها مؤسسات المجتمع الأهلي، يكتسب الانتماء الطائفي حضورا قويا في غياب الدولة الوطنية الجامعة. «فيجبر اللبناني على أن يولد، ويعيش، ويتزوج،ويموت طائفيا» حسب تعبير الدكتور ادمون رباط.

أما الانتماء الوطني أو القومي فيبنى على الوعي أو بالخيار الذاتي الحر. حيث ينتسب الإنسان إلى نقابة تضمن مصالحه كنقابة الأطباء، أو المهندسين، أو أساتذة الجامعة . فهو ينتمي إلى حزب سياسي يرفع من وعيه الطائفي الموروث إلى الوعي الوطني أو القومي.وهو بحاجة إلى تعزيز مؤسسات المجتمع المدني. وشرطها، لكي تنجح ، أن تعمل ضمن دولة عصرية توازن بين الانتماء الموروث والانتماء إلى متطلبات الحداثة والمعاصرة.

صحيح أن الشعور بالانتماء القومي قديم جدا عند العرب، لكن مشروع بناء الدولة القومية العربية حديث العهد وقد تزامن طرحه مع قيام الدولة القومية في أوربا. وكان الهدف منه تجاوز جميع الانتماءات الموروثة كالطائفية والمذهبية والقبلية والعائلية والعرقية السابقة على ولادة الدولة الوطنية، والارتقاء بها إلى الولاء الوطني أولا ومن ثم إلى الولاء القومي العربي الشمولي. وهناك رواد قوميون كبار في هذا المجال لعبت أعمالهم الفكرية دوراً بارزاً في تنمية الشعور القومي المشترك. وأبرزهم عبد الرحمن الكواكبي، وساطع الحصري، وشكيب أرسلان، وعبدالله العلايلي الذي رسم ملامح «دستور العرب القومي»، وقسطنطين زريق الذي رسم خارطة الطريق العمل القومي المشترك في كتابه الأخير: «ما العمل ؟»، وعبد العزيز الدوري الذي كتب أفضل دراسة شمولية حول «التكوين التاريخي للأمة العربية»، وكثير غيرهم.

تجديد الفكر العربي

شهد الفكر العربي في القرن العشرين مرحلة من النهوض الوطني والقومي الذي تجلى بنضال العرب للتخلص من الحكم العثماني ثم من كل أشكل الاحتلال والوصاية والحماية الغربية، فتحقق الاستقلال السياسي لجميع الدول العربية بفعل التضامن العربي والمساندة الدولية باستثناء فلسطين. ورافقت الشعوب العربية، بحماس كبير،جميع حركات التحرر القومي في الوطن العربي والعالم وساندوها بقوة، ودعموا القضية الفلسطينية بكل ما لديهم من إمكانات، وقاتلوا ضد المشروع الاستيطاني الصهيوني، ورفضوا توطين الفلسطينيين في دول الشتات. وساندوا ثورات الجزائر، والفيتنام، وحركات التحرر في مختلف دول العالم.

بالمقابل، ومنذ إعلان وعد بلفور الذي تجسد لاحقا بقيام دولة إسرائيل عام 1948، لم يتمكن القادة العرب من إيجاد صيغة عملية لتنظيم طاقات الشعوب العربية في مواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني الزاحف بين الفرات والنيل، والمدعوم من الولايات المتحدة وغالبية دول العالم. فاكتفوا بإطلاق مؤسسات قومية غير فاعلة، وأبرزها جامعة الدول العربية التي جمعت كل سلبيات النظام الإقليمي العربي. وامتلأت الساحة العربية بشعارات جميلة لكنها لم تنفذ، منها: نفط العرب للعرب، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وفلسطين رأس الحربة في النضال العربي المشترك، وكثير غيرها. وخاضت الدول العربية بصورة موحدة جزئياً في بعض الأحيان ومفككة في غالب الأحيان، حروباً متلاحقة ضد إسرائيل إلى أن أصيب المشروع القومي العربي بضربة أليمة عام 1967، أعادت تفكيك العرب وانتعاش الانقسامات السابقة على قيام الدولة الوطنية ومنها الطائفية، والقبلية،والمذهبية، والعرقية.

قد تكون لدى حكماء العرب القدرة على منع تجدد الحرب وتهدئة صعود العصبيات المحلية، لكن ذلك لم يعد كافيا. فالنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية تهز بشدة ركائز غالبية الدول العربية وجامعتها وقممها التي باتت عاجزة عن تقديم حلول عقلانية للمشكلات المتفاقمة في العراق وفلسطين ولبنان والسودان وغيرها.

لقد بات الفكر الطائفي والقبلي أداة مجربة لتفجير عدد من الدول العربية، وتم اختباره في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي. وبات الفكر القومي العربي أمام خيارات جذرية تتطلب حلولا عقلانية تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة وتحدياتها. فتجاوز العصبيات العرقية والقبلية والمذهبية والسياسية التي تجتاح الدول العربية في المرحلة الراهنة يتطلب مقولات نظرية جديدة يستنبطها منظرو الفكر القومي العربي وتصلح كركائز صلبة لبناء الدولة الوطنية أو الوحدة القومية العربية القادرة على مواجهة تحديات عصر العولمة الديمقراطية الحقيقية وليس الشكلية على المستوى السياسي، والليبرالية المراقبة على المستوى الاقتصادي، وبناء دولة عصرية قادرة على إدارة مجتمع متعدد الطوائف والعصبيات، يتساوى فيها المواطنون بمعزل عن انتماءاتهم الموروثة. على أن يقيم نظامها السياسي التوازن الإيجابي بين القيم الإنسانية للتراث العربي من جهة، والحكم الصالح ، ودولة العدالة الاجتماعية، والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة، من جهة أخرى.

ختاما، تطرح اليوم تساؤلات منهجية كثيرة حول المقولات الثقافية للنهضة الجديدة، ومدى قدرة النخب السياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية العربية على توظيف الطاقات البشرية والموارد الطبيعية العربية في بناء حداثة سليمة تفضي إلى إطلاق مشروع نهضوي حقيقي يعطي العرب فرصة تاريخية للمشاركة في النظام العالمي الجديد من موقع الفاعل وليس المتلقي . وليس من شك في أن المادة الثقافية التي نشرت على صفحات «مجلة العربي» تقدم خارطة طريق ناجحة ومجربة لبناء تواصل حقيقي بين الشعوب العربية، وفي جميع دولها.

 

 

مسعود ضاهر




العدد 183 من العربي - فبراير 1974





العدد 163 من العربي - يونيو 1972





العدد 57 من العربي - أغسطس 1963





العدد 80 من العربي يوليو 1965





العدد 92 من العربي يوليو 1966