جمال العربية
جمال العربية
التجاني يوسف بشير: خُلاصة الشاعرية السودانية كثيرًا ما يتاح لشاعرية شاعر مفرد، أن تكون استيعابًا وتركيزًا لشاعرية بلد بأسره، وكما كان أبو القاسم الشابي تلخيصًا رائعًا للشاعرية التونسية في زمانه - ولعله لايزال حتى اليوم صاحب الاسم والتأثير اللذين يسبقان في مجال الالتفات والتأمل كلما ذكرت شاعرية تونس فقد جاء التجاني يوسف بشير وشعره تلخيصًا أمينًا للشاعرية السودانية، ولايزال يحتلّ صدارة المشهد الشعري السوداني بالرغم من تتابع الأجيال من بعده، وتدفق مياه جديدة مغايرة في نهر الشعر. والطريف في أمره وأمر الشابي، أن كليهما رحل عن خمسة وعشرين عامًا، فهما امتداد لكوكبة الشعراء الكبار الراحلين في ربيع العمر، الذين على رأسهم طرفة بن العبد صاحب المعلقة المشهورة في الشعر الجاهلي. ولد التجاني يوسف بشير في أم درمان بالسودان عام 1912 وكان رحيله عام 1937. لم يكمل دراسته في المعهد العلمي وهو اسم للمعهد الديني بعد فصله لأسباب سياسية أهمها مشاركته في الحركة الوطنية. تقول سيرته إنه عمل في الصحافة وفي شركة شل للبترول، وكان في الحالين معتمدًا على ثقافته التي حصلها في معهد أم درمان، متمثلة في استيعاب كتب الأدب القديم، وكتب الصوفية والفلسفة، بالإضافة إلى حفظه للقرآن وإلمامه بعلوم العربية والفقه، ولم يصدر له إلا ديوانه الوحيد «إشراقة» الذي يُعدّ ترجمة أمينة لأشواقه ومكابداته الروحية والوجدانية وشكوكه التي جلبت عليه الوهن والضعف، وكانت سببًا في مرضه الذي أودى به في مقتبل العمر. وعن سبب تسميته لديوانه باسم «إشراقة» يقول التجاني في أولى قصائد الديوان وعنوانها «قطرات»: قطرات من الندى رقراقه وصولاً إلى قوله: وهي ريانة تمدُّ قطافًا ثم يقول: قطرات من الصبا والشباب الـ سمعت بالتجاني لأول مرة من خلال كتاب «الروائع لشعراء الجيل» الذي أصدره الأديب محمد فهمي الذي كان بمظهره وبما يمثله من حياة أدبية، ظاهرة شديدة المغايرة بعيدة عن كلّ ما هو مألوف، وقد انتهت حياته بعد أن أصبح وزيرًا في حكومة «مصر الحرة» التي تأسست في المنفى، في ستينيات القرن الماضي في العصر الناصري. وكان كتابه السريع الانتشار والتداول بين شداة الأدب في خمسينيات القرن الماضي، دعوة إلى قراءة ثلاثة من شعراء الطليعة، اختارهم محمد فهمي واختار قصيدة واحدة لكل منهم. كانت قصيدة الشابي هي «صلوات في هيكل الحب» التي سبق له نشرها في مجلة «أبولو» عام 1932 وكانت سببًا في شهرته المدوية وذيوع اسمه في الحياة الأدبية، وقد قدم لها محمد فهمي بقوله: إذا كانت أوسترلتز هي فخر معارك نابليون وعروس بطولاته، فإن هذه القصيدة للشابي هي عروس شعره والشعر الحديث كله. كما اختار للهمشري قصيدته «إلى جتا الفاتنة في مدائن الأحلام»، وللتجاني قصيدته «في محراب النيل» التي يقول في مستهلها: أنت يا نيل يا سليل الفراديـ وهكذا كان كتاب محمد فهمي مبشرًا بثلاث عبقريات شعرية: تونسية وسودانية ومصرية، حمل أصحابها كل بطريقته لواء التجديد، في إطار الحركة الشعرية الجديدة التي مثّلتها جماعة «أبولو» مؤذنة بانتهاء عصر الكلاسيكية والقصيدة العمودية التي جسّدتها جماعة الإحياء بدءًا بالبارودي ثم شوقي وحافظ، واستجابة لروح التجديد التي بثّتها حركة الشعر المهجري وجماعة الديوان، وكانت أبرز تجلياتها جماعة أبولو والنماذج الشعرية التي نشرت في مجلة أبولو للشباب الشعري الثائر والمتمرد، الباحث عن قوالب جديدة وكيمياء شعرية مغايرة وقصيدة لا تحاكي ذوق السابقين. في ظل هذا المناخ الشعري ولد التجاني وجاء شعره الذي يقول عنه محمد الواثق في تقديمه للجزء الرابع من مختارات الشعر العربي في القرن العشرين الذي يُستهل بالشعر في السودان: «ينافس التجاني الشاعر العباسي في ريادة الشعر في القرن العشرين. كلاهما لازمه الإحباط والفقر الذي أودى بالتجاني مصروعًا بداء الصدر في ريعان شبابه. العباسي بدوي والتجاني شاعر المدينة إلى نخاعه، يجمع بينهما أن كليهما تعليمه ديني مع تلفح التجاني بثوب الحداثة. كلاهما تشبث بمصر وأشاد به المصريون وقدموا لأشعاره. وأكاد أجزم أن المصريين اكتشفوا شاعرية التجاني قبل أن يلتفت إليها السودانيون». ثم يقول: «تبرّجت الخرطوم للتجاني فهام بها: مدينة كالزهرة المونقة قصيدة ألهمها الإله يراعة الفنان والشاعر. في هذه المدينة أجناس من أبناء أثينا والشام والأرمن وشتى البلاد الأخرى «المدن الرائحة والغادية» مما أكسب الخرطوم بهرجها، بيد أن الذين أضفوا على الخرطوم بهرجها هم الذين ضيقوا عليه رزقه فاستمتع بالبهرج من بعيد: أبطرتهم بلادنا، فتعالى ابـ يخفف من حدة الإحباط واليأس عند التجاني استغراقه في حب مصر التي لم يستطع أن يجمع ثمن تذكرة السفر إليها، مصر التي كانت مجلة «الرسالة» تنشر له فيها شعره: كلما أنكروا ثقافة مصرٍ أعود إلى قصيدة التجاني عن النيل التي هي في جوهرها صلاة وروح إجلال وتوقير للنهر الخالد، الذي فتن بأسراره القدماء، وهل هو قادم من مملكة السماء أم من عُليا الجنان كما تساءل شوقي: ومن السماء نزلْتَ، أم فُجّرْتَ من والتجاني متابع لشوقي في هذه الصورة الشعرية وهذا المدخل الجليل لقصيدته حين يقول: أنت يا نيلُ يا سليل الفراديـ «سليل الفراديس» هنا هي المقابل في الشعر والتصور لقول شوقي «من السماء» و»من عُليا الجِنان». والتقديس الذي تمثله القدماء عن النيل لايزال: ملءُ أوفاضك الجلال، فمرْحى ثم يقول التجاني: أيها النيل في القلوب سلامُ الخُلْـ وفي قصيدة التجاني «في الموحى» لون ثان من شعره، تتجلى فيه نزعته المتأملة المتفلسفة، ووجدانه المترع بأقباس الصوفية، ولغته التي يحتشد فيها معجم روحاني وذخيرة من لغة ابن الفارض وابن عربي والحلاج وغيرهم من المتصوفة الأعلام. والبعض من النقاد والدارسين يعدّونها قصيدة قصائده تعبيرًا وتصويرًا وامتلاءً بالفكر الذي ملأ عليه دنياه وأدّى به إلى الوحدة والاعتزال والانسحاب إلى داخل النفس، منفصلاً عن الكون، متحدًا مع ذاته: أذّن الليل يا نبيّ المشاعرْ
|