دمشق غادة السمان

دمشق غادة السمان

قرأتُ بتمعّن مقال غادة السمان، في «العربي» «شهر أكتوبر الماضي»، عن الشام وعلاقتها الروحية والعاطفية بها، فوجدتني أمام صلاة أكثر مما وجدتني أمام مقال، في ما نسمّيه عادة حب الوطن. لم أعثر في هذا المقال على كلمات، بل على فلذات، وعلى دم لا على حبر، وتمنيت لو يكون المقال - إن صح أن يُدعى كذلك - فصلاً في كتاب، على غرار كتاب «داغستان بلدي» لرسول حمزاتوف، لا مجرد نص جميل مدهش في الشجن الذي ينبعث منه، وفي الحنين الذي تكتوي به حروفه. ويبدو أن مردّ هذا الشجن وهذا الحنين إقامة غادة في باريس، وهي إقامة لم تجعلها تنسى للحظة تذكارات أيامها في الشام، وطيب تلك التذكارات على ثنائي الديار. لا تختلف غادة في ذلك عن عبدالرحمن الداخل، وهو أموي مثلها، الذي كتب مرة عن أندلسه إلى قريب له في الشام: «إن جسمي كما علمت بأرضٍ، وفؤادي ومالكيه بأرضٍ» فالشام، أرضاً وطبيعةً وحضارةً وتاريخا، فتنت كثيرين، وبخاصة الشعراء، ومنهم أميرهم شوقي الذي تضجّ الحياة، أو النار، في قصيدته الخالدة عنها، ومنها هذا البيت الذي يختصر ملحمة كاملة:

قال الرفاق وقد هبّت خمائلها
الأرضُ دارٌ له الفيحاءُ بستانُ!

على أن غادة تتجاوز في مقالها انبهار «الرفاق» بجمال جنائن الشام «ومن حقهم أن يبهروا» لتروي بشغف حكايتها الجوّانية مع الشام في نص مبدع تذوب عباراته شغفاً وولهاً. ولتروي في الوقت نفسه حكايتها مع لبنان أيضاً. فهي لا تقل شغفاً وولهاً بلبنان عن شغفها وولهاً بالشام. أو لنقل إن قلبها موزع بين هذين الحبّين اللذين لا شفاء منهما، ولا انفصال بينهما في الوقت نفسه.

فهي شامية كما هي لبنانية، ودليلنا على ذلك لا هذا المقال وحده، بل كل المقالات وكل الكتب وكل الروايات. ولكن هذا لا ينفي «شططا» من هنا أو هناك عندها، فعندما تقول في مقالها هذا «إن اللاذقية والشاطئ السوري هما مهد الأبجدية الأولى»، فيسهبّ لبنانيون كثيرون، ذوو نزعة فينيقية - لستُ أنا منهم بالطبع - يروون الحقبة الفينيقية رواية سياسية، أو رواية على ذوقهم، ليقولوا إن مدينة جبيل ومعها مدينة صيدون «وهما مدينتان فينيقيتان تقعان في إطار لبنان الحالي» هما اللتان أطلقتا الأبجدية في العالم، لا اللاذقية ولا طرطوس ولا صافيتا، ولا ينقذنا - بالطبع - من هؤلاء الفينيقيين الجدد إلا العودة بالتاريخ إلى ما قبل فينيقيا، أو إلى ما قبل سايكس - بيكو، ولكن إذا عدنا إلى مرحلة هجرة اللبنانيين والسوريين إلى مصر، حيث لقب المصريون الجميع بـ«الشوام»، بمن فيهم إميل إده ويوسف السودا وبيار الجميل، النازحون إلى مصر، وهم من النُخب اللبنانية التي ساهمت في تأسيس «جمهورية لبنان الكبير» الحالية.

تحتضن غادة السمان في هذا النص الاستثنائي في جودته وكماله قيما كثيرة. تحتضن قيم التنوع والتعدد في البيئة الشامية. «الجامع الأموي» و«ستي زينب» وجرس «كنيسة القديس بولس». ولأنها «شامية عتيقة»، كما تصف نفسها، تحب أسلافها، قد تتشاجر مع جدّها، ولكنها لا تجرؤ على تمزيق عباءته ولا تلويثها. بالمقابل لا ترتدي جبة جدها، أو تختبئ داخل أكمامه وتنام في جيوبه. «أريد أن أرتدي حياتي كما أشاء، وأفصّل ثوب زمني على مقاسي». والتراث ليس بالضرورة «إعاقة الإبداع، بل إنه المحفّز على الاستمرار والإبداع وتجاوز الأزمنة إذا عرفنا كيف نسافره». لنتأمل «نسافره» لا سافر به، بل سافره، بل لنتأمل متانة هذه العبارات كلها من الناحية الفكرية المحضة وتلخيصها الرائع لما ينبغي أن يكون عليه موقفنا من الماضي والحاضر والمستقبل.

ولكن ما لنا وللفكر، والحديث هو حديث مودات وقلوب تذوب من الشغف والوجد: «دمشق؟ تزوج الحنان من الحجر فولدت بيوت تنحني على أهلها كرحم، في أزقة متلاصقة الشفاه، كهمس العشّاق، قبل أن أرحل قرأت دفتر الياسمين في دمشق، قرأت طلاسمها، أحجياتها، تعاويذها، دم ثوارها، قرأت ميسلون، ثم بدأت طيراني وفي دمي ذلك كله».

نحن اللبنانيين لا نقلّ حباً للشام عن حب غادة لها أو للبنان. سائليني يا شآم / أمويون فإن ضقتِ بهم / ألحقوا الدنيا ببستان هشام، كتبها شاعر لبناني شديد التعصب للبنانيته. وكتب الأخطل الصغير الكثير في حب الشام منه:

قالوا تحبّ الشام، قلت جوانحي
مقصوصةٌ فيها، وقلتُ فؤادي!

وبلغ الوجد بشاعر لبناني آخر هو الشاعر القروي رشيد سليم الخوري حد القول:

كلُّ حيٍّ إلى الشآم سيمضي
حين يقضي، إن السماءَ الشآمُ!

فهل بعد ذلك دليل على وحدة القلوب بين البلدين الشقيقين، وعلى صحة ما قاله الشاعر القديم:

إذا احتربت يوما ففاضت دماؤها
تذكرتِ القربي ففاضت دموعُها

وأود أخيراً الإشارة إلى أنني أنا الذي طلب من غادة السمان، بناء على تكليف رئيس التحرير، أن تكتب هذا المقال لـ«العربي». فأنا أدّعي صلة به، بل وصلاً وبالمعنى العاطفي للكلمة. بل وأكاد أضع اسمي إلى جانب اسم غادة كواضع له، أو مشارك في وضعه، مع أنه لم يكن لي عملياً منه سوى متعة الروح. ولكنني ساهمت بلا شك في نشر أريجه الذي عبقت به صفحات «العربي»، وإن أنس لا أنس الإشارة إلى أنني حاولت إقناع غادة بقبول مكافأة مالية عنه، فكان ردّها الاعتذار الذي لم ينفع معه طلب إعادة النظر في الاعتذار. قالت لي: دعك نهائياً من هذا، ولنتحدث في أمور أخرى مهمة. لقد كتبتُ ما كتبتُ بناء على طلبك وطلب الدكتور سليمان العسكري، وأنا سعيدة بذلك وهو يكفيني».

فتحية لها وللشام وللنبل في كلماتها الخطية والشفهية!.

لميَّة َ إذ لا نشتري بزماننا
زَمَاناً وَإِذْ لاَ نَصْطَفِي مَنْ يَغُولُهَا
وإذ نحنُ أسبابُ المودَّة ِ بيننا
دماجٌ قواها لم تخنها وصولُها

ذو الرمة

 

 

جهاد فاضل