الكلمة التي قهرت الموت.. آنا لكل الروس

الكلمة التي قهرت الموت.. آنا لكل الروس
        

          فيما يخص شعراء روسيا العظام في القرن العشرين, بالإضافة إلى (ماندلستام), (تسفيتافا), و(لويس باسترناك), تتبوأ شاعرة التاريخ آنا أخماتوفا القمة في هذا السبط.

          حاملة رسالة المطحونين من جيلين, ربما كانت مجازفة كبيرة للنقد الهابط عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها, ولكن يستطيع الإنسان أن يرى الآن, منذ ما يقرب من مرور أربعين عامًا على وفاتها, ما الذي جعل من فنانة تحمل سمة المفكرين الروس تستأهل هذه الاستحقاقات?

          واسم أخمانوفا باللغة الروسية هو الاسم الذي يطلق على (الجرو الصغير), وقد أطلقه أبوها عليها منتحلاً عندما ناهزت سبعة عشر ربيعًا, أما اسمها الحقيقي فهو (آنا أندرفيتا جورنكو), وكان أبوها يعمل ضابطًا بالجيش القيصري الروسي, وقد عبّر عن العار الذي جلبته ابنته له لأنه كان يريد ولدًا?! وقد ولدت في 23 يونيو 1889 (السنة نفسها التي ولدت فيها ميسترال جابرييلا - 1889 - 1945 - وهي شاعرة تشيلية منحت جائزة نوبل في الآداب عام 45 وأيضًا ولد فيها ايرل ستانلي جاردنو - 1889 - 1970 - وهو روائي أمريكي كتب نحو مائة رواية بوليسية, وأيضا ولد فيلسوف الوجودية مارتن هيدجر 1889 - 1976 - والشاعر العربي ميخائيل نعيمة 1889 - 1989 وعميد الأدب العربي د.طه حسين 1889 - 1973, وزعيم الهند نهرو 1889 - 1964, وأدولف هتلر 1889 - 1945) وعندما ولجت مضمار الشعر لم يسمع في روسيا عن سيدة قبلها اقتحمت هذا المجال وامتهنت هذه الحرفة وقد ردّت جدتها لأمها - متهكمة - عندما علمت بأن حفيدتها امتهنت القريض: (أنا لست بحاجة إلى هذا الاسم?)!

          كانت آنا ذات جمال آسر منذ نعومة أظفارها, يمشي في ركاب جلال كلاسيكي, وعندما نضجت بلغ طولها مائة وثمانين سنتيمترًا, وكانت تتسم بالاسراف, وكانت صخّابة تميل إلى محاكاة الصبية في لهوهم, إلى أن غادر أبوها المنزل في بدايات مراهقتها, وهذا أخرجها عن نطاق السيطرة العاطفية, واعتذرت - فيما بعد - عن الخزي الذي جلبته لوالدتها, ومن ثم آثرت الانكفاء على نفسها, وفيما بعد أصمّت أذنيها عن أي سؤال يتعلق بطفولتها هل كانت سعيدة أم شقيّة?

          ومع ذلك فإن ما تبقى من شطر حياتها, أفضى بها إلى سلسلة لا تنتهي في الحب مع رجال متزوجين, وهذا سبّب لها الكثير من الحزن والغم.

          وبطريقة متفردة, كان تعليمها الشخصي مصدر أسى وشجن حيث سمح لها بأن تكتب حول آلام وطنها وما يكابده من محن, وبأسلوب لا يخلو من التهكم, في الوقت نفسه.

          إن تقلبات أحوال علاقاتها مع الرجال جعل لديها القدرة على امتلاك ناصية التاريخ.

          سئلت هل تستطيعين أن تصفي لنا الآلام المبرحة الجسدية والنفسية للزوجات والأمهات وهن يتقن إلى مساعدة من أجببن في الجولاج (الجولاج, هو اسم لمعتقل كان يُنفى إليه المناوئون للحكم الستاليني في درجة برودة قاسية ومن النادر أن يعود من ذهب إليه ثانية مما حدا الكاتب الروسي الكسندر سوليزنيستين أن يكتب رائعته Gulag Archipelaho, وقد سحبت منه السلطات الروسية المواطنة, وذهب إلى سويسرا لمدة عامين ثم طاب له المقام في أمريكا, وحاز جائزة نوبل في الأدب لعام 1970, بعد أن طبعت هذه الرواية في الغرب وعمره الآن 88 عامًا), وقد أجابت بتميّز: (نعم, أستطيع) وهذا لا يقلل من شأنها الذي لا يُبارى في الثقافة الروسية, وأزواجها الثلاثة وتقاطر العشاق مما جعل إجابتها ممكنة وإيجابية.

          بدأت كتابتها بأسلوب تعوزه الحماسة, بالغ الإيجاز, متأثرة بأسلوب وأفكار وعواطف شاعر روسيا الأعظم الكسندر بوشكين (شاعر وروائي وكاتب مسرحي ويعتبر أب الأدب الروسي الحديث, 1799 - 1837) في الحب واللوعة اللذين نبتا عن صلاتها الوثيقة بالرجال المتميزين.

          ميخائيل لوزنسكاي, قارن نظمها الشعري المبكر بنظم كاتيلس Catullus, الفنان بوريس أنريب الذي ازدانت أعماله في المتحف الوطني بلندن لمدة يوم واحد, الناقدان نيقولاي نيدوبروفو وآرثر لوري, الموسيقي الذي هاجر إلى الولايات المتحدة, هؤلاء من بين كُثر اصطفوا من أجل جُرعة من التأثير والعذاب.

النجاح المفاجئ

          العمل المبكّر لآنا جلب لها تقريبًا نجاحًا فجائيا باهرًا قبل ثورة 1917, وعلى نحو ما وبسرعة, هذا ما ميّزها كداعية تدعو إلى (الفردانية) فكرًا مستقلاً إلى حد بارز من ذلك الحين فصاعدًا.

          وفيما بين أعوام 1925 - 1940, رفضت الطبقات الاجتماعية المفرطة في الاحتشام أعمالها, وأصبحت حياتها العملية صعبة وتعرضت غالبًا للمهانة والإذلال.

          اعتمدت على الرجال الذين تركتهم, أو الذين تركوها, بل إن زوجها الثالث أثّر فيها بحب رومانسي, نيقولاي بينيس وهو مؤرخ للفن من الرواد الطليعيين, انتقلت مع ما تبقى من عائلتها وعاشت حياة أقرب إلى الكفاف, وفيما بين سنوات الحرب ارتفع الذوق الجمالي للطبقة الرفيعة وبدا لها في هذا الخضم أنها تنتمي إلى عالم مفقود, حتى إن إسحاق بيولين حين قابلها في موسكو عام 1946 عقد مقارنة بين المناسبة التي قابلها فيها ومصافحته لكريستينا روسيتي.

          عندما نقرأ قصيدة جيمس جويس (1882 - 1941, روائي إيرلندي, يعتبر أحد أبرز ممثلي الرواية النفسية), تأثرت نفس آنا بجملة... (لن تستطع ترك أمك يتيمًا...).

          وبقصيدة متماثلة غير معنونة لأكتوبر 1917, كتبت قبل الثورة ولكن في أعقاب الخروج الذي لحق به العار عند الحرب العالمية الأولى, رفضت الأصوات التي أغرتها بالسفر للخارج.

          إن مشاعر آنا إزاء روسيا كامنة فيها, ولكنها لم تكن قط تدين بالبلشفية.

          ما الذي حرّك أوتار مشاعرها السحرية, ماهو إلا نداؤها الباطن ذو الموهبة الشعرية الساحرة, إن عرائس الشعر وضعت السؤال على نحو متواصل وحافل بالذكريات المريرة.

          تتصدر قصيدتها الخالدة Requiem التي استعادت فيها معاناة الشعب الروسي تحت الستالينية وخاصة المحن التي أصابت النساء وهن يقفن في صفوف خارج أسوار السجون, منتظرات على أحر من الجمر لحظة لإرسال كسرة خبز أو رسالة صغيرة لأزواجهن, أو أولادهن, أو أحبائهن ولم تنشر هذه القصيدة التي دبجتها في أواخر الثلاثينيات إلاّ في عام 1987, قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي بأربعة أعوام! - تساءلت (من أكون أنا?), وجاءها الردمن (جحيم) دانتي Inferno, وقصيدة أخرى صغيرة تحت عنوان الشجاعة, كتبتها في فبراير 1942 في طشقند ونشرتها صحيفة برافدا, بدت فيها روح (تشرشل) الناقدة وقراءة (كبلنج) الواعدة:

          (تستطيع الرصاصات أن تقتلنا, ولكن لا يمكن صدها,

          على الرغم من سقوط منازلنا, سوف نصمد, سوف نحفظ الكلمة الروسية على قيد الحياة,

          سوف نحافظ على لغتنا العظيمة مثل الأرض الروسية).

          وبالإيجاز, آنا, هنا في خمسينياتها (أوائل أربعينيات القرن الماضي), أصبحت لديها مقدرة للتعبير أكثر عن رغبتها الحارقة ذات النزعة الشهوانية, حتى أنها وصفت بأنها ابنة الهوى - الراهبة, بالرغم من إلقاء القبض على واحد ممن أحبتهم عام 1935.

          إن التحدي الذي جابه كُتّاب سيرتها هو إلقاء الضوء على التحول الأخلاقي والجمالي دون تشويه أو افتقار للمسئولية الأخلاقية وشدة التوق الملّحة بجلاء وعدم تجاهل روح النزعة الأنثوية.

          نريد أن نعرف كيف أن كلا من الأدب والرومانسية في حياتها كانا الوجه الآخر لثورة أكتوبر, أثناء حملات تطهير ستالين, وأثناء الحرب العالمية الثانية, وخلال الأمواج المتلاطمة (لبحر) القمع الشيوعي ورد الاعتبار.

الصمت الطويل

          لم تكن آنا أسيرة نفسها, حيث أظهرت - مهما حدث - نزعة وطنية في الثلاثينيات تواكب هذا مع صمتها الطويل, وقد حفظها - إلى حد ما - أن تكون آمنة نسبيًا.

          في عام 1939, أرادت أن تستعطف ستالين إطلاق سراح ابنها الذي حُكم عليه لمدة خمس سنوات وزُج به في أتون (الجولاج), ابنها Lev Gumilyov والذي نفي إلى سيبيريا.

          قدمت طلبًا للانضمام إلى نقابة الكتّاب, وقوبل هذا بنجاح, ونتيجة حماية الدولة لها خلال فترة الحرب, وبمساعدة صديقتها Lidya Chukovskaya التي استظهرت قصيدتها الخالدة Requiem, ومن ثم كان هذا إرهاصًا سريعًا نحو الحصول على جائزة ستالين.

          كان تأثير زوجها الأول, وهو الشاعر نيقولاي جيميلوف واضحًا, حيث ترك بصمة كامنة في سجلها السياسي, وقد حوكم بتهمة ملفقة للخيانة عام 1921, (وفي الحقيقة قُتل في حكم أقرّته الدولة لقتل جماعي للمثقفين مع آخرين) قبض على ابنها ليف وأعيد للسجن مرة أخرى حيث قضى ثلاثة عشر عامًا في الجولاج بسبب أصله, وتم توجيه التهمة إليه سنة 1946 من قبل وزير الثقافة الستاليني, أندريه زامانوف, وأصبحت والدته تتحمل نصيبًا متساويًا من المسئولية, قرأ ستالين تقريرًا بوليسيًا وعلّق: (لهذا ترى أن راهبتنا (آنا) مازالت تستقبل جواسيس أجانب).

          ثلاثة أعوام مرت, والمحقق مازال يضع رأس ليف (ابن آنا) قبالة الحائط: هل سيعترف بجاسوسية والدته لصالح إنجلترا.

          قاسى ليف بما لا يوصف, وقد ولّد هذا مرارة في النفس وغصّة في الحلق طيلة عمره, حيث كان القدر لوالدته بالمرصاد بعد عام  1946, حيث استحوذ الحزن على تفكيرها, وتعرقل نشر أعمالها, وطردت من اتحاد الكتّاب مما تسبب في إنقاص حصتها للطعام.

          أظهرت مادة أرشيفية جديدة في صيف عام 1948 عن هذه الفترة الصعبة في حياة آنا, أنها بدأت تتلقى مساعدة مالية من قبل الدولة, وقد تلقتها بهدوء, وعلى الصعيد الشخصي بدأت تعاني من التمزق والوحدة, ولكن شهرتها, أصدقاءها وحشدًا من المعجبين, كانوا بها مفتتنين ولها خادمين, ولكن المرض ما فتئ يسري في جسدها طيلة عقدين من الزمان قبل أن تقضي نحبها وجعلها الإخفاق في حماية ابنها ليف تتحطم نفسيًا.

          وعلى مدى واحد وعشرين عامًا شملت يد الإرهاب المجتمع الروسي, وفي عام 1956عندما بدأ نيكيتا خروشوف (رئيس الوزراء فيما بين 1958-1964) شن الحرب على الحقبة الستالينية, شعرت آنا بأن كبرياءها طعنت ثلاث مرات لكونها امرأة, ولكونها روسية, والثالثة لكونها شاعرة.

 

 

نانسي ك. أندرسون / إيلين فيتشتين  




آنا اخماتوفا مع أخيها, عام 1894 عندما كان عمرها خمس سنوات





لوحة لآنا أخماتوفا , عام 1914





قبل وفاتها بعام





صورة لجنازتها في مارس1966





صورة بعد أن كتبت قصيدة Requiem فيما بين أعوام (1935-1940)