إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

هل مازال البؤس يصنع الإبداع؟!

في تاريخ الفكر الإنساني، ارتبط الإبداع عادة بالمعاناة والبؤس، وظلت صورة المبدع في الذاكرة الجماعية ذلك الإنسان البسيط المهمش الذي يكتب بقلم مغمس في حبر الفقر والشقاء، لا تعيقه أهوال الحياة وأعاصيرها، يكتب ولو في بطن الحوت، ولو تحول هذا الفقر إلى رجل فهو لا يقتله، يحس بقلمه أنه سيد نفسه وأمير العالم، ويشعر، في اختلاف تفكيره ورؤيته لأناه وللعالم، بتميزه، وبتزايد أنفته وعزته، ولا يصرخ إلا في وجه جلادي الكلمة المضيئة، ولا يطمح إلا إلى هامش صغير للبوح، وإلى مساحة صغيرة للتعبير، بعيداً عن رقابة السلطة وأعينها، فقط لكي يبصر أحسن وينتقد أكثر.

هكذا عودنا مبدعونا، يحرسون مملكتهم الإبداعية في صمت وامتلاء وسمو وشموخ، يؤمنون أن من ينتج ذهباً صقيلاً من الكلمات، لا يحتاج إلى كنوز العالم، و«جبران» تساءل يوما «من يبيعني فكراً جميلاً بقنطار من الذهب؟»، ويصرون على صنع الحياة، ولو من صحارى الألم والتجارب المريرة، فـ «فان كوخ» عضه الفقر، لكنه ظل يرسم باستمرار، و«تشايكوفسكي» ظل يلحن وإن أنشبت الفاقة أنيابها فيه، والروائي المغربي «محمد شكري» اشتكى في طفولته من «الخبز الحافي»، لكن سرعان ما غمسه في مرق المتعة والجمال والإبداع، والقاص المغربي «محمد زفزاف» ضاق مسكنه، لكن عباراته كبرت ، ورؤيته اتسعت.

لا أظن أن الفقر يمنع انبجاس الروح، قد يشوش على الإبداع، لكنه لا يعيقه كثيراً، ولا يفقده ألقه وبريقه، فما يقلقه أكثر هو ذلك القحط والجفاف الروحي، ونكسة المبدع ستكون أكثر إيلاماً إذا اجتمع جفاف الروح وقحط الجيب.

لكن هذا لا يعني، أن يظل المبدع يكتب تحت معول ومتاريس الفقر والحاجة، فكفاه تلك المعاناة التي يعيشها أثناء عملية الكتابة، وصورة المبدع البئيس المهمش ربما عليها أن تولي بلا رجعة، وأنا على يقين من أن الإبداع إذا دُلل ومُنح الرعاية والاهتمام، لن يفقد حرارته وقوة تأثيره، بل سيزداد وهجاً وألقاً وغنجاً، وستحفظ كرامته وإبداعيته. فالمبدع، بالإضافة إلى حاجته إلى إشباع روحي ووجودي، هو في حاجة كذلك إلى إشباع بيولوجي، في حاجة إلى تأمين ظروف عيشه، وإلى توفير الدعم المادي والمعنوي كي يكتب باطمئنان وهدوء.

وثمة بعض المبدعين ممن راقتهم، مع الأسف، فكرة لعب دور القديس أو المسيح، أو الشمعة التي تحترق لتضيء العالم، لاستدرار عطف الآخرين عليهم، ولتسليط الضوء على كتاباتهم.

والمبدعون العرب الحقيقيون، ممن نجحوا بصدق في تطهير أرواحنا من قذارة العالم، لا يبدعون باعتباطية أو عبثية، بل بجدية وصرامة، و«محمود درويش» كان يصرح دائما في حواراته، بأنه يجد صعوبة في الكتابة بعيداً عن مكتبته، وأنه يخصص لشعره زمناً محدداً يشتغل فيه، وأن الشعر بالنسبة له دربة وممارسة ومثابرة لتلميع كلماته ولغته، كي تظل مشرقة على الدوام، وليس فقط مجرد إلهام وشيطان أبله.

 

 

 

إكرام عبدي