أزمة البحث العلمي في العالم العربي أحمد شوقي

أزمة البحث العلمي في العالم العربي

تستضيف الكويت في هذا الشهر مؤتمراً موسعاً لمناقشة أزمة البحث العلمي في العالم العربي, وهي أزمة لابد أن تكون على سلم الأولويات من التفنيد على كثرة ما في العالم العربي من أزمات, لأن ارتقاء البحث العلمي ليس فقط مجرد طريق لتحقيق كفاية الشعوب وقوة الأمم في عالم اليوم, الناهض على أكتاف العلم ومخرجاته, بل هو أيضا سبيل لعقلانية التفكير ومنطقية السلوك في واقع هو أشد ما يكون احتياجاً إلى ذلك.

و(العربي) تساهم بهذا الملف الموجز في تحية وتقدير جهود المؤتمر, وتنبيه في جزء منه إلى أهمية استذكار العلوم الإنسانية - أو العلوم الاجتماعية - كرافد علمي لم يعد منفصلاً عن تيار العلم بجوانبه المختلفة.

إشكاليات وتحديات
نظرة عامة

يرتبط مفهوم الأزمة في العقل العربي بالانطباعات السلبية, وهذا أمر مبرر بطبيعة الحال, لكنه غير كاف, فعلماء السياسة يعلموننا أن الأزمة مفهوم تطوري, يقبل الانفراج والحل كما يقبل الزيادة والتفاقم. وعندما نعالج قضية مصيرية مهمة, مثل قضية البحث العلمي في الوطن العربي, علينا أن نقوم بذلك من منطلق العمل على منع التدهور والبحث من آليات تصحيح المسار والانطلاق نحو الأفضل بدلا من الحديث عن المشكلات والمعوقات, على الرغم من عدم نكرانها. إننا في حاجة إلى أن نتبنى في كل أمورنا هذا المدخل الإيجابي, الذي يتفاعل بتصميم مع الواقع, محاولا تجاوزه برؤية مستقبلية طموحه تستحقها أمتنا وتوجب علينا البحث عن حلول ممكنة لمواجهة الإشكاليات والتحديات التي أدت إلى هامشية العطاء العلمي العربي وغيابه عن الساحة لمدة طويلة.

إن استعراضي لإشكاليات وتحديات البحث العلمي عندنا يتضمن القضايا التالية:

- غياب الرؤية السياسية للبحث العلمي.

- الفجوة المعرفية وتجلياتها في منظومة البحث العلمي العربي.

- دور التعاون الدولي والدبلوماسية العلمية بين الآفاق والقيود.

- التنسيق العربي وتنمية القدرات العلمية بالمنطقة.

إن الحديث عن الرؤية السياسية للبحث العلمي يذكرني بالتقارير الاستراتيجية التي يقدمها المستشارون العلميون لقيادات الدول المتقدمة, وما تتناوله من أولويات يجب التركيز عليها ومجالات للمنافسة لا يصح التخلف فيها ومتطلبات للحفاظ على السبق والتميز.. إلخ. إن هذه التقارير تكون أساسا لقرارات حيوية ذات أبعاد سياسية بالغة الخطورة. وكلنا نذكر انطلاق سبوتنيك الذي كرس تفوق الاتحاد السوفييتي السابق في الفضاء, ورد كيندي بتجاوز هذه الكبوة والهبوط على سطح القمر. من هذه الأمثله الكبيرة والشهيرة يتضح ما نعنيه بالرؤية السياسية للبحث العلمي, من حيث علاقته بالأمن القومي وقوة الدولة وقدراتها التنافسية. وعندما نشير إلى غياب الرؤية السياسية للبحث العلمي عندنا فلا نعني المطالبة برؤية مماثلة, ولكن نؤكد أهمية امتلاك رؤية مناسبة لسياقاتنا المحلية والقومية والإقليمية. لقد كتبت في مطلع تسعينيات القرن الماضي عن مفهوم (الأمن العلمي), باعتباره الأمن اللازم لكل أمن! فالأمن الغذائي أو المائي أو البيئي, ناهيك عن الأمن الدفاعي, كل هذه الأشكال تحتاج إلى امتلاك للقدرات العلمية والتكنولوجية التي توفرها.

وفي تعاملنا مع العلم بمفهومه الواسع, الذي يشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية, أو ما اصطلح على تسميته بـ (العلم الاجتماعي), نرى أن الأشكال الخاصة بالأمن الاجتماعي, تتضافر وتتفاعل مع كل الأشكال الأخرى من الأمن. ومع غياب الرؤية السياسية الناضجة للبحث العلمي, تسود في خطابنا (الرؤية الديكورية) للعلم وللمشتغلين به, وتنعكس بشدة على فرص تمويله وتوظيفه وعلاقة المجتمع به. ويصير العلم عندنا (بضاعة مستوردة). وهذا ينقلنا إلى النقطة التالية الخاصة بالفجوة المعرفية.

العلم والجماعة العلمية

والحقيقة أن تجليات الفجوة المعرفية في منظومة البحث العلمي ذات وجوه عديدة ومتشعبة, وتبدأ مما ذكرناه عن غياب الرؤية السياسية. فكثيرا ما يخلط بين سياسية العلم Politics وبين الخطط الجزئية أو القطاعية التي تنشغل بها, حتى أننا نترجم كلمة Policy أيضًا بـ(سياسة), بينما يعني بها غيرنا أمراً آخر (كله عند العرب سياسة!), ولتسهيل المعالجة اسمحوا لي أن أذكر بعض أشكال الفجوة في نقاط محدودة, ومن هذه النقاط ما يلي:

- تخلف طرق تدريس العلوم في مختلف المراحل التعليمية عن الوفاء بتشكيل (الكتلة الحرجة) من الشباب المحب للاشتغال بالعلم والقادر على البحث فيه بالإبداع والابتكار اللازمين. إننا نشعر بالرضا الشديد لمهارة الصغار في التعامل مع الكمبيوتر (كمستخدمين) أو ما هو أزيد قليلاً, دون أن ندرك الفارق بين فهم وتملك أدوات العلم الذي أدى إلى الآلة وبين استخدام الآلة. إن واقع تدريس الرياضيات والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا هو الذي يحدد طبيعة المشتغلين بالعلم في المستقبل. هذا عن العلم الطبيعي, ولاشك أن العلم الاجتماعي لا يشذ عن ذلك كثيراً, مع خطورة تدريسه التلقيني ووضع مادته الثرية في قوالب جامدة. وإذا ما انطلقنا من تدريس العلوم إلى تدريس مجالاتها التطبيقية والتكنولوجية نرى أن أغلب ما هو مهم يمثل (صندوقا أسود) لا نتطرق إليه بالقدر الكافي. إننا عموما ندرس (ماذا) بأكثر مما ندرس (لماذا), أما (كيف) فغيابها أكثر من ظهورها على استحياء!

- وإذا ما انخرط خريج النظام التعليمي السابق, الذي يشكل الوجه الأول للفجوة المعرفية ذات الوجوه العديدة, في سلك البحث العلمي بالجامعات ومراكز البحوث نتعرف من مسيرة ومصير أغلبهم, إلا من رحم ربي, على الوجه الثاني فالدخول متواضعة لا تسمح بالبناء المعرفي الكافي في كثير من الأحيان, والإمكانات قليلة والأستاذ يتصرف غالبا كشيخ الطريقة, والحرية الأكاديمية مصطلح نظري بحت. والطالب (الذكي) هو الذي يصير نسخة مكررة, وباهتة غالبا, من أستاذه. والسعيد الذي يرحمه الله من يفوز بمنحة أو بعثة خارجية يمارس فيها البحث العلمي كما ينبغي, ويظهر كفاءته الحقيقية التي لا تقل عن غيره من عباد الله. أما الأكثر سعادة, في رأي الكثيرين, فهو من يستطيع البقاء في الخارج ليحقق ذاته ويصل إلى أقصى الدرجات, بما في ذلك الكأس المقدسة للعلماء (جائزة نوبل).

وعندما ينهي طلاب الدراسات العليا بحوثهم ويحصلون على الدكتوراه من الداخل والخارج تبدأ مسيرة (بحوث الرفوف) اللازمة للترقية وفقاً للتوجهات التي يحبها الأساتذة الكبار, وهي بحوث (تعيد إنتاج العجلة) في أغلب الأحيان, ولا يصل إلا القليل منها للمجلات العلمية العالمية المحكمة, التي تتمتع باستناد المتخصصين لأنها تضيف الجديد إلى المعرفة المتخصصة في مجالها. لذلك لا تعجب من اتساع فجوة الإنتاجية العلمية, وضعف قدرتها في سوق المعرفة الذي يكتظ ببراءات الاختراع وشهادات الملكية الفكرية التي يحصل عليها غيرنا. وتعكس خريطة توزيع هذه الجماعة العلمية المظلومة, التي تتعرض إلى هدر إمكاناتها الكبيرة لو أعطيت الفرصة, النتيجة المذكورة. فالغالبية تكون في الجامعات والمعاهد التعليمية, وهنالك قلة قليلة في مراكز البحوث الحكومية غالباً, أما القطاعات الإنتاجية والخدمية ومؤسسات القطاع الخاص فتكاد تضع لافتة تقول (لا مكان للعلماء) لأن (الاستيراد هو الحل)! وبالمقارنة بالدول المتقدمة نجد أن هذا الوضع يعد مقلوباً, فالنسبة الأكبر تعمل في قطاعات الإنتاج والخدمات والقطاع الخاص, الذي يسهم بشدة في تحويل البحث العلمي. وحتى النسبة الأقل العاملة بالجامعات تعمل على إبرام التعاقدات مع هذه القطاعات لحل مشاكلها وتوفير مصادر خاصة للتمويل.

- تؤدي الأحوال السابقة في مجملها إلى تحديد الملامح السلبية والفجوة الواسعة في علاقة المجتمعات العربية بالعلم والجماعة العلمية, من حيث ضعف الطلب المجتمعي وفقد التمويل, الذي يحاول أن يصل بالكاد إلى 1% من الدخل القومي الهزيل قطرياً وقومياً, على الرغم من تخيلنا أنه غير ذلك. وتبدو فداحة الصورة عند المقارنة بغيرنا من الدول المتقدمة, وحتى بالدول المحيطة بنا. إن كل أشكال الفجوة المعرفية تصب في هذه الفجوة الأخيرة, وتصحيح العلاقة يحتاج إلى جهود كبيرة, تبدأ بزيادة علمية مجتمعات تشيع فيها الأمية, وتنتهي بأهمية التوصل إلى استراتيجية عربية للبحث العلمي تقوم على رؤية سياسية ناضجة, وتمر بضرورة امتلاك مهارات إدارة منظومة البحث العلمي والتكنولوجي بالشكل الذي يربطها بنسيج المجتمع الذي تعمل على تنميته بحل مشاكله وتعظيم قدراته التنافسية وتحسين نوعية حياة أبنائه, ويقوم بدوره بتنميتها بزيادة الطلب عليها وتوفير إمكانات انطلاقها واقترابها من مستويات الجودة العالمية.

- يضاف إلى ما سبق الفقر الشديد في الدراسات الثقافية عن العلم في الوطن العربي (فلسفة العلم وتاريخه وسوسيولوجيته) وهي دراسات تأسيسية مهمة في فهم طبيعة إنتاج المجتمعات الإنسانية للعلم وتوظيفه.

- ولعل القارئ يلاحظ أن عرضنا للوجوه العديدة للفجوة المعرفية, التي تتجاوز الاقتصار على التركيز على الفجوة الرقمية, اتسم بالمعالجة الكيفية غير الكمية بأرقامها وحساباتها, حتى لا نكرر ما سيطالعه في مقالات أخرى, وأشار إلى سلبيات الواقع تعليمياً وعلمياً ومجتمعياً. لكن الموضوعية تقتضي ذكر الإيجابيات المتمثلة في العديد من الجهود الفردية والمؤسسية للحاق بركب التقدم التعلمي, وتشكيل وتفعيل القاعدة العلمية, وإشاعة روح الفريق في البحث العلمي. هذه الجهود المتناثرة قطرياً وقومياً تستحق التواصل والدعم حتى نحمي إمكانات أفرادها من الهدر والإحباط, والإحساس بأن النجاح لا يكون إلا خارج الحدود حيث يتوافر المناخ الأمثل للإبداع والابتكار وتحقيق الذات. إن هذه الجهود المضيئة تمثل نواة النقلة النوعية المرجوة, لأنها قصص نجاح حقيقية على الرغم من المعوقات. ومن حقها علينا أن نتساءل: ماذا نستطيع أن نقدم لو أزلنا المعوقات? وهذا ينقلنا إلى الحديث عن آلتين مهمتين للانطلاق والتقدم, وأعني بهما التعاون الدولي والتنسيق العربي.

التنسيق العربي الغائب

من حق القارئ أن يتساءل: لماذا قدمنا الحديث عن التعاون الدولي على الحديث عن التنسيق العربي? والإجابة التي لا تخلو من الأسف أن التعاون الدولي بين الأقطار العربية منفردة والعالم الخارجي قائم بدرجات مختلفة من العمق والنجاح. أما التنسيق العربي فهو مهمش إلى درجة تشبه الغياب. وبالنسبة لمنطقتنا بظروفها المعقدة بشكل خاص, مما يستدعي سياسة ذكية وشفافة قطرياً وعربياً. هذه السياسة يجب أن تنبني على (دبلوماسية علمية) تعد من أوجه ضعفنا الدبلوماسي, وتحتاج إلى كثير من النضج والمهارة.

هذه الدبلوماسية يجب أن تنعكس في خطط البعثات والمنح, وفي المشروعات المشتركة الثنائية أو متعددة الأطراف, وكذلك في اتفاقيات التمويل الأجنبي للبحث العلمي, الذي يعد مصدراً مهماً في العديد من الدول العربية. وعلى الرغم من الإنجازات الحقيقية لاتفاقيات التمويل الأجنبي, التي أعرفها عن قرب من واقع إدارتي لمشروع الترابط بين الجامعات المصرية والأمريكية, فإن تركيزه على البحوث التطبيقية والاجتماعية, التي تنطلق من الأجندة الخاصة للممولين, لكن سقف التقدم الذي أشرنا إليه يكون منخفضاً, لأن الكثير من البحوث الأساسية تعد بحوثاً استراتيجية لازمة للانطلاق. وإن كان من حق الممول أن يضع تمويله في المجالات التي تهمه, فمن حق الجماعة العلمية على الدول أن تكمل الصورة بدعم البحوث الأساسية ذات الطابع الاستراتيجي, التي تمكننا من إنتاج معرفة علمية أصيلة تضاف إلى الرصيد البشري, دون الاكتفاء بتطبيق نتائج ما أنجزه المتقدمون, ولا شك أن التنسيق العربي الذي نختتم به حديثنا يمكن أن يقدم الكثير في هذا المجال.

- وبلا مبالغة أو جلد للذات أعد التنسيق العلمي العربي الفريضة الغائبة حتى الآن في مشروعنا المستقبلي. فمع تواضع الدخل القومي العربي, الذي يبلغ إجمالاً 870 مليار دولار, وهو ما تتجاوزه إسبانيا وحدها, على الرغم من أنها ليست الدولة الأغنى في أوربا, يجب أن نستشعر الحاجة إلى طفرة تنموية لا تقوم إلا على التقدم العلمي. وحتى يكون الحديث عن عوائد التنسيق العلمي العربي مباشراً يمكن أن نوجزها في سطور: قدرة أكبر على ممارسة الدبلوماسية العلمية مع العالم المتقدم ـ التعاون في إنشاء مراكز تميز لتنمية القاعدة العلمية بتكلفة أقل وإنجاز أسرع ـ الدخول في مشروعات العلم الكبير في المجالات التي تخصنا ـ التعاون في إصدار دوريات علمية محكمة ترقى إلى المستوى العالمي. وعلى الرغم من أن هذه النقاط تحتاج إلى تفصيل أكبر, فإنها وحدها كفيلة بالمساعدة على إحداث نقلة نوعية في البحث العلمي العربي والخروج من أزمتها. وأؤكد أنها قليل من كثير مما يمكن أن يأتي به التنسيق العربي.

 

أحمد شوقي