سيلويت (قصة × صفحة) شيرين حسن يوسف

سيلويت (قصة × صفحة)

صباح آخر في مدينتنا, ورصيف محطة القطار مزدحم بالغرباء, أبصرته ومعطفه الأسود الثقيل يخفي نصف وجهه, وحذاؤه الشتوي ذو الرقبة المرتفعة كنهار معطل, وحقيبته ترتجف تحت قفازه الأسود, الطقس بارد وخامل, فلا ريح تهز الغيمات فتمطر, ولا هبة ساخنة من رياح الخريف تخمد هذا الصقيع, أبصرته يعدو متجاوزًا كل الوقوف, انفتحت حقيبته وانفرطت أسراره على الأرض!!

عشرات من الصور واللوحات الصغيرة, وصوت تكسر زجاج, إنه برواز بلون الفضة المؤكسدة تفر من بين أنيابه صورة مرسومة بطريقة السيلويت, لا أدري ما الذي دفعني للاقتراب منه, ومحاولة التقاط تلك الصورة بالذات, على الرغم من أن جميع الواقفين لم يفكروا حتى في متابعته وهو يلملم أشياءه, ناولته الصورة وتمكنت من رؤية وجهه على نحو صريح, ودخان سيجارته يصطدم بوجهي, سعلت على نحو منخفض, فأنا أكره رائحة التبغ, رأيت عينيه العسليتين من تحت منظاره الطبي الأنيق, وشاربه ولحيته الدقيقة, التي يغازلها الشيب, لا أدري لماذا أدركت أنه ربما عازف بيانو أو رسام أو ربما روائي يعشق الكلاسيكيات, فهيئته تشي بذلك, (آسف آنستي...لم أقصد مضايقتك بسيجارتي, أشكرك على لملمة الصورة, وأعتذر لما سببه لك البرواز من جرح (انتبهت إلى خيط الدم النازف من إبهامي وهم يحاول إيقاف النزيف بمنديله الأزرق, وشعرت باحمرار وجنتي الذي ربما تجاوز حمرة قطرات الدم, التي غمرت المنديل, وسارعت بالقول (لا عليك...فقط أعجبتني الصورة, ولم أتخيلها تطير مع هبة ريح خريفية, ربما تأتي) ضحك بدهشة وقد تجمّد الدم تقريبًا في عروقي من فرط الخجل (الحمد لله...توقف النزف الآن, يمكنك الاحتفاظ بالصورة - إن رغبت - ولكن بعد تنفيذ الشرط (دهشت) أي شرط?!, قال (أن يحوي البرواز صورة أخرى أكثر جمالاً...هل تسمحين لي برسم وجهك على طريقة السيلويت?!).

كانت الصورة التي يحويها البرواز لمقطع جانبي لوجه امرأة حسناء, فباغته بسؤالي (كيف أوافق على شرط لا أمتلك تنفيذه?!), ابتسم وتلاشت عيناه مع ارتفاع وجنتيه النحيلتين (فقط اجلسي لبعض الوقت دون حركة), امتثلت وبدأ برسم اللوحة, وسيجارته على جانب فمه, وغطت يقظتي في شرود يا ترى من صاحبة الصورة?! وكز شرودي بسؤاله: (يا ترى ماذا سنسمي الصورة?!), أجبت دون تفكير: (دخان).

تعجب ورفع حاجبيه وخلع منظاره الطبي, وتوقف عن إتمام الصورة وكرر (دخان!!!), قلت: (نعم كتلك اللحظة...كل اللحظات الحلوة أخالها دخانًا يتطاير بعد ثوان). تابع الرسم قائلا: (جميل جدًا أن تتبخر تلك اللحظات, فإنها إن تكررت, فلن تبقى في الذاكرة لحظة حلوة, ستموت بالاعتياد, انظري مثلاً لتلك اللوحة التي بين يديك رسمتها منذ نحو عامين, وأنا في مدينة أوربية, وبيني وبين أرضي ساعات من الغربة والوجع كنت يومها في المشفى أتعافى, وباغتتني تلك المرأة بزيارتها, فأنا لا أعرفها ولم أرها من قبل, وتركت باقة من الزهور إلى جواري دون أن تنبس ببنت شفة, تكرر هذا المشهد ثلاث مرات, استيقظ عند الصباح وأجد باقة الورد حتى انتظرتها ذات مرة, وجاءت وسألتها وهربت ولم تأت, انتظرتها طويلاً, ثم سألت عنها الممرضة, فأخبرتني أن تلك المرأة مات زوجها على الفراش ذاته, وقد اعتادت زيارة كل مريض يأتي إلى هنا وتهديه الزهور, صدّقيني تمنيت وقتها أن تعود, ولكنها وحتى غادرت المشفى لم تأت, وحين تماثلت للشفاء, وعدت إلى بلدي, رسمتها دون أن تكون جالسة أمامي, أخيرًا, هاهي لوحتك قد اكتملت... (نظرت إلى اللوحة إنها بالفعل صورة طبق الأصل لملامحي على طريقة السيلويت, طلبت منه أن أحتفظ بها, إلا أنه ذكرني بالشرط, وفي تلك الأثناء انطلق صفير القطار وغادر الرصيف, وفاتتني الرحلة, وهو ظل يبتعد ويغيب كالدخان.

 

شيرين حسن يوسف