اللغة حياة

اللغة حياة

الرئيس والمرؤوس والرئيسيّ والثانويّ

منذ أكثر من ستّ وثلاثين سنة، كتب صديقنا الباحث المجمعيّ الدكتور عمر فرّوخ، رحمه الله، مقالة صحافيّة أقحم على بعض فقرها هذه الجملة الاعتراضيّة: «لا تَقُلْ رئيسيّة»، وحين اعترضنا على ذلك النهي ردّ علينا الدكتور عمر بأنّ أعضاء مجمع اللغة العربيّة في القاهرة اتفقوا في بعض الدورات على «أنّ الممرّ الرئيس إلى المسجد الجامع هو الذي» يعبره جميع الناس «أمّا الممرّ الرئيسيّ فهو الذي{...} كان يمرّ به الأمير وحده»؛ وأنّ المعالجة التي يمارسها جميع الأطباء هي معالجة رئيسة، على حين أنّ المعالجة التي استخدمها الشيخ الرئيس ابن سينا هي معالجة رئيسيّة. وواضح أنّ مراد الدكتور عمر وزملائه المجمعيّين أنّ ما ينسب إلى الرؤساء يكون رئيسيّاً، وما ينسب إلى سائر الناس يكون رئيساً. وقد نفهم أن تكون النسبة إلى الرئيس هي الرئيسيّ، لكنّ ما لا نفهمه أن يكون ما ينسب إلى غير الرؤساء رئيساً.

ولن نستعيد الجدل الذي دار، حينئذ، حول الموضوع، وشارك فيه غير كاتب وعالم، لكنّنا نتوقّف عند قرار لاحق للمجمع يبدو تهذيباً لذاك، وفيه إجازة باستعمال نسبة رئيسيّ لغير الرؤساء شرط أن يكون المنسوب إليه مندرجاً تحت أفراد متعدّدة. وهو غير واضح، لأنّ عبارة العضو الرئيس والأعضاء الرئيسة التي عوّل المجمع عليها في إيجاب استعمال صفة رئيس دون رئيسيّ تدلّ على انتماء الموصوف إلى جماعة من الأفراد؛ والأعضاء الرئيسة، في مصطلح القدماء، هي التي يموت الإنسان إذا فقد أحدها. وقد زاد «المعجم الوسيط» الصادر عن المجمع أنّ الرئيس هو الأساسيّ، واستعمل عبارات الأغذية الرئيسة والأعضاء الرئيسة، والمركز الرئيس، والنجم الرئيس (الشمس) والشريان الرئيس (الوتين)؛ لكنه استعمل أيضاً عبارتي: الشريان الرئيسيّ (الأورطيّ) والأقسام الرئيسيّة، مع أنّه لم يذكر صفة رئيسيّ في مدوّنته، بل أوحي أنّ كلمة رئيس هي التي تؤدي معناها؛ فهو حائر بين الاستعمال الحديث الغالب، وما ظنّه صحيحاً وأوجبه، واضطرب في ذلك.

وهنا لا بدّ من ملحوظات ثلاث، هي:

1 - أنّ القدماء لم يستعملوا كلمة رئيس إلاّ بمعنى شيخ القبيلة، أو القائد لمجموعة أو مجموعات متعدّدة.

2 - أنّ استعمال صفة رئيس بمعنى «الضروريّ للحياة» استعمال طبيّ متأخر نسبيّاً، ولا نعرف أنّهم وصفوا به غير الأعضاء: القلب والكبد والكلية، الخ. والذين استعملوه كانوا مستعربين لا عرباً.

3 - أنّ استعمال رئيسيّ استعمال حديث تختلف دلالته عن الدلالتين السابقتين، فهو استعمال ترتيبيّ اقتُبس عن اللغات الأجنبيّة، ودلّ على ما يكون أصلاً لفروع، بالمقارنة مع الثانويّ أو الفرعيّ الذي يكون مشتقاً أو تابعاً أو ذا أهميّة ضئيلة. فالعنوان الرئيسيّ، مثلاً، هو الدالّ على جوهر الموضوع، والعنوان الثانويّ أو الفرعيّ هو الذي يدلّ على فرع أو جزء من الموضوع، ويكون تابعاً للعنوان الرئيسيّ، ويفترض أن يدلّ، هو وسائر العناوين الثانويّة، على ما يُجْمله العنوان الرئيسيّ؛ والطريق الرئيسيّ هو الأصليّ أو الأكبر، والفرعيّ هو الذي تفرّع منه؛ والمكتب الرئيسيّ هو مقرّ الإدارة العليا، والفرعيّ هو التابع له؛ والقضية الرئيسيّة هي ذات الأهميّة الكبرى، والثانويّة هي ذات الأهميّة التبعيّة أو القليلة، وهكذا.

وفي اللغة أنّ ما يؤدّي معنى مخصوصاً غير ملتبس بغيره أولى بالاستعمال ممّا يلتبس بغيره، ولاسيّما إذا كان الملتبس طارئاً ومختلَفاً فيه. ووصْف الشيء الحيويّ بالرئيس يلتبس حتماً بمعنى الرئيس ذي السلطة العليا، ويجعل الاستعمال الغالب، في المقابل، ملتبساً أيضاً؛ ومن ذلك وصف المصادر القديمة لعامر بن الظَرِب العدوانيّ بأنّه «كان خطيباً رئيساً» يعنون أنه كان ذا سلطة عليا أو قائداً. وقال بعض الشعراء الجاهليّين: «مَنْ لا يقاتلْ لا يَكُنْ رئيسا»، ووصف المرزيانيُّ ابنَ الروميّ فقال: «ولا أعلم أنّه مدح أحداً من رئيس أو مرؤوس إلاّ وعاد عليه فهجاه». ولم يستعمل العرب الكلمة إلاّ اسماً، خلافاً لزعم بعض المتحذلقين، الذين زعموا أنّها صفة مشبّهة بالفعل لا تقبل النسبة (كذا).

وعندنا أنّه يحسن استعمال «رئيسيّ» غير مشروطة بتعدّد الأفراد، دالّة على ما يكون أصلاً لفروع أو ما يكون ذا أهميّة كبرى، وعلى ضدّ الثانويّ أو الفرعيّ، على حين تُستعمل «رئيس» في الدلالة على ذي السلطة العليا في مجموعة ما، أي على ضد المرؤوس.

هذا لا يعني فرض صفة رئيسيّ دون غيرها من النِسب المؤدّية للمعنى نفسه أو لمعنى قريب، مثل الأصليّ أو الأساسيّ، بل تغليبها على كلمة رئيس في هذا المقام. وهو أمر يقودنا إلى الكلام على الضدّين: الأصليّ والفرعيّ؛ فالظاهر أنّ العرب القدماء استعاروا لتقسيماتهم صورة جسم الإنسان أو صورة الشجرة أو صورة الخيمة؛ فقالوا في الجَدّ الأوّل: أصل وأرومة؛ وقالوا في شيخ القبيلة: رأسٌ ورئيس وعميد؛ وقالوا في أقسام القبيلة: فرع وبطن وفخذ، الخ. وقالوا: عمود الشعر، وقالوا: ميمنة الجيش وميسرته، الخ. فلما تقدّم الفكر واتّسعت العلوم ظهرت الحاجة إلى ما يدلّ على تقسيمات جديدة، فلجأ العرب والمسلمون إلى شيء من القديم وزادوا عليه ما يفرّقه عنه، كإلحاق ياء النسبة به، فقالوا مثلاً: أصليّ، وقد استعمله ابن النديم وابن جنّي والزمخشريّ وغيرهم؛ لكنّ ابن منظور لاحظ أنّ العرب لم يستعملوا هذه الصيغة من قبل. كما استعمل ابن جنّي صفتي الأصليّ والفرعيّ واشتق من جذريهما مصدرين صناعيّين هما الأصليّة والفرعيّة.

وفي العصر الحديث طرأ المعنى الذي تعبّر عنه صفة رئيسيّ، بتأثير من العلوم المأخوذة من الغرب وترجمةً لكلمة principal، التي تعني حرفيّاً: أَوَّليّ. لكنّ صفات أوّليّ وأصليّ وأساسيّ تقابل، في الاستعمال العربيّ، ألفاظاً أجنبيّة أخرى، فتحدّث العرب عن التعليم الأوّليّ أي الابتدائيّ، وعن المواد الأوليّة، وعن المعنى الأصليّ والمعنى المجازيّ، وعن النسخة الأساسيّة والصورة، الخ. ولذلك اختار من ترجم الكلمة الأجنبيّة المشار إليها صيغة رئيسيّ وجعلها بإزاء صفة ثانويّ، لأنّ من معاني كلمة princeps اللاتينيّة: الرئيس.

إنّ تعقيدات المعرفة الحديثة وتشعّباتها لم تعد تسمح بالتمسّك بالقديم مع قصوره عن التعبير عن المعنى المستجدّ، ولا بالتحفّظ من المصطلحات المستحدثة على الحاجة إليها، ولاسيّما في ميدان الترجمة. وقد أدرك مجمع اللغة العربيّة هذا الواقع فأجاز كثيراً من المستحدثات اللغويّة، وربما بالغ أحياناً في ذلك؛ لكنّ الغريب أنّه كاد يجمد في كلمتي رئيس ورئيسيّ، فتزمّت شيئاً ما، وأوحى في تزمّته بعض التناقض، خلافاً لما أوحاه في مستحدثات أخرى.

 

 

مصطفى الجوزو