حسن سليمان.. أسطورة الضوء والظل

حسن سليمان.. أسطورة الضوء والظل

مثلما عاش في صمت بعيدا عن آلة الإعلام وجماعات النقد، وبريق الأضواء، التي نأى عنها جميعا، بمحض إرادته، يقينا في قيمة الفرد والفن، رحل الفنان التشكيلي المصري الرائد حسن سليمان (1928 - 2008) قبل شهرين، في صمت، بعد ثمانين عاما من الحياة الحافلة بالتجارب الفنية العظيمة، وبالخبرات الحياتية التي عمقت مسيرته الفنية، واثرت في أجيال عديدة لاحقة. حسن سليمان الذي ابى أن يضع فنَّهُ أداة في يد الدعاية الإعلامية أيا كانت، ونفى نفسه إلى الظل، مستظلا بفنه، قرر أن يصنع أسطورته الخاصة، وبينها فكرته الفريدة عن الضوء والظل، وتجويد اللوحة برسم المشهد نفسه مرات، لاكتشاف الإمكانات التي تحققها كل لوحة بصريا ووجدانيا. و«العربي» إذ تنعي الفنان الراحل الكبير فإنها تتمنى أن تقدم بهذا الملف باقة ورد لروحه، وأن تمنح للأجيال الجديدة شعاع ضوء إلى طريق فنان كبير، سيظل أثره باقيا ما بقي الفن.

حسن سليمان.. المعنى.. في قلب الفنان

لم يكن قد تجاوز العشرين عاماً، يجري مرحاً على الدرجات المؤدية إلى درب اللبانة، حيث كان مرسمه، كان يسميها درجات الحياة، يبتسم، يركل الحجارة ويطاردها، في ذلك الوقت، كان يؤمن أن الفنان أو الشاعر، يجب أن يعيش ويسعى على أحلامه، وأن امتلاك الأحلام لا يحتاج إلى شيء، وأنه هو ورفاقه سيغيرون العالم والمجتمع والحياة والفن، كان يحلم دائماً بوجه امرأة يغسله الضوء، وجه مسطح جميل بلا أغوار، فوقه شمس قوية شرسة.

في ذلك الحين، كان يملك المقدرة على تحويل كل شيء، حتى الحب الفاشل إلى حلم بسيط جميل يسعد به، فقد كان يظن أنه يملك غده، ويثق في كل فجر آت.

والآن هو بلا آمال، يحن هذه الليلة للذهاب إلى المقهى ليقضي الوقت يتنافش ويعبث بكوب بين أصابعه، ومثل هذه الرغبة، كانت تعتريه وهو صغير، أوشك على إتمام لوحة، لكنه اليوم بدلاً من الانطلاق إلى الطريق، سيغلق على نفسه الباب مبكراً، فالمقهى لم يعد كما كان، ولا «المناقشات»، ولولا عزلته التي يعيشها بمحض إرادته في القاهرة المزدحمة بالملايين، ما كتب هذه الأسطر، فهي مجرد كلمات وأفكار، وربما في ظروف أخرى كان سيطرحها للمناقشة مع صديق يثق به، أو يفاتح بها مجموعة من الرفاق حول منضدة في مقهى، وإن ذهب الأصدقاء بعيداً صاغها لهم في خطابات تحمل مشاريعه وأحلامه، فلا وجود لفنان يرغب في تجميد أفكاره، وأحلامه في كلمات. لكنه الآن قد أغلق على نفسه نهائياً، ولا مفر من أن يكتب محدثاً نفسه.

لاتزال اللوحة التي رسمها منذ أيام موضوعة على الحامل، إن الفنان لا يملك القدرة على تحديد أي لوحة من لوحاته أفضل من الأخرى، وأيها ستحوز رضاء الغير، وأنها مع الزمن سوف ترتبط بالناس أكثر فأكثر، وهل سيكون في مقدور الآخرين فهمها، أو بالأحرى الشعور بها لتربطهم بقيمهم وإيقاعهم في الحياة، غالباً ما يرتاب الفنان مع إتمام اللوحة في أنه بذل قصارى جهده وحقق كل ما كان يصبو إليه، فالعمل الفني كما يبنى على حقائق، تبنى جوانب منه على زيف، يحمل جانب الصدق كما يحمل جانب الكذب، لذا فمن الصعب عليه أن يعرف ماذا تعني لوحته، فقد تستثير الناس لفترة، ثم تفتقد أهميتها بعد عشرين عاماً، وقد يحدث العكس، لكن هناك شيئاً واحداً يثق به الفنان ويستطيع التصريح به، إنه يتحتم عليه أن يملك الشجاعة كي يواجه مَن حوله، ومن سيأتي بعده بشجاعة، يجب أن يعترف بكل شيء، حتى بأكاذيبه وبعاره، وأن يكشف ورقه كاملاً في صوره، لكن كثيراً من الفنانين لا يملكون هذه الشجاعة، ولا يستطيعون مواجهة الآخرين إلا وراء حيل رخيصة من الصنعة، ووراء أكاذيب أخرى، كالتمسّح بعقيدة أو الدعاية لقضية ما.

 

 

سليمان إبراهيم العسكري 




 





لوحة للفنان محمود المغربي