مختارات من كتاب «حرية الفنان» للفنان حسن سليمان

مختارات من كتاب «حرية الفنان» للفنان حسن سليمان

كلما وعيت أكثر، قرأت أكثر، رأيت أكثر، احتقرت نفسي، فأنا لم أفعل شيئاً، ولم آت بالجديد بالنسبة لإنجازات البشرية عبر آلاف السنين، وبالرغم من أن حياتي الفنية مملوءة بالصراعات والتغيرات، وفرضت علي معارك حتمية حددت مسار حياتي، فإن الفن ظل هو الملاذ الوحيد، كلما وعيت ضد هذه التغيرات والصراعات، وكان صمودي هذا نتيجة تربية اعتمدت كثيراً على الثقافة، وأدين أيضاً بهذا الصمود إلى رفاق وأصدقاء كانوا بجانبي لمساندتي، لا أنسى دور أساتذتي كلهم بدءاً من جدي، خالي، بيبي مارتان، ولي الدين سامح، يوسف سبيع ويحيى حقي، أدين لهم، وكنت بجانبهم لاشيء، كما تعلمت من رفقة صعاليك وسط البلد ماروتي، بسطورس، ألبير قصير، تجاربهم في الحياة كانت عميقة وعريقة جداً، وكنت من الذكاء كي أتعلم منهم.

وكان لمجموعة من حزب السعديين - التي تقبع في ركن من بار «سيسيل» - دور مهم في تشكيل شخصيتي، لقد تعلمت منهم الحصافة والإيماءة السليمة للكلمات والتهكّم اللاذع الذي يصل إلى القتل، وأن الذكاء هو كل شيء، وأن المرء لا يملك الذكاء إلا بالانضباط والممارسة الطويلة، تلك المجموعة كانت تضم توفيق بيه عمر، عبدالمجيد باشا بدر، عبدالحميد باشا عبدالحق، علي بيه أيوب، ومحمد بيه عبدالسلام، وكنت أجلس بجانبهم أتتبع دون تدخل قفشاتهم بعضهم بعضاً، وتنبؤاتهم بالمستقبل بناءً على خبرتهم السياسية والاقتصادية، كم كنت أحسدهم على تهكمهم، ووثوقهم بأنفسهم بالرغم مما حل بهم.

خالي الدكتور أحمد فخري قال لي: «الشهرة أول مسمار في نعش المفكر أو الفنان». استفدت من مشورته ونأيت بنفسي عن كل ما يستهلكني أو يضعني في صراع لا طائل منه. وعلى الرغم من هذا، فأنا ألوم نفسي كثيراً، إذ كان يجب أن أركز أكثر في عملي، لكن لا معنى للحياة من دون هفوات، نزوات، سقطات، مع أن تجاربي كلها حملت إلي الندم، فكلنا نكذب، كلنا نخدع، كلنا نضل، لذلك لو قالوا لي ستموت غداً فسأسعد بعد أن مضى كل شيء، ومضت الأماني والأحلام.

«الشجرة التي لا تنحني للريح تكسر»، قالها لي الدكتور شفيق غربال، فانطويت على نفسي، وتمسكت عبر سنوات حياتي بموقفي الفني والسياسي والاجتماعي، رافضاً الإصغاء لمشورة شفيق غربال، والانحناء للريح. أثبتت السنون صحة موقفي، فالفنان الذي ينحني للريح يكسر حتى وهو في قمة شهرته، فهو - مع الأسف - قد انكسرت روحه الثائرة المدافعة عن الحق، والرافضة للذل والهوان. قد يخطئ الفنانون إن ظنوا أن الدعاية تصنعهم، وإن رأيتهم يتسابقون كي يقفوا على باب مسئول أو من بيده الأمر والنهي، فلا أقول: ما أحقرهم! أقول: ما أضعفهم! وهل يستطيع الإنسان الضعيف أن يقول شيئاً أو يصنع فناً، لكن ما أكثر مَن نجدهم يسيرون خلف مسئول أو سياسي.

لم أشعر بالغيرة قط من إنسان اغتنى أو حتى صنع صورة جيدة، لا أغير ولا أحقد، لا أتنافس على شيء من متاع الدنيا، مثل هذه الأشياء إن أخذت بتلابيب الفنان، فستعوقه أن يواجه السطح الأبيض الذي أمامه بكل حرية وبكل تركيز، ولم يشغلني قط ما يفعله الآخرون، ومَن أنا حتى أقيّم أعمالهم، فما يحدوني هو محاولتي الدءوبة لكي أصلح من ذات نفسي.

لوحة الحياة

أعترف أني قد اختلقت كثيرًا من المبررات كي أبقى في مصر، لكني - في الغالب - لم أكن أملك القدرة كي أحدد ما الخطأ وما الصواب.

أستلقي وعيناي مفتوحتان، أشعر بالنوم يهبط بطيئاً علي كموجة تصل إلى رمال الشاطئ، وفي ضوء لا لون له بدأ ينسل من باب الشرفة المسدل، كانت ذكريات حياتي الماضية تطفح كما تطفح المياه من بالوعة حمام أصابها السدد، لكني كنت أستمع إلى همس، وإلى حفيف لا أستطيع تميّزه، أعترف أني دائماً لم أدرك كيف تطرق الأبواب، سيان كانت مغلقة أو مفتوحة، فمرسمي كان فقط هو الذي يعطيني الطمأنينة، ورضى يغمرني وسكينة. في وجهي كان يغرق الصمت، وتغرق أزقة القاهرة حاملة بقع الشمس وضحكات طفل، والوحل وأكوام القمامة وتجاويف الأبواب المغلقة، أعلم أنه عبر أسطر هذا الكتاب، يجب أن أسافر في جنة من الرماد، أن أسافر في الألم والأمل والابتسامة المرتسمة على الشفاه، أسافر عبر ضحكات آخر الليل وصداع الصباح. محتوم علي أن أسافر دون أن أستريح على شوك أو على ورد، أسافر دون راحة، أسافر في ظلال جريحة، أسافر محاولاً أن تلمس يدي زهرة ذابلة كي أرسمها، أسافر وقد صهرتني المهزلة، وأن آخذ فخارية محطمة، أحاول رسمها.

حتى إن صرخت، فمن يا ترى يسمعني، شيء رائع للفنان أن يصرخ فزعًا، فالجمال الحقيقي ما بدايته إلا الفزع، الذي مازلنا قادرين دوماً على احتماله، فقدرتنا الحقيقية على الانتظار هي ذلك الاحتمال.

وهكذا أضبط نفسي، فحتى الحيوانات تدرك تماماً أننا غير مطمئنين في بيوتنا، ونحن في زمن ببساطة يفسر فيه الأبله كل شيء، وأخشى ألا تبقى لنا شجرة على منحنى طريق نتطلع إليها كل يوم، وعلى الرغم من هذا، بقيت ولم أمض إلى أوربا.

تلك لوحة حياتي أريد أن أستعيدها من جديد: سنواتي الأولى ضاعت في زحمة الأحداث، وأشباح الدمى والظلمة وضجيج الطريق، لكني أعترف أني كنت سعيداً.

هززت لهم رأسي من دون اكتراث، تركتهم يفعلون ما يريدون، فرح الجميع وتركت لشأني. أدهشني من حولي «فلان» يهوى الفنون وهو لا يملك التميّز، وأخرى تدّعي الانحلال وهي تعاني كل أنواع الكبت، وآخرون مولعون بالشهادات والوظائف ويعجزون عن ممارسة شيء، وأكثر ما أضحكني حينذاك منظر الرفاق وهم يحادثونني عن الحركات القومية والسياسية، ويشكون لي القلق، والأرق في الليل والتنهيدات في النهار، يقرأون لي كتاباتهم التافهة منتظرين رأيي.. في ماذا؟

حيرة الفنان

تمضي بي الأيام منصرمة، أصبحت الأمنية الوحيدة أن يأتي الغد كالأمس لا أسوأ، كل شيء أصبح صعباً، كل شيء بدأ يهرب من بين يديك: الأفكار، التأملات، القرارات فالكتابة أو الرسم، ليست فقط القلق والتوتر والمعاناة التي تدغدغ الحواس، بل أصبحت لعبة اصطياد الكلمات أو الأشكال في حد ذاتها خطرة، فالكلمات أو الأشكال، يجب أن تحقق لك بالضبط ما تريد التعبير عنه وبالكيفية التي تريدها.

إنه الفجر وأنا في الحمام، رمادي خافت يغلف كل الأشياء على (القيشاني)، أشعر بالضيق، أفتح النافذة التي تطل على الفناء الداخلي لهذه البناية الضخمة، مثل هذه الأبنية تعتبر من أغرب الأماكن في العالم، فمن ثقوب مربعة متراصة بجانب بعضها وتحت بعضها قد ينبعث غناء، شهقة حب، أم تنهر ابنها، زوج يضرب زوجته، احتدام نقاش في شركة من الشركات، أصابع فتاة متوترة على آلة كاتبة وعلى مر الطوابق ترى الحمامات، مخادع النوم، حجرات المعيشة مرصوفة فوق بعضها، ذلك أن جميع حجرات المعيشة أو النوم أو الحمامات أو المطابخ تقع في الأماكن نفسها بالنسبة للطوابق، ودون أدنى مجهود يستطيع المرء التعرف على الحمامات (بقيشانيها)، من غرف المعيشة ذات الموائد والأباجورات، هكذا في مثل هذه البنايات نجد النوم، الحب، الولادة، الهضم، عودة اللقاء غير المنتظر، الليالي المملوءة بالقلق والأخرى العارمة بالسعادة، تقع جميعها بعضها فوق بعض كأعمدة الخبز في مؤخرة مطعم الفول، في مثل هذه البنايات يحدد مصير الإنسان سلفاً بمجرد أن يقطنها، فلنا أن نسلم بأن حرية الإنسان تتوقف بالدرجة الأولى على وقت الفعل، والمكان الذي يمارس فيه الفعل، فما يفعله الناس متقارب ظاهرياً إلى حد كبير، إن لهذا معنى خطيراً، ولاسيما إذا خططنا كل شيء على النمط نفسه، لكني أشذ عن هذه القاعدة.

النوم؟ أن يأتي صباح شبيه بسابقه؟ ورويداً رويداً لم أعد أدري إن كنت قد رحت في سبات، أم مازلت يقظاً، ومن بين ثنايا الشيش المسدل كان يتدفق لون أزرق، وربما كان هذا آخر ما وعيت به، أيقظني شيء يقترب، أشرطة رفيعة من زبد الصباح الأبيض، متقطعة، أتبينها كنغمات، ومرة بعد أخرى أتأكد من أن السبات يشدني إليه، ثم جلست تلك النغمات الضوئية فوق جفني، وفي منتصف السقف، راحت تقفز في الهواء، كطائر بحر وقت الغروب، أو ربما أيضاً كطلقات الضوء في حفلات الصواريخ، طلقات مضيئة تتفتت برّاقة أثناء سقوطها على ألواح زجاجية لا لون لها، وأخيراً هبطت كنجوم فضية كبيرة في الأعماق، وعندئذ شعرت بوضع سريالي. أنا أقبع في حجرتي على المقعد كتمثال حجري لرجل ميت، استيقظت، لكنه كان استيقاظاً مخالفاً لاستيقاظي أثناء النهار، يصعب على أن أصوّر ما أشعر به، أشعر كأن الغرفة ليست مجوفة، بل تتألف من نسيج لا وجود له، ما بين أقمشة نهار ناصعة ونسيج ليل أسود شفاف، ومن هذا النسيج أتشكّل أنا أيضاً.

تأملات في المرأة

أقيس كل شيء بمقياس دقيق، لكني لا أعرف كيف أقيس المسافات بيني وبين المرأة، فالمسافات بيني وبينها ضائعة، المرأة دائماً تختار المكان والوقت غير المناسب، تبقى لترسل أحلاماً نحو ما تتطلع إليه، لكن أحياناً ما تسقط ميتة على سور النافذة محبطة.

إنها تقترب من النافذة كلما خبا الضوء وتضغط بجسدها اللدن على حافة النافذة، أحملق في الليل، قلقها يسرع إلى حلقة قاتمة، جسدها يتحداني ويتحدى الظلمة، الظلمة التي ستحتضنها، فأحتضنها وأحتضن الليل، أفتح النافذة لأتحسس جسدها، لكنها لا تبعد جسدها عن أصابعي، بشغف أقترب منها وتقترب من الظلمة. كلانا يصل إلى الحافة، إلى حافة الحياة والموت.

أرى فمها كوردة تتفتح، أرى شعرها يتحول إلى أمواج تتحطم على شواطئ تفكيري المشتت، أرى عينيها تحملقان، أعيش في ليل يحتضنني.

يبقى الغموض الذي يكتنف المرأة، ويكتنف الفن، وتبقى الحيرة لتدفع المرء كي يعبر عمّا يحس، لكن كثيراً ما تعوقه مهمة المرأة، فهي مثل النبات الذي ينمو وينبثق إلى أعلى لتغطي أكاذيبها التي لا آخر لها، وضوء القمر الغبي أبحر وحيداً، فلم أعد في حاجة إلى ما يغرق الزورق، أبحر دونها، وعن حب يضيع مني، فلست قادراً على تقبّل أي شيء، وأي مناقشة معها ستفقدني زورقي الذي سيبحر بي خاشياَ ثقل أكاذيب لا متسع فيه، أريد أن أصل إلى مرفأ أرسم فيه، ومع رسمي انتظر حباً جديداً، ولكنني كثيراً ما أجدها مع خطوطي على اللوحة التي أرسمها فيه، ومع رسمي أنتظر حباً جديداً، ولكنني كثيراً ما أجدها مع خطوي على اللوحة التي أرسمها، فتخلط أحلامي بمياه لا آخر لها، ولكن ينتهي الأمر مع رشاقة فرشاتي، وحدة نصل سكيني وفراغ لا بداية ولا آخر له.

ومع دهشتي وتعجّبي مما فعلت، أردد لنفسي: الأمر يستحق، فنهر الحياة دائماً يفيض بالضوء. دونها هل أصل إلى مرفأ أستطيع فيه أن أملك جدية وعمق الأساتذة العظام من الفنانين، دونها هل أستطيع؟ وألاعيب المرأة ثقيلة ثقل الأحجار الضخمة المعلقة فوق رأسي، وأنا أزحف في سراديب الأهرام المظلمة كي أصل إلى حجرة الدفن، وحجرة الدفن دائماً ما أجدها شاغرة.