متى يغضب السلطان؟

متى يغضب السلطان؟

متى تمارس السلطة سلوكا عنيفا يصل إلى حد الغضب المستعر وممارسة الانتقام والتصفية الدموية الفعلية للعامة حين يتطاولون ويتجرأون عليها؟!

أتصور أن يحدث هذا التحول السلطوى من اللامبالاة للغضب والتهديد والعنف القمعى حين تنتبه السلطة لإمكانات الخطر المضمرة فى هذه المساحات للخطاب الذى يتداوله العامة من وراء ظهرها، ينال فعليا من سطوتها وهيبتها!! تلك الهيبة التى أسست على القوة والقمع والاستبداد والخوف ولم تبن على تعاقد اجتماعى ورضى وقبول وتبادل للحقوق والواجبات بين الراعى والرعية!! إن السلطة تعى بغتة الإمكانات الخطرة لتنامى هذا الخطاب وتطوره وتراكمه وانتشاره والذى قد يغدو تربة خصبة ممهدة لحدوث التمرد الفعلى أو الثورة الحقيقية، حيث يعد إنذارًا مبكرا ملوحًا بإمكانات اختلال العلاقة بين السلطة والرعية بل واختلال النظام والأمن واختراق العدى للحمى، كما ذكرنا آنفًا!! وتزداد وطأة المسألة وخطورتها حين لايكتفى هؤلاء الرعاع بالأقاويل والشائعات بيد أنهم يحاصرون السلطة ويراقبونها ويخترقون عوالمها السرية منتهكين قدسيتها المزعومة.

يروى التوحيدى فى الإمتاع ما يلى:

«قال الوزير فى بعض الليالى: قد والله ضاق صدرى بالغيظ لما يبلغنى عن العامة من خوضها فى حديثنا وذكرها أمورنا، وتتبعها لأسرارنا، وتنقيرها عن مكنون أحوالنا، ومكتوم شأننا وما أدرى ما أصنع بها، وأنى لأهم فى الوقت بعد الوقت بقطع ألسنة وأيد وأرجل وتنكيل شديد، لعل ذلك يطرح الهيبة ويحسم المادة ويقطع هذه العادة لحاهم الله، مالهم لا يقبلون على شئونهم المهمة، ومعايشهم النافعة، وفرائضهم الواجبة؟ ولم ينقبون عما ليس لهم ويرجفون بما لا يجدى عليهم، ولو حققوا ما يقولون ما كان لهم فيه عائدة ولا فائدة».

ونود أن نلفت النظر أولا إلى ملحوظة مهمة ستتضح لنا تدريجيا هى أن خطورة شائعات العامة وأقوالهم المتداولة حول السلطة قد تكون أعلى تهديدا من حيث تداعياتها الفعلية على أرض الواقع، من صياغات المثقفين وأحلامهم حول الصورة المثال للحاكم أو السلطة الراعية، لذا فإن رد الفعل السلطوى فى الحالة الأولى قد يكون أكثر عنفا ودموية منه فى الحالة الثانية!! خاصة وأن المثقفين فى حاجة حقيقية للسلطة لمنحهم إمكانية الحياة الإنسانية الكريمة، وحمايتهم من الفاقة والعوز إلخ!!

وبعيدا عن إمكانات اختراع التوحيدى لهذا الموقف برمته، متوجها به لنوع بعينه من القراء يعنيه أن يسمع رأى الوزير فى العامة ورأى المثقفين المحيطين به فى موقفه من العامة. وقد تكون الكلمات كلمات الوزير فعلا، رواها التوحيدى كما نطقها الوزير وحفظتها ذاكرته، وقد تكون الكلمات كلمات التوحيدى صاغ بها ما عبر عنه الوزير بطريقته الخاصة لجلسائه. وينبهنا د.جابر عصفور إلى كل هذه الاحتمالات فى مقال مهم له حول هذه المحاورة غير أنه يثير احتمالا لعله من وجهة نظرنا يُعد الاحتمال الأقرب إلى الصحة حيث يقول: قد لا يكون الوزير نطق بهذه الكلمات ابتداءً لكن أبا حيان استشعر ما فى داخله فى جلسة المسامرة ونطق بالمسكوت عنه فى خطابه ليستهل محاورة من المحاورات التى دارت بينه وبين الوزير حول علاقة الحاكم بالمحكومين». بعبارة أخرى، التقط التوحيدى بعضا من هواجس السلطة المضمرة أو المؤرقة لها فيما يتعلق بعلاقتها بالعامة، وهو ما يتكرر الحديث عنه فى أكثر من مكان وكأنه أحد مخاوفها الملحة أو نقاط ضعفها المهددة دوما لها.

وعلى النقيض من الموقف السابق يتضح لنا مدى الاهتمام الملح من قبل السلطة بأحاديث العامة عنها، بل إن لغة التهديد والوعيد تبلور هذا الاهتمام وتؤكد حضوره القوى فى بؤرة اللاوعى السلطوى. ولعل المضمر الأكثر عمقا وتخفيا وراء هذا الغضب المستعر هو إدراك السلطة المباغت عجزها السلطوى عن الفهم، فهم نوازع هؤلاء البسطاء ومبررات فضولهم المعرفى.

اختراق العامة

بل إن السلطة التى تمتلك مفاتيح السيطرة فيما يبدو للوهلة الأولى، والتى يندس عسسها ورقباؤها فى كل مكان تكتشف على حين غرة، ومن خلال هذه الممارسات الفضولية للعامة عجزها عن إحكام السيطرة الكاملة على هؤلاء. ولعلها تواجه عدم قدرتها على اختراق عوالمهم السرية، بالقدر نفسه والدرجة نفسها التى بها يخترقون أسرارها ويستبيحون خصوصياتها، ويخوضون فى سيرتها خوضا ينال من هيبتها وقداستها. وهكذا تدرك السلطة بغتة مدى الحصار الذى يمارسه عليها هؤلاء الرعاع، السيل الغثاء، وكيف يضيقون الخناق عليها بما يؤدى لقلب التراتب القمعى لحسابهم. فرغم كل أشكال الزجر وإمكانات الوعيد فإن هؤلاء العامة الهمج لم يكفوا أبدا عن ممارستهم المزعجة والمتحدية والمخترقة لسياجات السلطة وحدودها المقدسة. ولعل المبالغة فى التهديد السلطوى بقطع الألسنة والأيدى والأرجل والتنكيل الشديد بهؤلاء الرعاع لا تكشف فحسب عن الوجه الاستبدادى القمعى للسلطة الظالمة فيما يقول جابر عصفور، بقدر ما تكشف عن كم التهديد الذى قد يشكله البسطاء بفضولهم وشائعاتهم، ومن ثم عن كم الخوف والقلق والعجز السلطوى إزاء هذه الممارسات. بل يمكننا القول إن العنف السلطوى إزاء هؤلاء هو أقصى ما تقدر عليه أو تملكه، وهو ما يشى بعجزها عن السيطرة الفعلية، السيطرة على وعى هذه الجماعات وامتلاك ولاء الروح، والتغلغل فى عمق الداخل حيث يحاصر النظام الفرد والجماعة من الداخل، وليس من الخارج، وهذه هى السطوة الحقة!!

الطابع المقدس للسلطة

ومن المفارقات اللافتة فى هذا السياق أنه بينما تمارس السلطة كل حقوقها، بل تتجاوزها جورا وطغيانا وبغيًا، وإذ تسعى لإلهاء الرعية، وتغييب وعيهم، ونفى حضورهم وفاعليتهم، فإنها لا تكف عن مطالبتهم بأداء فرائضهم الواجبة والمحتومة!! ولعل فى استخدام كلمة فرائض واجبة ما يوحى بالطابع المقدس للسلطة أو ما تحاول إيهام الرعية به، ونشره بينهم وتشكيل صورتها وسطوتها من خلاله فى مرايا وعيهم وزرعه فى ضمائرهم وأرواحهم.وهو الأمر الذى يفسده العامة حين يخوضون فى أخبارها ويفتشون فى أسرارها ويتجرأون عليها فينتهكون مساحات القداسة والخضوع والطاعة المطلقة والفريضة الواجبة!! ولعلنا لا نبالغ إذا قرأنا هذا الزهو السلطوى بدوره فى إطار العجز والخوف أكثر من كونه إعلانًا عن الحضور والسطوة، بل إنه ممارسة دفاعية عالية الصوت تكشف عن نقيضها العميق، حيث الاهتزاز السلطوى فى أزمنة العبث والعنف والتصفيات الدائمة، فلن يمضى عامان حتى يقتل ابن سعدان الوزير نتاج الوشاية والدسائس!!

ومن المثير للانتباه، ما يوصى به الجاحظ الملوك فى هذا الصدد، إذ يقول:

«من أخلاق الملك السعيد البحث عن سرائر خاصته وحامته وإذكاء العيون عليهم خاصة، وعلى الرعية عامة. وإنما سمى الملك راعيا ليفحص عن دقائق أمور الرعية، وخفى نياتهم، متى غفل الملك عن فحص أسرار رعيته، والبحث عن أخبارها، فليس له من اسم الراعى إلا رسمه، ومن الملك إلا ذكره. فأما الملك السعيد، فمن أخلاقه البحث عن كل خفى ودفين حتى يعرفه معرفة نفسه، وأن لا يكون شئ أهم ولا أكبر فى سياسته ونظام ملكه من الفحص عما قدمنا ذكره».

ولعلنا لسنا فى حاجة للتعقيب على هذا النص الجلى بذاته، والذى يمنح الملك الحق المطلق فى البحث والتنقيب عن أسرار الرعية خاصة وعامة، بل دقائق أمورهم، وخفى نياتهم، بل يعتبر هذه الممارسة جذر استحقاق اسم الراعى وذروة تحققه بأداء وظيفته المنوطة به،!! وهكذا، تنتهك خصوصية الرعية تحت مظلة الرعاية الأبوية، والحامية الرحيمة الصارمة، الأعلم بمصالح الرعية منهم، والوصية المقومة لسلوكهم.. إلخ، فى حين أن جذر المسألة هو حماية الملك ونظام واستقراره وسعادته.

ولنتوقف الآن عند كيفية مواجهة السارد لشكوى السلطة، أو لنقل كيفية إغاثته لها!!

من اللافت حقا أن يستخدم أبو حيان الخطاب القمعى للوزير عبر مراوغة السرد ليقلب الأمر عليه، ويورطه مستجيبا لقمعه بما يعريه من براثنه، ومبرراته الاستبدادية، بل ينحرف به عن غايته القمعية، ويرده إلى نقيض هدفه، حيث تنقض الهيمنة بما هو نفى لها وقلب لتراتبها، وفضح لأوهامها وزيف ادعاءاتها الباطلة، وزعزعة لدعائمها الكاذبة. وبالطبع يمارس السارد مراوغاته تلك من منظور البحث عن العلة والداء، رغبة فى فهم وتوضيح الأسباب التى تدفع المحكومين إلى الشغف بتتبع أخبار الحكام واللهفة على معرفة أسرارهم وخفايا القصور، وذلك على نحو ما يؤكد أن العامة فى فعلها هذا، إنما تنقب عما هولها وترجف بما يجدى عليها فهذا هو ثمن الطاعة ومبرر الخضوع. ويقول التوحيدى إن لديه فى ذلك إجابتين فائدتهما عظيمة، إحداهما سمعها من شيخه السجستانى مرآته العاكسة والكاشفة وقناعه الحاجب الحامى فى آن!! والثانية من أحد مشايخ الصوفية!! وقد غدا كل من الصوتين الغائبين المروى عنهما تعبيرًا عما يدور فى ملكوت الرعية المستتر، أو لنقل عن توقعاتهم وما يتمنونه من راعيهم المثالى!! ويسعى التوحيدى السارد المحايد، فيما يدع لحماية نفسه من المواجهة غير مأمونة العواقب مع السلطة، حتى لو كانت عبر ألف قناع ومساحة مراوغة وهو ما يؤكد فى حد ذاته الطبيعة القمعية الاستبدادية لهذه السلطة وهكذا يعلن التوحيدى قبل النطق بالإجابتين شرط النطق بهما، وهو أن يتقبل الوزير ما فى منطقهما من صراحة موجعة، وما فى تبريرهما من غلظة، فالحق مر، ومن توخَّ الحق احتمل مرارته. ويقبل الوزير الشرط قائلا «فاذكر الجوابين وإن كانا غليظين، فليس ينتفع بالدواء إلا بالصبر على بشاعته وصدود الطبع عن كراهته».

واستمع إلى الوزير، وهو يقول:

«إنى قاعد معكم وكأنى غائب، بل أنا غائب من غير كاف التشبيه، والله ما أملك تصرفى ولا فكرى فى أمرى، أرى واحدا فى فتل حبل، وآخر فى حفر بئر، وآخر فى نصب فخ، وآخر فى دس حيلة، وآخر فى تقبيح حسن... وآخر فى تمزيق عرض وآخر فى اختلاق كذب، وآخر فى صدع ملتئم... ونارى مع صاحبى رماد، وريحه على عاصفة... ونصيبى منه هموم وغموم... ولولا أننى أطفىء بالحديث لهبًا، قد تضرم صدرى به نارًا... لما تحدثت به ولو استطعت طيه لما نبست بحرف منه، ولكن كتمانى للحديث أنقب لحجاب القلب من العتلة لسور القصر.

دخلت منذ أيام فوصلت إلى المجلس فقال لى، قد أعدت الخلعة فالبسها على الطائر الأسعد، فقلت أفعل، وفى تذكرتى أشياء لابد من ذكرها وعرضها فقال: هات: فقلت: يتقدم بكذا وكذا، فقال: عند جميع ذلك، امض هذا كله، واصنع فيه ما ترى، وما فوق يدك يد، ولا عليك لأحد اعتراض، فانقلبت عن المجلس إلى زاوية فى الحجرة، وفيها تحدرت دموعى، وعلا شهيقى... حتى كدت افتضح فدنا منى بعض خدمى من ثقاتى فقال: ما هذا؟ الناس وقوف ينتظرون بروزك بالخلعة المباركة والتشريف الميمون، وأنت فى نوح وندم؟... وإنما كان ذلك العارض لأنى كنت عرضت على صاحبى أشياء مختلفة، فأمضاها كلها ولم يناظرنى فى شىء،... ولعلى قد بلوته بها، وأخفيت مغزاى فى ضمنها، فخيل إلى بهذه الحال أن غيرى يقف موقفى، فيقول فى قولا مزخرفا، وينسب إلى أمرا مؤلفا، فيمضى ذلك أيضا له كما أمضاه لى... فوجدتنى... كراقم على صفحة ماء أو كقابض فى جو على قطعة من هواء».

لحظة المواجهة

ولعل كل هذه المواقف والأحاديث مخترعة ولم تحدث أبدا كما سبق وذكرنا لكن سواء حدثت أم لا فإنها تلتقط أغوارا بعيدة وخفايا مضمرة فى عمق الفضاء السلطوى بتجلياته المختلفة وعلاقاته المتشابكة فتعريها أمامنا. فضلا عن كونها توضح لنا العديد من مفارقات لحظة المواجهة الخطرة سالفة الذكر بين أبى حيان والوزير أو المثقف والسلطة الشاكية المؤرقة بأحاديث العامة وفضولهم المنتهك لخصوصيتها.

ويضعنا النص السابق إزاء سلطة مسكونة بمخاوفها ومؤرقة بكم هائل من التهديدات النابعة من عمق الفضاء السلطوى ذاته، وما يدور داخله من صراعات خفية عنيفة بين رموزه وقاطنيه من أجل حيازة مساحة أكثر اتساعا وتأثيرًا وقربا من المركز السلطوى، ومن خلال إزاحة الآخرين، بل عبر السير على جثثهم وأشلائهم إن لزم الأمر. وبالطبع تستخدم داخل هذا الصراع الدامى كل الوسائل القذرة والمنحطة والشرسة بلا واعز من ضمير أو دين أو أخلاق، أو أعراف.

نزوات السلطة

وليس ثقل المسئولية هو ما يخيف الوزير ويعذبه ويشجيه، لكنه الخوف والفزع من نزوات السلطة وتقلباتها العبثية، فمن ناحية، تلقى السلطة بالعبء كاملا على كاهل الوزير، وتمنحه صلاحية التصرف المطلقة وهو فخ مراوغ تنصبه السلطة للوزير، وليس تشريفا ميمونا. ذلك أن إطلاق اليد، وعدم المساءلة أو المراجعة. وإن كانت تصنع الطاغية، فإنها قد تحفر له قبره وتسوقه إلى حتفه، حيث يغدو هو وحده حامل المسئولية وهو وحده مقترف الذنب والجريمة، وهو وحده مستحق العقاب والمساءلة. ومن وراء القناع المستعار الذى تم استخدامه بحذق ومهارة تختفى السلطة طاهرة بيضاء اليد فى مخيلة العامة والبسطاء، ويحمل القناع الوزير الطاغية الظالم وزر كل الأخطاء والجرائم التى تمت بعيدا عن أعين الخليفة أو الأمير، والذى لم يعرفها قط، لأنه لو عرفها لمنعها بعدالته وفضيلته، وهو بالطبع حين يعلمها بغتة!! يعزل الطاغية، ويصفيه على كل المستويات. حينئذ يغدو هؤلاء الأيدى القذرة لسلطة ناصعة البياض، طاهرة اليد والذيل، يتم تعميتها عمدا عن المظالم من خلال هؤلاء الوسطاء المدلسين. يروى لنا جيمس سكوت فى كتابه المهم «المقاومة بالحيلة» كيف كان الشعب الروسى الساذج يؤمن بالقيصر المخلص، ويبرئه من كل أشكال التعسف والظلم الواقعة عليه، ويلوم فى هذا الصدد الموظفين الذين يخيبون ويخونون ثقة القيصر. وهكذا، يغدو هؤلاء الطغاة المنفردون بالسلطة ظاهريا كباش فداء تضحى بهم السلطة حين تدعو الحاجة إلى ذلك، وأحيانا لأبسط الأسباب. اللهم إلا إن كانوا ساسة دهاة يملكون زمام الأمر فعليا فى أيديهم، بل يملكون من المعرفة العميقة بثغرات الرؤساء وخفاياهم ونقاط ضعفهم ما يجعلهم أصحاب الهيمنة الفعلية لايهددهم شىء، وفى ظل العلاقات الاستخدامية القاسية، ينعدم جو الثقة بين السلطة ورجالها، ويصبح من السهل عليها أن تستمع لأى وشاية أو دس، وتستجيب له استجابة سريعة وعنيفة تفوق كل التوقعات وتجاوز كل أشكال المنطق والعقل كأنها عاصفة ضروس تقتلع الكل من جذوره اقتلاعا!! ويمس الوزير الجرح، جرحه الحى دوما، معلنا عن عدم ثقته فى سلطة لا تراجعه، وقد وعى طبيعة الشرك المنصوب له، والذى سينقلب عليه يوما. ذلك أن السلطة مثلما تطلق له العنان ليصنع ما يشاء، وقد يكون من بين ما يصنع أشياء تسىء لآخرين وتضمر إيذاء المناوئين، ومع ذلك لا تراجعه السلطة أو تسائله، ولعلها تستمع يوما لغيره ممن يدس له، ويقدح فى أمره بشكل غير مباشر ويضمر له سوءا فتمضى أمره فيه ولا تراجعه، وتكون فى هذه نهاية الوزير الحتمية التى لا مفر منها. وقد ينبع هذا السلوك السلطوى من اللامبالاة أو الغفلة المعرفية لسلطة تجهل طبيعة دورها الرقابى على مرءوسيها، وضرورة تفشيها وتحريها حول خفايا قراراتهم وممارستهم، توخيًا للعدل وإيصال الحق لأهله والقيام بمصالح الخلق على خير وجه.

الوجه القبيح

وبالطبع، فإن الوزير فى ظل هذه المراوغات والصراعات السلطوية لا يعنيه حجم المسئولية فى إطارها الدينى أو الأخلاقى بقدر ما يعنيه وضعه السلطوى، وضرورة حمايته من إمكانات الزوال أو الإقصاء من فضاء السلطة، وما قد يترتب عليه من تصفية معنوية ومادية، ومصادرة أموال وانتهاك حرمات إلخ. إنه يخشى تلك اللحظة التى تسفر فيها السلطة عن وجهها الميدوسى القبيح، وتفقد ذاكرتها وتنسى كل أياديه عليها، وخدماته لها، فتغدر به وتطيح بوجوده.

أو كما يقول:

«إنى ظننت أن ما نظمه الماضى - رحمه الله - وأصلحه وبناه... لا يستحيل فى ثلاثين أوخمسين سنة، وأن الحال تدوم على هذا المنهاج... ونكون قد أخذنا بطريق من السعادة، وبلغنا بأنفسنا بعض ما كنا نسلط عليه التمنى... فنجمع بين علو المرتبة وشرف الرياسة، ونيل اللذة، وإدراك السرور واصطناع العرف، وكسب الثناء، ونشر الذكر، وبعد الصيت، فعاد ذلك كله بالضد، وحال إلى الخلاف، ووقف على الفكر المضنى، والخوف المقلق، واليأس الحى، والرجاء الميت».

وهكذا تفتضح السلطة، وتتبدى حقيقتها النرجسية المدمرة لذاتها وحضورها ومن ثم تفقد إمكانات التعاطف معها، حيث تستحق ما يجرى عليها. فها هو الوزير ابن سعدان المدعى للعدالة والحكمة والفضيلة على طوال الليالى، أو كما حاول التوحيدى أن يصوره كنقيض مواز لابن عباد ولابن العميد، لا يلبث أن يفضح ذاته بذاته. أو لنقل إن التوحيدى يدمر الصورة التى نسجها وينقضها كاشفا عن سوأتها بطريقة مضمرة ومراوغة بين الحين والآخر. إن الوزير لايعنيه إلا مباهج السلطة والسؤدد وهو لا يخدم إلا نوازعه السلطوية، ولاشىء آخر. حقا إنه معنى كالأسلاف العظام بحسن السيرة ونشر الذكر... إلخ، لكنه ليس معنى بها فى إطار الرعية، بقدر ما هو معنى بها فى إطار الرؤساء مالكى زمام الأمور، إنها وسيلته للبقاء والاستمرار، ودرعه الحامى أو هكذا كان يظن من الوشاة والدساس. غير أن الأوهام تنقشع، وينتبه الوزير إلى هشاشة البناء الذى سعى لتشكيله وصياغته.

فى ظل هذا الوضع المعقد الملىء بالمفارقات، يتبدى المنطق الذى يحكم لحظة المواجهة بين التوحيدى والوزير فى هذا السياق، سياق أحاديث العامة وفضولهم المعرفى إزاء السادة. وهو منطق ملىء بدوره بالمفارقات. فمن ناحية، لا تخلو المواجهة من إمكانات المخاطرة الحقة، ومن ناحية ثانية، تنطوى اللحظة على إمكانات برحة لممارسة المثقف حرية النقد والحوار، وانتزاع المشروعية لسلوك الرعية بما يحقق درجة من درجات التشارك بين السلطة والرعية.

ولنتوقف أولا عند إمكانات المخاطرة والمجازفة لحظة الحوار والمواجهة، حيث قد تلتقط السلطة القامعة المقموعة أى بادرة خارجية للإساءة إليها أو إيذائها أو حتى نقدها التقاط خائف متربص بكل المحيطين الذين يتوقع منهم الغدر أو الخيانة، فتبادر إلى القمع العنيف والإبادة الفعلية حيث يغدو الآخر الناصح، ناقضا للهيبة، معريا للهواجس ومكامن الخوف والضعف، مهددًا للاستقرار السلطوى الزائف، أو مرآة مجسدة لملامح الخوف الدفين، فحين يُقتل، يقتل الخوف أو يتوارى، ولو إلى حين. وتعلو نغمة المخاطرة فى ظل حضور المثقف النقيض المرائى، مرآة السلطة المجلى لنوازعها النرجسية، وها هو نموذج ابن زرعة يرد على شكوى الوزير، وخيبة أمله فى نيل المباهج السلطوية، قائلا:

«إن الأمور كلها بيد الله... ولا يستدفع الشر إلا به، فسله جميل الصنع وحسن النية وانواع الخير، وبث الإحسان وكل أعداءك على ربك الذى إذا عرف صدقك وتوكلت عليه فلله حدهم، وعفر خدهم، وسيح الفرات إلى جمرتهم حتى يطفئها، وسلط الأرضة على أبدانهم حتى تقرضها، وشغلهم بأنفسهم، وخالف بين كلمتهم، وصدع شمل جميعهم، وردهم إليك صاغرين ضارعين... خاضعين، وما ذلك على الله بعزيز. قال الوزير «والله لقد وجدت روحا كثيرا بما قلت لكم، وما سمعت فيكم، وأرجو الله أن يعين المظلوم، ويهين الظالم!!».

وهكذا، تتجلى السلطة بريئة طاهرة مظلومة عبر مرايا الإله الرحيم، المنتقم للمظلومين المغبونين وقد صاغها خطاب المثقف السلطوى، روح السلطة وراحها المهدهد لمخاوفها عبر تخدير هذه المخاوف وتسكينها دون البحث عن أسباب الداء الحقة، ووصف الدواء الفعلى الجذرى الشافى، حيث يبلور هذا المثقف صورة السلطة ضحية لأعدائها المجرمين المتربصين بها، وبدلا من الحديث عن عدالة السلطة يكون الحديث عن عدالة الإله عوضا وبديلا مريحا ناجزا لانتقام إعجازى الطابع وكأنه انتقام الإله لأنبيائه الصالحين وعبيده من الأولياء المضطهدين. فها هو الفرات يفيض مطفئا نيران فتنتهم والأرضة تقرض أبدانهم... إلخ. وإذ يشتت الله شملهم، ينقلب التراتب، وينتصر المظلوم ويرد الحق لأهله صاغرين خاضعين يعترفون بذنوبهم ويتوبون عنها، وكأنهم يركعون أمام الإله الذى حمى الوزير ورد له حقه!! نموذج فذ ولافت لكيفية استخدام الخطاب الدينى من أجل دعم مركزية السلطة وأوهامها النرجسية حول ذاتها، هنا تغدو الصورة المثال أداة يستخدمها المثقف لتكريس السلطة وليس لترويضها وقمعها وتربيتها!!

وفى ظل هذا الحضور النقيض المعضد، بل الصدى المطابق لصوت السلطة المهدهد لهواجسها ومخاوفها، تغدو مخاطرة الصوت الناقد الباحث عن الداء والدواء أعلى وأشد. لكن الحال ينطوى دوما على إمكانات النقيض، ذلك أن السلطة تفتح ببوحها وإعلانها مخاوفها مساحة برحة لتجاوز المثقف الناقد الحدود، دون أن ينطوى هذا التجاوز على مخاطرة تصل إلى حد التصفية الفعلية. ذلك أن مساحة البوح قد توفر للمثقف إمكانية لممارسة دور الناصح الصديق مستمع الموجدة الحميم الذى لا يهدأ إلا حين يضع يده على مكمن الداء أو الخطر لإنقاذ السلطة، وإغاثتها. بل يمكننا القول، بأن السلطة قد مارست عبر هذا البوح مساحة للنقد الذاتى، ربما على غير وعى واضح منها بذلك، ومن ثم فتحت مجالا للمثقف لكى يمارس حضوره النقدى على أساس من أقوالها ونقداتها. إنه الوعى بنقاط ضعف السلطة وثغراتها والذى تدل عليه بلسانها، وقد شهد شاهد من أهلها عليها، وحيث يتم استغلال أرق السلطة وخوفها المهتاج الذى أطلق لسانها على حين بغتة، وفى غير محل، ومساحات الانتظار اليائس القلق لتوقعات النهاية المرعبة!!.

 


هالة فؤاد