الاندماج النووي

طاقة نظيفة لاتنضب من وحي الشمس

هل نحن على أعتبا تحقق حلم الفيزياء النووية الأكبر في قرننا. أمل القرن القادم، وإلى ما شاء الله لإنسان أن يستمر دون أن يكف عن الاغتراف من الطاقة. لكها هنا طاقة نظيفة إذا ما قورنت بطاقة الوقود الحفري، أو طاقة الانشطار النووي، وهي وفيرة لأن مادتها الخام مياه الأرض التي تملأ المحيطات والبحار. إنها طاقة الاندماج النووي التي أعلن أخيراً عن نجاحات حققتها وهي تنتظر المزيد. ولفرط أهميتها نتتبع مسارها، هاهنا، في مقالين. من بزوغ الحلم إلى مولد الحقيقة.

من مأزق الطاقة الناضبة إلى مأزق البيئة، كيان لابد من الحلم بطاقة
جديدة، وكان المثال الساطع هناك في الأعالي، في الشمس التى قبس
منها الإنسان الفكرة.

الطريق إلى الاندماج
بقلم: الدكتور عصام عزو

تشير الإحصاءات إلى أن احتراق الوقود اللازم لتوليد الطاقة في العالم يتسبب كل عام في انتشار 3.5 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون في الجو. وتزيد نسبة تركيزه باستمرإر بمعدل يصل لى 2% مما يؤدي (على ارتفاع معدلات درجات الحرارة. ويتسبب فى تغيرإت مناخية في العالم. ومع زيادة السكان والتقدم ستكون الطاقة اللازمة لاحتياجات البشرية أضعاف الطاقة المستخدمة الآن.

نبذ الانشطار، وتصاعد أزمة الطاقة

ومن أجل البيئة والحفاظ عليها من التلوث جهد العلماء في تطويع التكنولوجيا لاستخراج طاقة نووية نظيفة بعد أن وضحت المخاطر الإشعاعية لمفاعلات الانشطار.

يحدث الانشطار النووى نتيجة قذف بعض العناصر الثقيلة مثل اليورانيوم بالنيوترونات مما يؤدي إلى أنشطار ذراتها إلى عناصر جديدة متقاربة الكتلة مشعة؟ وتحرر كمية من الطاقة مع انطلاق نيوترونات جديدة تقذف ذرات أخرى فيتواصل الانشطار، إذا كانت كتلة ليورانيرم أكبر من حد معين يسمى الكتلة الحرجة. ويعرف هذا التفاعل بالتفاعل المتسلسل.

وتصاعد الاهتمام بالتفاعل المتسلسل في كل من الانشطار والاندماج النووي إما بالتحكم السيطرة بغرض الحصول على طاقة لأغراض سلمية أن بتحرره من الأغراض غير السلمية.

وهناك مقولة إنه في كل اجتماع لاثنين من الفيزيائيين يولد مفاعل نووي جديد في أحلامهما وآمالهما، والفكرة الأساسية لكل مفاعل هى التحكم وتوجيه التفاعل المتسلسل بغية الحصول على طاقة آمنة.

عند إقصاء كل الاحتمالات غير الواقعية، فإن هناك حوالي عشرين نوعا من المفاعلات تمت دراستها نظريا وتجربتها معمليا.

ويستخدم وقود اليورانيوم في مفاعل الانشطار، وبالقطع لا توجد واحدة من المحطات النووية- سواء تعمل أو في مرحلة الاستعداد للمستقبل- لا تحقق قدرا هائلا من الطاقة.

لكن في حالة التوسع وانتشار المفاعلات النووية، فإن فائض اليورانيوم والثوريوم في العالم سيفي باحتياجاتنا من الطاقة لمدة قليلة.

ولقد أوضحت الدراسات. أن طاقة الفحم ستنضب عام 2330 والبترول 2050 والغاز الطبيعي 2100 وسوفي يستنزف وقود اليورانيوم 235 عام 2200 واليورانيوم 238 عام 2400.

وماذا يحدث بعد ذلك؟ هل سيبدأ التنقيب عن اليورانيوم في القمر ليستمر عمل المفاعلات؟!

وأمام هذا المأزق كان لابد من التطلع إلى مصادر جديدة للطاقة.

التطلع إلى الشمس

شريان الحياة النابض، مقياس الزمن وتعاقب الأيام والفصول، القوة والرهبة والأمل، هي الشمس. مصدر الطاقة، تبعث أشعتها الدفء في الأجسام، والحياة في النبات والكون، سجد لها الإنسان القديم خوفا وطمعا، وأفرد لها الخالق عز وجل مساحة واسعة في كتابه الكريم، وحثنا على التفكير والتأمل، لم يؤت الإنسان من العلم إلا قليلا،. الشجرة المباركة، النور والنار معا، تقرب منها الإنسان بالغناء. يرجع تاريخ الشمس لنحو 500 مليون عام، واتخذها العلماء مصدرا للوحي في اختراع شمسه أرضية صغيرة لتوليد طاقة نظيفة، لا ضرر ولا ضرار للبيئة منها، فضلا عن عدم نضوبها.

فهل طافة الشمس كيميائية؟

أي هل في نتيجة احتراق نوع معين من الوقود مثل الفحم أو البترول؟ من السهل إثبات أنها ليست طاقة كيميائية من الحسابات البسيطة، فلو فرضنا جدلا أن الشمس عبارة عن مخلوط متكافئ من البنزين النقي والأكسجين بنسسب مثالية لحدوث الاحتراق، لكان كوكب الشمس قد فقد وزنه من جراء انطلاق الطاقة اليومية خلال بضع مئات من السنين، والذا ينتفي كون طاقة الشمس كيميائية، فما كنهها؟

تقدر طاقة الشمس بما بين 10 17 و 10 18 ميجاوات، ويعتبر هذا أكبر بمقدار 10 12 مرة من قدرة توليد الكهرباء في جميع أنحاء العالم مجتمعة. وحتى إذا استطعنا أن نحصي جميع محطات توليد الطاقة فلن نتمكن من التعرف على قدراتها التي نرفعها من 10 12 ضعفا.

في خلال فترة لا تجاوز ثلاث ثوان فإن طاقة الشمس المحررة تكفي احتياج البشرية في غضون المائة عام القادمة، بل وتزيد عليها عدة مئات من المرات، أي أن الطاقة الشمسية المحررة من جزء من الثانية 10 3 تكفي احتياجاتنا من الطاقة لمدة مائة عام مع الزيادة السكانية والتقدم التقني، لهذا يتكرر السؤال عن كنه هذه الطاقة الجبارة، ماذا تكون؟

شمسنا مفاعل عملاق للاندماج النووي

يحدثنا العلماء أن جميع العمليات المؤدية إلى استخراج الطاقة النووية دائمة الحدوث داخل الشمس، وأهمها الانشطار والاندماج النووي. أساسا يقوم الأخير على اقتراب بعض العناصر الخفيفة المتأنية والتغلب على قوى التنافر بينها فيتم الالتصاق ببعضها وحدوث حالة الاندماج التي تتم وسط جو من الأيونات والإلكترونات، وله درجة حرارة عالية تصل ما بين 100 و 200 مليون درجة مئوية، ويسمى هذا الوسط بالبلازما، ويؤدي الاندماج إلى خلق عنصر جديد مع انطلاق نيوترونات ذات طاقة عالية وتحرر طاقة هائلة. تقدر طاقة الشمس المحررة في الثانية بحوالي 10 20 كيلووإت، والطاقة يقابلها نقهص في كتلة الشمس حوالي 4 ملايين طن، وهي ليست بالكمية البسيطة- بمقياسها اليومي وتصوراتنا المحدودة- حيث إنها تمثل أكثر عن عشرة أضعاف وزن أكبر سفينة في العالم، ولكن بمقارنتها بوزن الشمس الكلي ( 2 * 10 27 طن) نجد أن الفقد في الكتلة قيمة صغيرة جدا.

أوضحت الدراسات في مجال العلوم الجيولوجية (علم دراسة طبقات الأرض) والفلك- ومن تلك الحفائر التي تم التعرف عليها- أن فترة حصول عالمنا الأرض على الاشعاع الشمسي تجاوز 500 مليون سنة عل مر العصور؟ فضلا عن عدم حدوث تغير في كل من الشمس وطاقتها منذ زمن تكون المجموعة الشمسية.

ولقد أوضحت الدراسات أن سرعة خروج الطاقة المحركة من التفاعلات المختلفة في الشمس صغيرة جدا وتقدر بحوالى سعر لكل جرام لكل ثانية، وهي أقل بكثير من 1% من سرعة خروج الحرارة من جسم الإنسان في عمليات الإيض، لذلك فإن درجة الحرارة ني مركز الشمس مرتفعة بالمقارنة بدرجة الحرارة على أطرافها.

كل هذه الصفات الفريدة مبعثها طاقة الاندماج النووي التي تكتنزها الشمس، ولهذا صارت المثال الذي تطمح الفيزياء النووية إلى التشبه به في محاولاتها على الأرض.

الاندماج في مقارنة

في المقام الأول سلامة البيئة حيث يعطي طاقة نظيفة لاحتوائه على كمية قليلة ومحدودة من الوقود وتستمر لفترة صغيرة، ولا توجد مواد مشعة طويلة الأجل نتيجة التفاعل، وذلك يرجع لوجود نوعين من المواد المشعة في مفاعل الاندماج أولهما التريتيوم (نظير الهيدروجن الثاني، ويعتير أقل المواد المشعة إشعاعا (حيث يشع إلكترونا واحدا بطاقة منخفضه لا يمكنها اختراق القشرة الجلدية) وهذا العنصر ليس له تأثير بيولوجي مركز في البيئة سواء للطعام أو للإنسان، فضلا عن أن عمر تحلله النصفي هو 12.3 عام، ويمكن إعادة استخدام ناتج تحلله، وهو عنصر الهليوم في تسخين البلازما بالمفاعل.

والنوع الثاني عن المواد المشعة يظهر في الأجزاء المعدنية المصنوع منها قلب مفاعل الاندماج نتيجة لامتصاصها بعض النيوترونات الناتجة من التفاعل والتي يعاد استخدامها داخل المفاعل.

أما مفاعلات الانشطار النووي فإنها تولد مخلفات نووية تمتد فترة إشعاعيتها إلى مئات السنين.

وفي المقام الثاني وفرة الوقود؟ فمثلا لإنشاء محطة قوى كهربية تعمل بالطاقة المحررة من تفاعل الاندماج واللازمة لانتاج ألف ميجاوات، نحتاج إلى قدر من الوقود وزنه نصف طن في السنة فقط. ويكفي أن نعلم أن هذا الوقود متوافر ولا نهائي، حتى عند اعتبار الهيدروجين الثقيل (الديوتيريم) مكون الوقود الأساسي للمفاعلات الحرارية، فإن مصدره متوافر في المياه ولا ينضب.

فالمحيطات مثلا تحتوي على أكثر من 10 18 طن من المياه، يكون عنصر الهيدرجين 11،0 منها، أما الهيدروجين الثقيل فيمثل 2 * 10 4 عن الهيدروجين. فإذا كانت الطاقة المحررة عند اندماج ذرتين من الديوتيريم هي 3.6 ميجا إلكترون فولت، فمن الحسابات البسيطه نجد أن الطاقة المحررة من مخزون الهيدروجين تكفي العالم ليس أقل من 5 مليارات من الأعوام.

ومن الناحية الاقتصادية وبفضل التقنية العالمية والمستخدمة لإنتاج الديوتيريم، فإن تكلفة إنتاج الطن الواحد أكثر من 10000 مرة من نظيره الفحمي، ولكن الطاقة الناتحة من طن الهيدروجين، الثقيل تساوي 5 * 10 6 من الناتجة من طن فحم، لدلك تعادل 0,3% عن تكلفة نظيره الفحمي.

الطاقة المنطلقة نتيجة انشطار جميع نويات اليورانيوم 235 في 400 جرام مثلا تكافئ الطاقة الكيميائية المحررة عند احتراق 1400 طن من الفحم. أما الطاقة الناتجة من اندماج 400 جرام هليوم من نوى ذرات الهيدروجين فتعادل الطاقه الكيميائية لاحتراق 10400 طن عن الفحم. وهنا يتبين مدى الكرم في استخراج الطاقة من الاندماج النووي.

إرهاصات التحقق

كان النجاح الوحيد المتحقق لإنتاج طاقة من الاندماج النووي، مع الأسف، يتمثل في أبشع وسيلة إبادة يمكن أن يعرفها الإنسان، تلك هي القنبلة الهيدروجينية التي اختبرتها الولايات المتحدة لأول مرة عام 1952، وهي تنتج طاقتها ألاندماجية بفعل حرارة وضغط قنبلة نووية أخرى، لكنها انشطارية تنفجر فتولد الحرارة والضغط اللازمين لحدوث الاندماج النووي الذى تنطلق منه طاقة أخرى رهيبة، تقدر قوتها بالميجا طن من مادة ال TNT شديدة الانفجار، والميجا طن يساوي مليون طن. ويكفي أن نتصور أن انفجار قنبلة هيدروجينية واحدة طاقتها ميجا طن واحد يسبب العمى لكل البشر الواقعين في دائرة قطرها 160 كيلو مترا من مركز الانفجار، وتسحق كل شيء في دائرة قطرها 6 كيلو مترات من مركز الانفجار.

كان هذا هر النجاح الوحيد الكبير الموثوق فيه، أما في المجال السلمي، فإن طاقة الاندماج شهدت محاولات، وتصورات، وتجارب محدودة الطاقة وباهظه التكاليف. وكانت المشكلة هي كيف يتم إنتاج درجه حرارة تقدر ب 200 مليون درجة مئوية وتكون ضغطا يصل إلى 10 مليارات طقس جوي، ثم أين الوعاء الذي يتم فيه احتواء هذا كله؟

عام 1950 اقترح العالمان الروسيان سخاروف وتام عمل جدارمن مجال مغناطسي قوي لاحتواء التفاعل، وتحقق تطبيق الفكرة في أول مفاعل للاندماج النووي حمل اسم "توكرماك" وهي اختصار من الحروف الأولى لتعبير روسي يعني غرفة المجال المغناطيسي الحلقي وعلى غرار هذا المفاعل ألاندماجي السوفييتي جرى إنشاء مفاعلات أخرى في الغرب،

كما أن السوفييت كانوا الأسبق أيضا في طرح فكرة إنجاز تفاعل الاندماج النووي على البارد، منذ الأربعينيات، وكان هذا اقتراح سخاروف أيضا مع ماركوف وزيلدوفتش. وقد تحقق مصادفة على يد العالم الأمريكي لويس الكاريز في جامعة كاليفورنيا في الستينيات.

ولم تخل رحلة الاندماج النووي عن مفارقات، كان أبرزها الفرقعة التي أحدثها عالمان أمريكيان لجآ إلى مجلة نيوزويك لنشر خبر مؤتمرهما الصحفي في مايو 1989 الذي أعلنا فيه تمكنهما من النجاح في إحداث اندماج نووي ي زجاجة بها ماء ثقيل وقضيب من البلاديوم.

ولم تثبت صحة ذلك الادعاء ولم ينف أيضاً، حتى جاء الوقت ليصيب الاندماج هدفه الملموس الأول في نهاية 1991، ويغدو طاقة المستقبل.

الاندماج على طريق النجاح
بقلم : الدكتور مصطفى حموليلا والدكتور توفيق قسام

من أين تنبع هذه الطاقة الهائلة؟ وما هي الشروط اللازمة لإطلاقها؟ وكيف يمكن السيطرة على مادة في درجات حرارة تبلغ ملايين الدرجات المئوية؟ أسئلة يجيب عنها هذا المقال.

طالعتنا وكالات الأنباء في 9 نوفمبر 1991 بأن مفاعل الإندماج JET (توكوماك المجموعة الأوربية) في أبدنغتون قرب أكسفورد نجح في تحقيق الاندماج لمدة ثانيتين معطيا استطاعة اندماج قدرها 2 ميجاوات، وأنه سيتوقف في فبراير من عام 1992 لإجراء بعض التعديلات ليعاود العمل بدءا من عام 1994 بفاعلية أكبر، وهو بذلك قد حقق النجاح أمام منافسيه الأساسيين الأمريكيين واليابانيين والسوفييت، فما هو الاندماج؟ وما قيمة هذا النجاح التاريخى على طريق توفير طاقة الاندماج النظيفة لرخاء العالم، ومن معين لا ينضب عبر ملايين السنين ؟

الذرة وقواها الكامنة

ما من أحد منا إلا ويعلم اليوم أن ذرات المادة تتألف من نواة صغيرة جدا تتركز فيها تقريبا كل مادة الدرة، وتحيط بها الإلكترونات بترتيب معين يحدد عددها في الحالة الطبيعية الصفات الكيميائية للذرة. وما نود إبرازه هنا هو أن الذرة بإلكتروناتها أكبر بمائة ألف مرة تقريبا من النواة، فأبعاد النواة بالنسبة للذرة هي كأبعاد حبة الأرز بالنسبة لملعب كرة القدم، وعندما تتقارب الذرات بعضها من بعض تتعرض إلكتروناتها للتشابك أو لإعادة الترتيب محدثة الجزئيات نتيجة ما يسمى التفاعلات الكيميائية. ومن ذلك مثلا تفاعل الكربون والأكسجين لتوليد جزيء غاز ثاني أكسيد الكربون وإطلاق كيمة من الحرارة تبعث الدفء في جسم الإنسان أو في موقد.. إلخ. ، فمن أين تأتي هذه الحرارة؟ نستبق القول لنؤكد أن هذه الحرارة تأتي على حساب تحول قسم من كتلة الذرات المتفاعلة إلى طاقة.

ولو استطعنا أن ندع التفاعلات تحدث في النوى بدلا من حدوثها على سطح الذرات لحصلنا على تغيرات أبلغ تحرر طاقات أعلى بكثير من تلك التي تحدث على سطوح الذرات الكيميائية. وهذه التفاعلات هي سر ما يسمى بالطاقة النووية الذرية كما هو الشائع خطأ أن يقال، فالنجاح الذي أحرزه مفاعل الاندماج "جت" ما كان ليثير إلا الفيزيائيين وإن كان يبشر مستهلكي الكهرباء العاديين بأن الأندماج النووي الحراري، منبع الطاقة الأسطوري المتجدد غير الملوث، ربما قد آذن بالوجود، وسيصبح حمقيقة فى السنوات القادمة. وأن التكاليف الخرافية التي بذلت لبناء مثل هذه المنشآت الضخمة لم تكن دون جدوى، فمئات العلماء في أوربا والولايات المتحدة واليابان والاتحاد السوفييتي (سابقا) مجندون لتحقيق هذا الهدف، إنه تفاعل يحتاج إلى تسخين هائل يتجاوز مئات ملايين الدرجات، إنها درجات الحرأرة الهائلة التي تلزم في الواقع لتحريض تفاعلات الاندماج بين نوى الذرات الخفيفة كي تتحد فيما بينها لتشكيل نوى أثقل من تحرير كمية مجدية من الطاقة. فالاندماج هو ما يجعل النجوم تلمع، وليس لمعان شمسنا وطاقاتها إلا من توقد تفاعلات الاندماج بين نوى الهيدروجين فيها.

فالاندماج النووى الحراري رغم نظافته صعب المراس وصعب التدجين لما يتطلبه من حرارة عالية أو غير ذلك عن الشروط التى سنعمل على استعراضها. وهنا نعود لتكرار القول بأن فهم أسباب ذلك والوقوف على أبرز مقوماتع يستعدعي فهما أعمق لخواص النوى الذرية.

يتضح من تأمل البنية النووية للذرة التى أشرنا إليها أن فيها قوتين أساسيتين، الأولى قوة كهربية تجذب الإلكترونات المحيطة إلى النواة الإيجابية، وهي ذاتها القوة التي تؤثر فيما بين البروتونات داخل النواة وتجعلها تميل إلى التباعد (التفكك) لما تولد بينها من تدافع بسبب تماثل الشحنة.

أما القوة الثانية فلابد أن تكون قوة ربط بين البروتونات والنترونات فيها، إذ بدون هذه القوة النووية غير المألوفة لن تستقر النوى. وهذه هي القوة النووية التى تؤثر دون تمييز بين كل مكونات النواة المشحونة (منها البروتونات)، وغير المشحونة (النترونات). ولابد أن تكون شديدة وتفوق قوتها جميع القوى الأخرى بالغة ما بلغت شدتها.

طاقة الارتباط واستقرار النوى

يتجلى تماسك النواة لنا بفارق دقيق هو أن النواة أقل وزنا من مركباتها. يتضح من قياسات كتل البروتونات والنترونات المكونة للنواة أنها أكبر من مجموعها دوما من كتلة نواة الذرة التي تشكلها، مهما كانت هذه الذرة وهذا الفارق هو ما يسمى عادة نقص الكتلة. وتقول النظرية النسبية إن هذا النقص في الكتلة يتحول إلى طاقة وفقا للعلاقة الشهيرة الطاقة = الكتلة * مربع سرعة الضوء، وهذا النقص يقابل ما يدعي طاقة ارتباط النواة، أي طاقة ارتباط مكونات النواة، وهي أيضاً الطاقة اللازم بذلها لتفكئك هذه النواة إلى مكوناتها

تنتج الطاقة النووية إذن من انشطار النوى الثقيلة أو من اندماج النوى الخفيفة، فهاتان عمليتان تؤديان إلى نقص الكتلة، ومن ثم إلى إنتاج الطاقة الحركية (لحرارية).

طاقة الاندماج

ويتركز حديثنا عن الاندماج المنتج للطاقة، إلا أن الحصول على طاقه الاندماج يتطلب منا إسهاما أوليا يستثمر في التغلب على قوى التدافع الكهربائي بين البروتونات، وهي القوى التي تمانع حد، وث الاندماج بمعاكستها الشديدة لفعل تقارب النوى كي تتفاعل. إن وأس المال اللازم لهذا الاستثمار في مجال إنتاج الطاقة يختلف باختلاف تفاعل الانلاماج المعتمد، وعلى وجه الدقة إنه يتناسب حسب قانون كولون مع جداء (حاصل ضرب) شحنتي النواتين المندمجتين.

ويمكن القول عموما إن مقدار الاستثمار كبير جدا (مليارات الدولارات)، رلكن نسبة الربح وسطيا أكبر بأربعة آلاف مرة، وهي تستحق البذل حقا، ولكنه بذل لم تقدم عليه ألا الدول المتطورة القوية الغنيه الواعية، ويمكن أن تقدم عليه الدول النامية المتضافرة لتوفير أسباب النجاح.

فمن وجهة نظر البذل اللازم تقديمه يعد اندماج نراتي الهيدروجين الثقيل للحصول على الهيليوم، الاندماج الأكثر أهمية للبحث المختبرى، لأنه يقدم أكبر كسب في الطاقة في مقابل أقل بذل (أو كما يقال أقل رأس مال للاستثمار). وهذه الطاقة تمتص رويدا رويدا في أوساط مناسبة متوزعة بين ذرات الوسط مولدة ما سميناه الحرارة التي كما نعلم يمكن أن تولد البخار والبخار بدوره يمكن أن يدير العنفات مولدا الطاقة الكهربائية.

والسؤال الآن كيف يمكن استدار هذا المورد الثري؟

هياج حراري للتصادم

وقبل استغلال النواتج لتفريغ طاقتها والحصول على الحرارة أو الكهرباء يلزم تحريض تفاعل الاندماج بحد ذاته، والتغلب على عوق قوي التجاذب الكهربي له، وذلك كما قلنا بتقدي الاستثمار الأولى الذي لابد منه والذي يكفي لتحقيق هذا التفاعل في مزيج نظيري الهيدروجين: الدوتيريوم والنريتيوم. من الواضح أنه ربما يتم لنا ذلك ببساطة عند تقديم الاستثمار المطلوب على شكل حرارة، إذ أن الحرارة تولد في المزيج حركة عشوائية (هياجا حراريا) وقد يصادف عندئذ تتصادم نواتان جبهيا فتبلغ إحداهما الأخرى بطريق مباشر مخترقة الفراغ الكبير في الذرة ومتهحدية التدافع الكهربائي بين النواتين، وتتلخص المسألة في مجملها بمجرد التسخين إلى الدرجة الكافية لتحقيق تلامس (أو تصادم) النوى. ويتطلب تحقيق ذلك كثيرا من الطاقة الحرارية التي تتوزع عشوائيا بين مزيج الذرات أو الجزيئات؟ أما الحصول على الطاقة الحركيه (الاندفاعية) اللازمة لبدء تحقيق اندماج الدوتيريوم والتريتيوم، فتقتضي رفع درجة الحرارة إلى 40 مليون درجة. وهنا قد يتاح لبعض الذرات اقتراب بضعها من بعض حتى يضعه فرميات، وهذا الاقتراب إن حدث يجعل القوى النووية تفعل فعلها محدثة الاندماج المطلوب. ويرى المختصون أن زيادة مردود الاندماج ترفع درجة الحرارة إلى مائه مليون درجة.

الذرات تتحول إلى بلازما

والسؤال هنا كيف يمكن بلوغ هذه الدرجة من الحرارة وكيف يكون حال المادة في مثل هذه الدرجات العالية؟ طبعا لن تكون صلبة ولا سائلة ولا غازا عاديا، بل ستكون بالحالة التي تسمى بلازما، والبلازما حالة تكون فيها نوى الذرات في أعلى درجات التأين اي عارية من إلكتروناتها. وهذه في الواقع هي الحالة العادية للمادة في درجات الحرارة التي تفوق عشرة آلاف درجة، وهذه درجة لا نراها على الأرض إلا في الصاعقة أو القوس الكهربائية أو في الانفراغ الكهربائي؟ وإن كانت هي. اكثر الحالات أنتشارا في الكون من حولنا، إذ ليست الشمس والنجوم إلا كرات هائلة من البلازما الساخنة.

تبقى البلازما في النجوم متماسكة رغم قوى التنافر بين مركباتها بفعل القوى التناقلية الكبيرة التي تحصرها وتشدها اليها مثلما تمسك الأرض بالغلاف الجوي حولها، ولكن أنى لنا هذا على سطح الأرض؟ وكيف وأين وفي أي وعاء يمكن احتواء هذه البلازما وجعلها ملتمة بعضها إلى بعض؟. فكل قدرأو وعاء نضعها فيه في درجة الحرارة اللازمة للاندماج (أكثر من 40- 100 مليون درجة) لكل مادة أو آنية نعرفها تنصهر بل وتتبخر متحولة إلى غازبل إلى بلازما، هنا بيت القصيد أو هذا هو جوهر معضلة الاندماج المطروحة حاليا على العلم والتكنولوجيا. وفي الحقيقة لا يكفي أن نولد البلازما المحصورة فقط، وهذا بحد ذاته ليس أمرا يسيرا، بل يجب إتاحة الوقت الكافي للتفاعل كي يحدث ومن ثم للطاقة كي تنتج. فالوصفة الكاملة للاندماج المسيطر عليه تتلخص في تسخين البلازما إلى درجة عالية وتركها ومنا كافيا (بضع ثوان) كي تنضج، إذ لو كان عدد التفاعلات التي تجري في البلازما قليلا جدا تكون الطاقة المستردة غير كافية لبلوغ ما يسمى "الحصيلة المعدومة" أي لبلوغ التوازن الشامل ما بين الطاقة المصروفة لتحريك التفاعل (رأس مال الأستثمار) وبين الطاقة الناتجة عن تفاعلات الاندماج.

حصر البلازما

والخلاصة أنه يلزم عزل البلازما حراريا وعدم السماح لها بأن تبرد بتماسها مع جدران حاويتها لمناسبة إن وجدت. ولكن السؤال مرة أخرى ما هي مدة العزل اللازمة؟ تتدخل في الإجابة عن هذا السؤال عوامل رئيسية ثلاثة، والشيء المقبول الذي يمكن الأخذ به هو حاصل ضرب هذه العوامل فيما بينها، العامل الأول كما أوضحنا هو درجة حرارة البلازما T، والثاني هو كثافة البلازما N أي عدد نوى الدوتوريوم والتريتيوم في وحدة الحجم. وأخيرا زمن احتباس البلازما، أي الزمن الذي يبقى قلب البلازما خلاله بتماس مع نفسه. فهذه أمور تتدخل بدهيا بالشيء المطلوب، فالأول يكسب النوى السرعة اللازمة للتصادم والثاني يزيد عدد النوى في طريقها، ويزيد من ثم احتمال التصادم مع النوى المجاورة، والأخير يتيح الزمن اللازم ، للتفاعل، فلكل هذه العوامل أهميتها الأساسية ولابد أن يكون متأثرا بها جميعا، أي متأثرا بحاصل ضربها فيما بينها أي بالجداء T.N.Z المسمى جداء الأندماج. ويدل الحساب أنه يكفى بلوغ القيمة: واحد (ضغط جوي X ثانية) كي يتحقق ما أسميناه "الحصيلة المعدومة" أي بلوغ نقطة التعامل في موازنة الطاقة، إلا أن بلوغ هذا الهدف يعد مرحلة أولى لأن الهدف الذي نسعى إليه هو بلوغ الإنتاج المجدي للطاقة، أي الاستمرار حتى بلوغ ما يسمى مرحلة الاحتراق أي المرحلة التي تصبح معها تفاعلات الاندماج مستديمة ذاتيا (مستمرة من تلقاء نفسها) ويتوقع عند استتباب هذا النظام أن تعود نوى الهيليوم (ناتج الاندماج) بما تحمله من طاقة إلى داخل البلازما كي توفر استمرار حرارتها وتضمن بقاءها في درجة الحرارة اللازمة للتفاعل.

وعند تحقق هذا يكون لدينا ببساطة قطعة من نجم ملتهب تغذينا بأفضل أنواع الطاقة النظيفة نسبيا، والتي لا ينضب معينها ما دمنا قادرين على استخلاص الدوتيريوم من هيدروجين الأرض (صناعة الماء الثقيل مثلا) لأن الهيدروجين العادي يصلح للاندماج أيضا، ولكنه أضعف عطاء للطاقة بأربع مرات تقويبا.

قدور الاندماج

من كل ما تقدم يتضح سبب السعي الدءوب اللاهث الذي تقوم به الدول المتطورة الغنية راصدة ملايين الدولارات لتحقيق هذا الهدف العظيم بالتغلب على صعوبة. تحقيق الاحتراق والسيطرة على تماسك البلازما وعلى الحرارة الهائلة الناتجة.

أما أين يقف العالم المتطور الآن بأبحاثه هذه؟ وما هي النجاحات التقنية التي حققها في هذا المضمار؟، فيتضح من البحث في السبل الأساسية المتبعة لتحقيق هذه الغاية وتحديدا في "قدور" الاندماج التي تحققت لإنسان عصرنا، عصر الذرة أنه يمكن في الحقيقة الوقوف عند خمسة أنواع أساسية منها وهى:
1- التوكوماكات: منها التوكوماك
(JET) الذى نجح نجاحا جيدا على طريق الحصيلة المعدومة. والتوكوماك (NET) ، المشروع الأوربي الصرف، والمفاعل النووي الحراري الدولي التجريبي (ITER) ويقوم على أساس حصر البلازما في أنبوب حلقي تحت تأثير مجال مغناطيسي قوي.

2- قدر الاندماج بأشعة ليزر: ومنها التوكوماك الليزري الليبي الصغير في تاجوراء قرب طرابلس (حيث يؤدي قذف الذرات بأشعة الليزر القوية إلى تحويلها إلى بلازما).

3- الاندماج بالحزم الأيونية: الآتية من عدة مسرعات موجهة وتشبه في مبدأ عملها قدور الليزر وهي لا توجد إلا في سانديا بالولايات المتحدة والمعروفة باسم (P B F A II).

4- الاندماج البارد: فيه مسام معدن البلاديوم شره الامتصاص للهيدروجين الذي أثار اهتمام العالم أخيرا.

5- الاندماج بالكبس عن طريق تيارات شديدة جدا من رتبة المليون أمبير الذي سيبدأ العمل به عام 1993 في الامبيريال كولدج في لندن.