حسن سليمان.. العذوبة في منتهى الحدة!

حسن سليمان.. العذوبة في منتهى الحدة!

«إننى أرسم بروح الفن الخالدة.. أفرغ روحى وطاقتى فى اللوحة حتى أستلقى منهكاً بجوارها بعد أن اعتصرتنى ..».

الثمانينى الضئيل كان فى الحقيقة كائناً عملاقياً متمرداً يعرف معانى وأسرار الحياة .. يعرف أن الفن من دون تمرد لا يساوى شيئاً. أستحضره الآن وهو يحكى ويعترف لى بأن المرأة كانت وحتى الرمق الأخير ستظل لوحته الباقية أبداً حتى وإن كانت فى الواقع قد ضاقت بالحياة معه. فالمرأة والكتابة كانتا على لوحاته صنوان لا يفترقان حيث ظل إبداعه الأدبى ينبع من نفس مشربة بروح هائمة بين عوالم الفن سواء كان رسماً وتشكيلاً أو شعراً لتخلق فيلسوفاً وروحانياً من نوع مختلف .. إنه حسن سليمان المختلف بكل تأكيد .. وإننى أتذكره الآن وأقول له ..

أيها الصادق .. يا من كنت فى مثل حدتك عذباً ..

يا من قلت لى ناصحاً «فنجان قهوتكِ الصباحى اقرب لكِ من العالم»

صاحب الذهن الناقد والاحساس النافذ الذى أخذ معى يسخر من «ازدهار المعارض» وابتذال الأفكار و تأويلات الفن الخاطئة ..

إنه حسن سليمان الذى كان مجرد وجوده كياناً فاضحاً لكل الغش والتزييف ويكفى أن نطالع كتاباته وأعماله لنعرف موقفه القوى الصارم حيال محاولات مسخ منطق الجمال ..

الواثق من فنه وعلمه .. والذى قال لى..

«أمقت الهوة التى يصنعها الفنان بغباء فيعزل نفسه عن مجتمعه بافتعال لغة غريبة عن ناسه فينفرون منه».

الفنان الذى كان صادماً ومؤمناً بأن أعماله هي حقيقته الباقية وتأثيره الممتد وإنه ليس مجرد عابر بل هو وتد قامت عليه مدارس فى الفن وتعلم منه جيل بكامله ..

ولد حسن سليمان أحمد، كما حكى لى، فى القاهرة في العام 1928 لأسرة من الطبقة المتوسطة المثقفة (كان يقول بأن تلك الطبقة المهمة تلاشت فاختل الميزان الخاص بالقيم الاجتماعية) فى حارة طه بك السيوفى بالسكاكينى (حيث فى الجوار أجناس مختلفة الهوية واللغة والثقافة من طلاينة وجريج ..) .. حصل على بكالوريوس كلية الفنون الجميلة فى منتصف القرن الفائت وعلى الدراسات العُليا فى سيكولوجية البعد الرابع من أكاديمية بريرا ميلانو فى الستينيات، وهو العاشق للعمارة الإسلامية والمغرم بالرسوم الفرعونية، والذى انتهى من قراءة أعمال طه حسين والمازنى فى الثالثة عشرة من عمره، تتلمذ على يد الفنان بيبى مارتان والذى كان يصحبه مبكراً فى السادسة وقبل الشروق إلى مقابر المماليك وتلال المقطم ليشهدا ويسجلا زخم الصباح، فتعلم كيف يأتى بالتضاد اللونى والتكوين بكراً من الطبيعة، فصار حسن سليمان صاحب رحلة اللون الرمادى الممتلىء على مساحات الفراغ.

2 - بداية لا بد من الاعتراف بأن لنا مع كل لوحة نقرؤها قدرنا الخاص، ولم أشأ أن أغير قدري مع هذا الفنان، و لم أندم على ذلك أبداً، فكان إحساسى العميق بلوحاته وبناء عليه حدث أن احببته عن بُعد ، واكتفيت، واستسلمت فأخذني عبر لوحاته إلى الماضى والمستقبل معاً ولا أعرف بالتالى كيف نفذ بى إلى القاع ورفعنى إلى السماء، حتى خيل إليّ أننى عشت مع لوحاته عوالم غير معروفة .. لقد كان هذا الرجل حريصاً على كل التفاصيل الصغيرة حين يعكف على الورق، ولكنها دوماً تفاصيل بلا زخرفة او انتهاك او ابتذال يجعل اللوحة لامعة زائفة فلا اختلاق ولا افتعال ، ولأنه العارف بأساليب الحياة، وتضاريس الأماكن و حياة الأنثى فى الحوارى والأزقة والعطوف، فقد كان يجعلنى أنظر إليها بإعجاب شديد، ولأنه الأوسع اطلاعاً على خبايا البشر، و لأنه صاحب الخيال الخصيب.. استطاع أن يسافر مرتحلاً بخياله إلى ذلك المطرح الأنثوى ليرسمه بواقعية أدهشتنى ..!

ولكنه ايضاً من قال لى بمنتهى الأسى ..

«أنا طائر الحب .. المصدوم الذى أراد الخروج من دائرة الحزن .. فخرج إلى الفضاء الواسع محلقا تسيل منه الدماء».

ومن ذلك الجانب الآخر كتابه الأحب الذى ترجم فيه أشعار كل من سافو وإلوار وأراجون وماياكوفسكى وجاك بريفير.. وتحت عنوان ثلاثة عيدان تشتعل فى الليل واحداً فواحداً

الأول كى أرى وجهك كاملا

والثانى كى أرى عينيك

والأخير كى أرى فمك

.. والظلمة الكاملة كى تذكرنى وحسب

كم هو جميل أن تكونى بين ذراعى.

3 - مع لوحاته ارتحلت إلى عمق روحه ..

وفيها وجدته يعترف بأن الوجود والحضارة ما كان ليكتملا لولا وجود المرأة بكل جمالها وشقائها..!

وما سأستعرضه هنا له علاقة قوية بالعبارة السابقة فلقد اكتشفت بمتابعتى له عن كثب أن العملاق كان يعتصره الألم .. وقد قلت له «أراك غير ما سمعت»!!

فأجابنى بابتسامة ذات معانى «بيقولوا عنى قليل الأدب ولسانى طويل .. إنتى بقى رايك إيه ؟»

«أنا قُلت رأيّى خلاص»

كان حاداً رقيقاً .. عنيفاً عذباً فى ذات الوقت .. لا يجرؤ أن يدوس له أحد على طرف -وللسان اللاذع أهميته فى تلك الحالة.

كان واثقاً وإنسانياً معاً فمن لا يحب نفسه لا يحب أحداً، عصبى وطيب .. ولأنه لا يمكن أن نفصل فى تناولنا لسيرة فنان بين الإنسان وطبيعته وبين عمله .. فأستميحكم العذر على الخلط، وأرجوكم ألا تستغربوا من تداخل قصيدته فى كتابتى بين خاص جداً ومهنى جداً ..!

وهآنا أراقب، عن قرب، علاقته بمساعديه، سكرتيرته المقربة «هبة» وحافظة بيته «شوقية» علاقة تطورت مع الزمن إلى رباط لا أعرف ماذا يمكننى أن أطلق عليه!! .. رأيتهم يتعاملون معه كما لو كان الأب والأخ وهو يبدى امتنانه - وإن كان لا يفعل ذلك غالباً أمام الناس كما قال لى، ولكن هذا لا ينفى الحب العميق- .. ولكن يبدو أن لقائى الأخير كان بروازاً يؤطر حبه للجميع حتى وإن بدا طوال الوقت متهكماً ساخراً غير ممتن - وهو سلوك شخصى وأسلوب اعتاده فحسب - وكما أسر لى فى خلسة من الجميع وبصوته الخفيض - أظنه الوهن- بأنه لا يستغنى عن أيهما وأن «هبة» توشك على تركه لأنها «زهقت» وتريد تغيير مجال عملها .. لقد كان كان متأثراً حزيناً فى نبرة فهمتها جيداً .. فلقد تعود على وجودها فى مجريات الحياة وارتاح لها وعاملها كابنة .. وبعد برهة قال لى .. «هو فيه إيه؟ عايزة تتفسح وتسافر وتشوف حياتها ؟ ماتعمل اللى هى عايزاه هو انا منعتها؟!».

وكما اعترفت لى مساعدته الصادقة المُحبة بأن كل ما تعرفه فى الحياة هو دين فى رقبتها لهذا الرجل الجميل .. الشعر، الفن، اللغة. ولقد قال لى بمنتهى الاهتمام: «تعرفى أنها بقت بتكتب لغة عربية رائعة .. دى باحثة ممتازة».

هكذا كان الرجل القوى .. لا يربطه بالعالم الخارجى فى حينها - منذ أربعة أشهر حينما لقيته بمرسمه الكائن بشارع شمبليون- سوى هؤلاء الذين أحبهم وتمسك بهم فى أخريات أيامه .. كان يحمل على كاهله جدية وحساسية، وتلك الحقيقه كنت أعرفها من أعماله من قبل أن ألقاه، فكان يكفينى مشاهدة لوحاته لأعرف أنه رجل يمتلك خيط أفكار متصلاً بلا تشويش وهكذا، ولزاماً فلابد وأن يصل به التأمل إلى أبعد درجات العمق.

وكفنان وإنسان وجدته يتسلل إلى عمق نفسى بلا فجاجة أو اقتحام، فأنا امرأة وبالتالى ففى حياتى رجل وهو مشغوف بهذا البُعد الإنسانى من تلك العلاقة الأزلية .. نعم لقد أخذ يتسلل ويشرح موضوعه المفضل فيروى عن حكايا الحب وكيف يمكن أن يكون الحب .. (إن حديثنا كان عن الحياة وليس عن العمل، وإن كان أحدهما متصلاً بالآخر بشريان واحد).

إنه حسن سليمان الذى أجلس بجواره الآن وأنا التى كنت معجبة، بل مهووسة، بأدائه الفنى .. حين جلست إليه بدأت أرى من جديد بعين أخرى لوحاته وبأذن أخرى استمعت إلى ما قاله لى عن الفن . «الفن رباط مقدس وإننى أرسم بروح الفن الخالدة.. وإننى أفرغ روحى وطاقتى فى اللوحة التى أحبها وكأنها امرأة أعشقها»

4 - «أيها البحر ألقيت بشباك وهمى ليحرقها الضوء المنعكس على صفحتك .. والتحديق فى الفراغ لغيابها يشعل حلمى الدائم ويحوله إلى وهج ينعكس على صفحتك .. أغلق عينى ولكن تلاحق الأمواج يوشوش فى أذنى كأنفاسها التى تدفئ وجهى. تطير شباك الوهم المحترقة مع سحيبات تتحدى الضوء وأحتضن بين ذراعى جزءاً من الليل بدلا من حبيبة جاحدة لا أستطيع لمسها . فهى كالموج وسرعان ما تنسل ، هل يمكن أن أحتفظ بمثل هذا الضوء ؟ أو بمثل تلك الظلمة أو بها ؟».

إنه حسن سليمان السابح فى استلهام البحر ولكنه بحر ليس ككل البحار ..

5 - وهو حسن سليمان صاحب «حرية الفنان» .. «الحركة فى الفن والحياة».. «كيف تقرأ صورة» .. «المكتبة سيكلوجية الخطوط» .. «ذلك الجانب الآخر» و«محاولة فهم الموسيقى الباطنية للشعر والفن».

قال لي: «سكبت أضوائى وظلالى على أسطحى لأنقل فيها كل ما أحبه وأراه بقلبى وأسمعه بعينيّ من أمكنتى الحبيبة من القاهرة .. ومن الطبيعة الحية والصامتة»..

وأخذ يفسر لى أسرار الرمادي فى لوحاته..

«اللون قد يطغى على الشكل ويضيعه لو أساء الفنان استخدامه، بالضبط كالفلاحة الساذجة التى تستخدم أحمر الشفاه دون حذر .. وبالنسبة لى أشعر باللون يتغير بين أصابعى من لون «بايخ فاقع» حتى يصل إلى هدوء الرماديات، بالضبط كما يتغير لون البرعم الخاص بوردة بيضاء فهو يبدأ عادة وردياً محمراً وما إن تتفتح الوردة حتى يصبح شاهق البياض .. بالضبط هذا ما يحدث أحياناً بالنسبة لعلاقات اللون فى اللوحة .. فكل من اللون والشكل يجب أن يلتحما ومع الرغبة فى التعبير .. عن سقوط الضوء ومحاولة الوصول إلى وحدة تؤكد الشكل كشكل .. نجد اللون ينزوى ويتلاشى مع ضربات الفرشاة هنا وهناك .. يضيع مع الظل والنور .. لتظهر باللوحة رماديات.

ويعقب فى نهاية التفسير مركزا عينيه في عيني قائلا «هو ده سر الرمادى اللى محير الناس اللى بيشوفوا لوحاتى» .

حسن سليمان جسّد حالة نادرة في الوسط الفني المصري ،كفنان وكإنسان، كان صادقا لدرجة نادرة، بسيطا وطبيعيا إلى حد القول: «عندى جرأة أنزل بحذاء البيت وأدخل أغلى مطعم ولا يهمنى ما الذى سيقولونه، المهم أنهم سيقدمون لى أشهى ما عندهم ثم ابتسم ابتسامة ذات مغزى وقال: «لماذا لا يفعل الفنان ما يريده ؟!! .. الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة.. هذه هى روعة الحياة التى سيعرفها ويفرغها على لوحاته».

 


دينا توفيق