بورخيس.. أسطورة الأدب

بورخيس.. أسطورة الأدب

بالرغم من مرور اثنتين وعشرين سنة على غيابه لايزال الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس حاضراً بقوة في حياتنا الأدبية والفكرية وقادراً على رفد الثقافة المعاصرة بكل ما يلزمها من عناصر التجدد والحيوية والتنوع.

بورخيس الذي لم ينجح في الحصول على جائزة نوبل للآداب، بالرغم من أن اسمه كان يتكرر على لوائحها لدورات عدة، نجح بالمقابل في تثبيت حضوره على لوائح الكتّاب الخالدين أكثر بكثير من بعض الحائزين على هذه الجائزة والذين عادت أسماؤهم بسرعة قياسية إلى خانة النسيان. وما يؤكد هذا الزعم أنه لا يكاد يمر عام واحد دون أن يصدر كتاب جديد حول أدب بورخيس ونظرياته النقدية والمعرفية أو حول قصصه القصيرة التي اعتبرت ولاتزال فتحاً حقيقياً في هذا الضرب من ضروب الإبداع. وربما كانت قيمة صاحب «مديح الظل» و«كتاب الرمل» الإضافية متمثلة بشكل أساسي في كونه قد أعاد الاعتبار لمفهوم المثقف الموسوعي الذي يطل على الكثــــير من المعارف والعلوم والحضارات اطلالة الرائي المتبصر لا السائح الجوال.

قد يكون كتاب «بورخيس أسطورة الأدب» الذي ترجمه وقدم له الناقد المغربي محمد آيت لعميم متأخرًا قليلاً عن العديد من الكتب والدراسات والأبحاث التي سبقته، وقد تكون بعض فصول الكتاب غير جديدة على القارئ العربي الذي سبق له أن قرأها في ترجمات أخرى، ولكن قيمة الكتاب الأبرز تنبع من تنوّعه كما من طابعه البانورامي الذي يشتمل على وجوه كثيرة من نتاجات الكاتب الراحل وكشوفه ورؤاه. كأن المؤلف، عن قصد أو غير قصد، شاء أن يحاكي البانورامية البورخيسية نفسها، فضمّن كتابه، إضافة إلى المقدمة، حوارًا شائقاً مع ماريا كداما، زوجة بورخيس، ومقالات في الاستعارة والرمز والزمن لبورخيس نفسه، ومقالات عن أدبه وإبداعاته لإمبرتو إيكو وآرون فارغا وعبدالفتاح كيليطو وخوان غويتسيليو وبيير ماشري وجون آروين، فضلاً عن حوارات عدة أجراها معه بعض أصدقائه ومتابعيه. هكذا يكتسب الكتاب أهميته الفعلية من تنوع المقاربات وتعدد زوايا النظر إلى الظاهرة البورخيسية التي شكّلت وحدة من أبرز الظواهر المعرفية في القرن العشرين.

العالم كتاب كبير

من بين أبرز الأفكار التي يتضمنها كتاب «بورخيس أسطورة الأدب» تلك الفكرة المتعلقة بالكتابة والكتب والتي ركز عليها بيير ماسَري في مقالته «بورخيس والحكاية التخييلية». فبورخيس ينظر إلى العالم بوصفه كتاباً كبيراً لم نتوصل بعد إلى فك رموزه وألغازه، لا بل إنه يذهب أبعد من ذلك ليعتبر أن الفردوس بحد ذاته ليس سوى مكتبة هائلة تتجمع فيها كل أشكال الزهور والحدائق المعرفية، وهو ما يجعل البعض يعتقدون بأن الكاتب الأعمى ربما يكون بشكل أو بآخر قد اقتبس فكرته تلك عن سلفه العربي، الضرير بدوره، أبي العلاء المعري الذي اعتبر في «رسالة الغفران» بأن الجنة المنتظرة ليست سوى نادٍ أدبي كبير. وبورخيس يستشهد في هذا السياق بقول إميرسون «إن المكتبة هي مجرة سحرية يختبي فيها العديد من الأرواح المسحورة. إنها أرواح تستيقظ عندما تنادى. فأي كتاب لا يفتح يكون كتلة وشيئاً بين الأشياء. وعندما يحصل الكتاب على قارئه يحدث الفعل الجمالي».

وبما أن القارئ ليس واحداً، بل هـــو متغير باســــــــتمرار، فإن الكتاب بـــــدوره لن يكـــون واحداً بل سيتحول إلى نص مــــتغير ومفـــــــتوح وقابل دائماً لتأويلات مختلـــفة. لا بل إن القـــــارئ نفسه لا يقرأ الكتـــاب بالطريقة ذاتــــها في المــــرات التالية لأنه عند ذلــــك لن يكون الــــقارئ إياه. بهذا المعنى يصبح النص، كما الإنسان، شبيهًا بنهر هرقليطس الذي لا نسبح فيه مرتين.

وقد تلخص قصة بورخيس الشهيرة «مكتبة بابل» الكثير من رؤيته إلى الكتابة والكتاب سواء من حيث مقارنته بين الكتاب والمتاهة أو من حيث تركيزه على مقولة «الكتاب ومضاعفه أو نقيضه» حيث إن الكتاب يحتاج دائماً إلى كتاب آخر ليتعرف على نفسه. ولعل إعجاب بورخيس بكتاب «ألف ليلة وليلة» هو الترجمة الفعلية لنظريته حول المكتبة الكونية التي يخرج فيها النص من أحشاء النص الآخر في عملية معقدة ومركبة لا تفضي إلى مخرج منظور. ويذهب المؤلف محمد آيت لعميم أبعد من ذلك، فيرى بأن «المكتبة العنكبوتية» التي تشبه المتاهة والتي نادى بها بورخيس كانت نوعاً من الإرهاص المبكر بشبكة الإنترنت وتجسيداً مدهشاً ومفاجئاً للمكتبة البورخيسية.

سحر ألف ليلة وليلة

غير أن استلهام بورخيس للأدب والثقافة المشرقيين لم يقتصر على افتتانه الشديد بكتاب «ألف ليلة وليلة» بل بدا أيضاً من خلال تأثره بالمتصوفين العرب والفرس. فهو قد تأثر بنظرية وحدة الوجود عند ابن عربي، كما أنه تأثر بجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار، وبخاصة في كتاب الأخير «منطق الطير». ففي قصة مميزة لبورخيس يقول الكاتب: «يوكل رجل لنفسه مهمة رسم العالم. وخلال السنوات يؤثث الفضاء بصورة الأقاليم والممالك والجبال والبحار والسفن والجزر والأسماك والغرف والأدوات والنجوم والخيول والناس. وقبيل مدته بقليل يكتشف أن ما ترسمه تلك المتاهة الطويلة من خطوط هي صورة وجهه بالذات». وإذا عدنا إلى فريد الدين العطار لرأينا أن قصة بورخيس ليست سوى نسخة ثانية من قصة المتصوف الفارسي الذي تحدث عن رحلة الطيور إلى جبل قاف بحثاً عن السيمرغ، أو طائر العنقاء، لتكتشف عند الوصول أن صورة السيمرغ لم تكن سوى صورة وجوهها مجتمعة. وهذا التشابه لم يكن وليدة صدفة محضة ولا هو وليد سرقة موصوفة بأي حال، بل هو انعكاس لفلسفة بورخيس الذي رأى في كل كتابة تناصاً وتصادياً مع ما سبقت كتابته من قبل.

حوار مع زوجته

ربما كان الحوار القصير الذي أجراه محمد آيت لعميم مع ماريا كداما، زوجة الكاتب الراحل، هو الجانب الأكثر تشويقًا من الكتاب، ليس لأنه الأغنى والأكثف على المستوى المعرفي، بل لأنه يتيح لنا نحن القرّاء أن نطل على الجانب الإنساني والحميمي من شخصية الرجل الذي كاد يتحول إلى أيقونة أدبية أو أسطورة معاصرة.

وفي هذا الحوار تشير كداما إلى العلاقة الأثيرة، التي كانت تربط بورخيس بجدته، شأنه في ذلك شأن الكثير من المبدعين، وهي التي أقرأته الإنجيل، وروت له الكثير من الحكايا والأساطير، وبخاصة ما تعلــــق منها بالهنود الحمر وسكان أمريكا الأصليين. كما أن جدته بالذات هي التــــي كانـــــت تقرأ له فـــــصولاً وحكـــــايات من كتاب «ألــــف ليلــــة وليـــــلة» بحيــــث أسهمت إلى حد بعيــد في إذكـــاء مخــــيلــــته المتوقــــدة ورفدها بموادها الأولية. وتتحدث كداما عن شغف زوجها بالقراءة بشكل مرضي، الأمر الذي عجّل إصابته بالعــــمى، كما عن افـــــتتانه باللغة العربية، التي شرع في تعلمها بمساعدة أحد الأساتذة، إلى حد أنه عنون أحد مؤلفاته بحرف (الألف) الذي هو الحرف الأول من العربية.

ولا يفوت كداما الحديث عن انبهار زوجها بمدينة مراكش، وبخاصة بساحة «جامع الفنا» حيث يمتزج الواقعي بالسحري والمعيش بالمتخيل والأسطوري. لقد رأى بورخيس في تلك الساحة اختزالاً رمزياً لروح المغرب المترعة بالتأثيرات المختلفة القادمة من الشرق. فهناك أتيح له أن يرى الحواة الذين يرقِّصون الأفاعي على إيقاع مزاميرهم وباعة البهارات والتوابل والحلوى ورواة «ألف ليلة وليلة» وغيرهم من الذين يسهمون في إحياء التقاليد الشفوية التي حرص هو بنفسه على إحيائها والاحتفاء بها.

وربما كان «جامع الفنا» من بعض وجوهه تجسيــــداً لأحلام بورخـــــيس الطفـــــولية وهواماته المبكرة التي زادها العمى اضطراماً بعد ذلك.

أما الحوارات المنشورة في الكتاب، والتي أجراها مع بورخيس بعض النقاد والدارسين فتتيح لنا أن نتعرف إلى وجوه عدة من شخصيته وأفكاره. ففي حواره مع خورخي صابير يعبّر عن موقفه من بعض الشعراء والكتّاب المعاصرين له أو الذين أتوا قبله، فيعترف - على سبيل المثال - بأنه كان يكنُّ للكاتب الروسي دوستويفسكي إعجاباً لا نظير له. لكنه اكتشف في خضم حماسته لصاحب «الجريمة والعقاب» و«الإخوة كارامازوف» أن دوستويفسكي كان يعاني مشاكل كبيرة في التميير بين شخصياته حتى لتبدو هذه الشخصيات برمتها تنويعاً على الكاتب نفسه، كما أن هذه الشخصيات تسبح مجتمعة في التعاسة والشقاء.

ولكن ما فاجأ بورخيس لدى توقفه عن قراءة دوستويفسكي هو أنه لم يشعر بغياب هذا الأخير أو بأن شيئاً كان ينقصه إثر ذلك. ولا يخفي بورخيس انجذابه إلى الأدب الذي يشي بالسعادة أو يبعث عليها، بالرغم من ندرته الفائقة. وهو يعطي الشاعر الأمريكي والت ويتمان نموذجاً وبرهاناً على هذا النوع من الأدب. وكما بالنسبة لدوستويفسكي كذلك يتخذ بورخيس موقفاً حذراً ومتشككاً من شعر بودلير الذي سبق وحفظ ديوانه «أزهار الشر» عن ظهر قلب ثم انصرف عنه بعد ذلك بسبب شعور غامر بالألم والحزن كان ينتابه لدى قراءته له.

البعد عن الألم

هذا العزوف عن الألم يسحب نفسه على الكثير من آراء بورخيس النقدية إلى حد اعترافه بأن ابتعاده عن كتابة الرواية، وحتى عن قراءتها أحياناً عائد بالدرجة الأولى إلى المفارقة القائمة بين جمالية الرواية وموضوعها. فمعظم الروايات الجميلة والمميزة تحتفي بأبطال أشقياء في دواخلهم. وبما أن القارئ في العادة يميل إلى التماهي مع أبطال الروايات، لذلك فإنه لم يشأ لنفسه التسبب بإيلام القراء وإسقاطهم في شرك التعاسة. والحقيقة أن قارئ بورخيس والمتتبع له لابد وأن يشعر بشيء من الدهشة إزاء مثل هذه الآراء التي تبدو وكأنها تحكم على الفن بمعايير أخلاقية أو عاطفية بالرغم من اعتراف صاحب «المرايا والمتاهات» في مواضع عدة بأن معايير كهذه لا يمكن أن تكون صالحة في التعامل مع الأدب والإبداع.

ثم كيف لكاتب كبير من وزن بورخيس أن يغض النظر عن المتعة الفنية الغامرة التي يثيرها الأدب في نفس القارئ حتى لو كان موضوعه بحد ذاته محزناً ومأساوياً! لكن ما يثير بالمقابل إعجابنا ببورخيس هو صدقه مع نفسه وصراحته الاستثنائية والمفعمة بالتواضع، إذ إنه يشير في إجابته عن أحد الأسئلة إلى أن موقفه من الأدب «أملاه حكم قيمة أخلاقي، ويمكن أن يكون مصدره نشأته البروتتستانتية. فأنت تلاحظ أنه في البلدان البروتستانتية يكون للأخلاق أهمية كبرى».

يصعب على مقالة واحدة ومحدودة المساحة أن تحيط بأفكار بورخيس وتصوراته وآرائه في الأدب والثقافة والفن. فهذا الذي يعتبر في محاضرة مؤثرة له عن الاستعارة، أن آلاف الاستعارات التي استخدمها الشعراء والكتّاب للتعبير عن مشاعرهم ورؤاهم ليست سوى تنويع على اثنتي عشرة استعارة أساسية ووحيدة لهو بالضرورة كاتب إشكالي ومتفرد في جرأته وثرائه وعمقه. أما الكتاب نفسه «بورخيس أسطورة الأدب» فتكمن أهميته في إحاطته بجوانب عدة ومتنوعة من سيرة بورخيس وآرائه ونصوصه وحواراته.

وإذا كانت بعض نصوصه قد صدرت في ترجمات سابقة إلى العربية، فإن أياً من هذه الترجمات لم توفر للقارئ العربي الشمولية والتنوع البانورامي اللذين وفرهما له محمد آيت لعميم في كتابه المميز.

لمياءُ في شفتيها حوَّة ٌ لعسٌ
وفي اللِّثاتِ وفي أنيابِها شنبُ
كَحْلاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي نَعَجٍ
كأنَّها فضَّة ٌ قدْ مسَّها ذهبُ
وَالْقُرْطُ فِي حُرَّة ِ الذّفْرَى مُعَلَّقَة ٌ
تباعدَ الحبلُ منهُ فهوَ يضطربُ
تلك الفتاة ُ التي علّقتُها عرضاً
إنّ الكريمَ وذا الإسلامِ يُختلَبُ

ذو الرمة

 


تأليف: خورخي لويس