زينب فواز رائدة تحرير المرأة درة الشرق

زينب فواز رائدة تحرير المرأة درة الشرق

لهذه اللبنانية الجنوبية الأصل، ابنة تبنين من جبل عامل، قصب السبق على قاسم أمين صاحب «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» في الدعوة إلى تحرير المرأة من الوجهة الزمانية لكن أعمالها الأدبية الاجتماعية لم تحظ برعاية مماثلة لأعمال الكاتب النهضوي إلا بصورة متأخرة.

كان صوت زينب فواز، الأول في الدعوة إلى النهضة والتحرير، قبل مي زيادة وهدى شعراوي من الوجهة الزمنية، وذلك في شتى المواضيع والقضايا التي تطرقت إليها في الشرق عموماً، فلم تترك سانحة دون أن تسجل فيها موقفاً، بيراع كالسيف، ومداد كقطر الندى، وامتازت في عصر تميز بالجهل والأمية والإقطاع السياسي، في خوض غمار قضية تحرير المرأة من الحجاب الروحي والذهني والعقلي، بالرغم من قبولها مراعاة للتقاليد الدينية البقاء في الحجاب في عصر كانت قضية المرأة، وهوية المرأة، مغيبة في خدور الحريم والمحرم (التابو).

وقد وضعت أعمال وكتابات رائدة النهضة العربية (النسوية) الأولى قضية المرأة في نصاب جديد، في الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل في العلم والعمل والسياسة والاجتماع، وتميزت عن غيرها من رواد ورائدات النهضة بعصاميتها، وجرأتها، وأدبها الجم الرفيع (كأديبة اجتماعية فذة وشاعرة مجيدة) واستحقت بسبب ألمعيتها لقب «درة الشرق» لا سيما وقد جمعت ما بين الموقف الفكري والموقف العلمي والأدبي في معية واحدة.

هي بنت علي بن حسين بن إبراهيم بن محمد بن يوسف فواز العاملي. وكانت أسرتها على ما يبدو مقربة من الأسرة الأسعدية، فاتصلت زينب بالسيدة فاطمة الخليل زوجة علي بك الأسعد، وقضت شطراً من صباها في القلعة إلى جانبها، ويبدو أن القلعة كانت مسكناً لهذه العائلة الغنية، وكانت فاطمة على شيء من التحصيل العلمي في ذلك الحين، فحفظت القرآن ودرست العلوم والتفاسير والفقه، وكانت لها اهتماماتها بالعلم والأدب شعراً ونثراً. وقد أفردت لها زينب ترجمة (سيرة) شخصية في كتابها «الدر المنثور». وقد تبنت الست فاطمة الصبية زينب بالرعاية والاهتمام، بما ظهر على سيمائها من علامات الفطنة والذكاء، وعلّمتها القراءة والكتابة، وشجعتها على طلب العلم، فحفظت القرآن وفهمته، ووعت جوهر الذات الإنسانية، وانكبت على ينابيع الثقافة والمعرفة.

يتساءل البحاثة محمد يوسف مقلد في مقال كتبه في مجلة «العرفان» عن المصدر الذي ألهم تلك الرائدة من رائدات الأقلام النسائية، في القرن التاسع عشر، ودفعها إلى بلوغ مرتبة رفيعة بين أدباء عصرها، بحيث باتت تلقب بـ «حجة النساء» و«درة الشرق». فكيف ظهرت هذه الفتاة العاملية ونبغت، حاملة لواء العلم والمعرفة، في عهد كالعهد العثماني، وفي بيئة إقطاعية تفشى فيها الفقر والجهل والقهر، في مجتمع يقتصر فيه العلم على طبقة الموسرين والأغنياء من أبناء العائلات ذوات النفوذ؟ ويبدو أن الجواب يكمن في السؤال، فالثابت أن الخلفية الثقافية والفكرية كانت موجودة أصلاً في هذه البيئة المقتصرة على بلاطات وقصور الإقطاع ورجال الدين.

ورغم أن الكاتبة أرّخت لأربعمائة وست وخمسين امرأة من سيدات الشرق والغرب في كتابها الموسوعي «الدر المنثور» فإنها لم تترك ترجمة شخصية لها. وكل ما يعرف عن أصلها أنها ولدت بين (1845 - 1850) في بلدة تبنين في جنوب لبنان، وتختلف المراجع حول تاريخ ولادتها الصحيح.

وقد احتوى كتابها الموسوعي «الدر المنثور» على تراجم النساء وطبقاتهن (على غرار طبقات الشعراء، وطبقات الحكماء) وجمعت فيه، كما تقول، من تراجم شهيرات العرب ومتقدمات الإفرنج، وملكات الشرق والغرب، من كل أديبة فاضلة، وملكة عاقلة، وخطيبة وناثرة.

بعد فشل زواج زينب الأول (من رجل كان رئيساً لساسة الخيل عند آل الأسعد) لاختلاف طباعهما، وتفاوت مستوياتهما الثقافية والفكرية، شاءت زينب ولعل زواجها الأول كان درسها الأول في قضية التحرر أن تكون هادية ومرشدة لبنات جنسها في الوعي بقضية تحرر المرأة من جمود المجتمع ورجعيته. وقررت أن تحقق ذاتها بذاتها في بيئة أكثر انفتاحاً وتحرراً، فذهبت إلى مصر عاصمة النهضة العربية الثانية، بعد الشام، التي كانت خاضعة للنفوذ الاستبدادي العثماني المباشر حينها. وفي مصر اكتملت شخصية زينب فواز الأدبية والفكرية، وحققت تطلعاتها الفكرية التي تجلت في معالجتها لشتى الموضوعات السياسية والإجتماعية، وراحت تكتب مقالاتها الإصلاحية والتوجيهية في صحف ذلك العهد، مطالبة بحقوق المرأة، وقد اتخذت من الصحافة ومجلاتها وجرائدها منبراً لقضية تحرير المرأة.

كانت زينب فواز كاتبة نهضوية تعد الإنسان قيمة قائمة بذاتها، في نظرتها العلمية، العقلانية، «الطبيعية»، وكانت تضع قضية المرأة في هذا الإطار الحقوقي، إذ ترى بأن كل ما في الكون خاضع لسنة التطور ومنطق التحول والتغّير، وأن الجمود ليس من طبيعة الكون، ولا من أنظمة الاجتماع البشري، فكانت بذلك كاتبة تطورية، تقدمية، نهضوية تنويرية في دفاعها عن قيم الإنسان والعقل، والعلم والحرية والمساواة.

الروح الإنسانية

رأت زينب فواز أن الروح الإنسانية جوهر لاذكر ولا أنثى، ودعت بناءً على ذلك إلى المساواة بين الرجل والمرأة في العلم، والعمل، والاجتماع والسياسة، ولهذا رفضت التمييز الجندري (الجنساني) (بدعوى الخلاف البيولوجي) بين الرجل والمرأة، ودعت إلى مشاركة المرأة في الحياة العامة.

وقد رسمت زينب فواز صورة للمرأة على مثال تجربتها، هي، كامرأة مناضلة تنخرط في الحياة العامة، وتقود المعارك، والسجالات، والمناظرات، بصورة ندّية، مع جهابذة الفكر، والسياسة، والأدب، دفاعاً عن حقوق المرأة. وكانت من أنصار الزعيم مصطفى كامل، تواظب على الاستماع إلى خطبه المناوئة للاحتلال الإنجليزي والداعية للجلاء والاستقلال.

وكانت على عداء مع اللورد كرومر، حاكم مصر، - بعكس عدد من الكتاب الشاميين كشبلي الشميل مثلاً الذين أيدوا الاحتلال ولعل هذا ما يفسر لنا التعتيم والتجاهل اللذين شملا كتاباتها النقدية، إذ كانت بعكس قاسم أمين مثلاُ تتجنب صالون الأميرة نازلي ومناخاته المؤيدة للقصر والخديوية والانتداب الإنجليزي على مصر. حتى أن زينب فواز توقفت في آخر سنوات عمرها عن الكتابة، ولم نحصل بسبب هذا الاعتكاف مع الأسف على كل مقالاتها، ولم ينشر لها في الحقيقة إلا الجزء الأول من «الرسائل الزينبية» موضوع الكتاب من الرسائل، ولم يتم العثور على الجزء الثاني من هذه الكتابات حتى الآن الأمر الذي يستدعي البحث عنها في الصحف والمجلات التي ضمت هذه المقالات المبعثرة، غير المنشورة بعد.

من أجل النهوض بالمرأة

وكانت زينب من المحبذات للمشاركة في الجمعيات والمعارض والمؤتمرات العالمية، إيماناً منها بوجوب التعارف والتبادل في المجال الثقافي، والمعرفي، كمؤتمر الإتحاد النسائي العالمي في سنتياغو (1893) وهو مؤتمر اهتم بحقوق المرأة.

وكانت السيدة هنا كوراني، ممثلة نساء سورية في ذلك المؤتمر الذي دعا في قراراته النهائية إلى تحديد تعليم المرأة، ومجال نشاطها في البيت والأسرة. وقد انبرت يومها زينب تناهض هذا القرار، وتنتقد بعنف اللواتي أشرفن على المؤتمر، مشددة على وجوب إطلاق ميدان العلم (إميلي فارس ابراهيم، أديبات لبنانيات، ص34).

وتحت عنوان «المرأة والسياسة» في «الرسائل الزينبية» ترد أيضاً على السيدة هنا كوراني التي كتبت في جريدة «لبنان» تدعو إلى حصر المرأة همها في منزلها، وإقلاعها عن مزاولة الأعمال الخارجية المختصة بالرجال كالسياسة مثلاً. وكان ذلك على أثر ظهور حركة نسائية في لندن، أيام غلادستون، تطالب بأن تشتغل المرأة بالسياسة. فهبت زينب تؤيد هذه الفكرة، وتحمل على كل من يقف ضدها. ومما ورد في مقالها: «ما دام الرجل والمرأة متساويين في المنزلة العقلية وعضوين في الهيئة الإجتماعية، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، فما المانع إذا اشتركت المرأة في أعمال الرجل، وتعاطت العمل في الدوائر السياسية وغيرها، متى كانت كفؤاً في تأدية ما تطمح اليه. إن المرأة في التاريخ اشتغلت في السياسة، وشاركت في الحروب، فملكة تدمر، وكليوباترا، واليزابات وغيرهن كثيرات، كن نساء قادرات على كل تلك الأعمال، فالجنسان متساويان، وإنما الإهمال هو الذي جعل المرأة متأخرة متخلفة عن الرجل (الرسالة الزينبية، ص24).

وكانت كتاباتها، فضلاًعن ذلك، تتميز ببعد نقدي، فتفرق بين الغث والسمين، وتمحّص مواقفها على ضوء العقل والحكمة، داعية إلى أخذ أسس المدنية الحقيقية ومقوماتها عن الغرب، دون الانغماس في زخرف المدينة الكاذب، في اللهو المفرط، والتقليد الأعمى، في الوقت الذي يخضع فيه الشرق للانتداب الاستعماري، وهي تهيب في أشعارها بهذا الشرق أن ينفض عنه غبار التواكل والجهل والغباء، وأن يحتكم للعقل والرأي والعلم فتقول:

فلئن نبا السيف الصقيل ففي النهى
والعلم، سيفا حكمة ودهاءِ
ولئن كبا الطرف الجواد فلم يزل
للعقل ميدان لنيل علاء
ولئن أبى ذو الحقد نيل رجائنا
فالرأي يضمن نيل كل رجاءِ
هيهات ما العميان كالبصراء
كلا، ولا الجهلاء كالعلماءِ

وقد رأينا زينب تنادي بتحرير المرأة، وسن قوانين تنظم حياتها وتضمن لها حقها بالعلم والعمل. أما قاسم أمين فقد كان متأخراً عنها، إذ إن رسائلها الزينبية في موضوعات المرأة كانت تنشر في الصحف المصرية قبل سنة 1892، بينما لم ينشر قاسم أمين كتاب «تحرير المرأة» إلا سنة 1898، ولعله تأثر بكتاباتها ومقالاتها العديدة والغزيرة، في جرائد «المؤيد»، و«الأهالي»، و«المهندس»، و«الهلال»، و«المقتطف»، و«أنيس الجليس»، و«اللواء»، و«رائد النيل»، و«لسان الحال» إلخ... كما ذكرتها مي زيادة في كتاباتها، الأمر الذي يؤكد تأثرها بها وبكتابات رفيقتها عائشة تيمور.

وتتشابه حياة مي زيادة وزينب فواز في مرارة الإحباط في العلاقة مع الرجال، مع فارق أن الأولى ظلت عزباء في انطوائها على ذاتها، وإحباطها في إيجاد «الرجل الكامل» الذي يغلب الإيثار على الإثرة في علاقته بالمرأة، في حين أن الثانية تزوجت، وتطلقت (أو طلقت رجالها) مراراً، من زوجها سائس الخيل الذي عجز عن سياسة شريكته وفشلت هي في ظل حالة اللاتكافؤ، وذهبت جهودها سدى، في حسن سياستها له، وحتى زوجها الثاني الأديب صاحب مجلة «الشام» أديب نظمي الذي أراد ضَمّها إلى مجموعته النسائية باعتبارها رابعة حريمه، دون أن تدري مسبقاً على ما يظهر بزيجاته المتعددة، وكان من الطبيعي ألا يعمر هذا الزواج مع امرأة كانت ترى في تعدد الزوجات «وبالاً على الطرفين، لأنه يقضي على المرأة بالغيرة، وعلى الرجل بنكد الدهر، ويورث الأولاد العداوة بعضهم لبعض أشد من عداوة الأمهات» فما كان أمامها إلا الطلاق والعودة إلى مصر، حيث عادت إلى حريتها، وإلى مزاولة نشاطها الأدبي. وقد بقيت في مصر حتى جاءها الأجل. لكن نجاحها في مصر لم يستطع أن ينسيها وطنها الأول، ويبدو أن أديبتنا كانت تنوي العودة إلى تبنين، في جنوب لبنان، ولكن المرض ألمّ بها، وحال دون ذلك. وقد صبّت هذا الحنين إلى الوطن الأول في قصيدة أرسلتها إلى صاحب مجلة «العرفان» تقول مخاطبة قلعة تبنين فيها:

أبكيك يا صرح كالورقاء نادبة
شوقاً إليهم إلى أن ينتهي الأجلُ
قد كنت مسقط رأسي في ربى وطني
إن الدموع على الأوطان تنهملُ
تبنين إن كنت في بعدي على حزن
فاليوم يوم رجوعي القلب يشتعلُ
وقفت وقفة مشتاق به شغفٌ
عليّ أرى أمراً يحيا به الأملُ
إذ الأحبةُ قد سارت رحالهم
فزاد شوقي كما قلّت بي الحيلُ
فالنفس شاكيةٌ والعين باكيةٌ
والكبد داميةٌ والقلبً مشتعلُ

قد يؤخذ على زينب فواز أنها لم تدع إلى السفور، والتزمت الحجاب، كزي، وفي هذا الموقف، ضمن الظروف الشخصية والتاريخية التي عاشتها، تأكيد على أن التحرر من الحجاب ليس مسألة زي - بعكس المواقف النسوية المتطرفة وإنما تحرر ذهني وعقلي وروحي في حرية الاختيار ما بين السفور والحجاب..

مثقفة واسعة الاطلاع

تفصح مقالات زينب فواز المنشورة عن ثقافة عميقة، تبين سعة إطلاع على مسائل الأدب واللغة والفلسفة والكلام، وتذكر الكاتبة في مجلة «المهندس» (عدد 7 تاريخ 19 محرم سنة 1310هـ) أنها اطلعت على مسائل متضمنة حكماً من كلام بعض فلاسفة الإسلام وعلماء الكلام والأدباء كيحيى بن عدي، وأبو محمد الأندلسي (ابن حزم) وأبو حيان التوحيدي. وهي تأتي على ذكر علوم النحو والمنطق والأدب والطب والحساب والجغرافيا، ويجلو في اختيارها نزعة إنسانية أصيلة، في اختيارها لهؤلاء الأدباء الإنسانيين الكبار في التراث الفكري.

في 27 يناير سنة 1914 صدرت مجلة «العرفان» وفيها الخبر التالي: نعت إلينا أنباء مصر، المرحومة زينب فواز، الكاتبة، الشاعرة، المؤلفة، وأول امرأة اشتهر اسمها في عالم الأدب والكتابة في الصحف. وقد نالت شهرة بعيدة في حياتها، ونالت حظوة كبيرة عند كبراء مصر وسورية. وهي عاملية ولدت في قرية تبنين من أعمال صور. واطلعنا على كتابها «الدر المنثور» لنرى إذا كانت قد ترجمت لنفسها فيه فلم نحظ ببغيتنا...

وقد تركت أديبتنا بعد وفاتها تراثاً من الكتابات، من بينها، عدا «الدر المنثور» و«الرسائل الزينبية» كتاب «حسن العواقب» وهي رواية أدبية ذات مغزى خلقي أرادت فيها الكاتبة تمثل عادات جبل عامل وتقاليده، وقصدت كما تقول تعويد الإنسان على الكفاح ومواجهة الأذى للوصول إلى النتيجة المرجوة، وهي التمتع بالخير والحب والجمال (حسن العواقب، المقدمة، المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ص 24).

 


جميل قاسم