في العلوم الاجتماعية: أكثر من أزمة فيصل يونس

في العلوم الاجتماعية: أكثر من أزمة

يعاني عالمنا العربي أزمة شاملة تضرب في كل جوانب الحياة فيه. وعلى الرغم من أن من هم تحت خط الفقر المادي - مقدراً بدخل يومي يقل عن دولار واحد - قليل, فإن عدد من يقعون تحت خط الفقر الإنساني (مقدراً بعوامل مثل إتاحة التعليم, والشعور بالأمان الشخصي, وطول العمر) يصل إلى 34% من السكان تقريباً, وهو وضع يماثل الهند, التي هي أفقر مادياً بكثير. كذلك تعاني المنطقة من أعلى معدلات لزيادة السكان في العالم, مصحوبة بنظم تعليمية غاية في السوء, تجعل من مشكلة الأمية وضعف تعليم النساء حالة مزمنة. وتبلغ نسبة الأمية في العالم العربي حسب تقديرات اليونسكو حوالي 40% من السكان الراشدين. وتتزايد هذه النسبة في بلدان عربية معينة مثل المغرب والسودان واليمن ومصر والجزائر لتصل إلى حوالي 49%. وتزيد الأمية بين النساء بكثير عنها بين الرجال, الأمر الذي يؤدي إلى نتائج وخيمة بالنسبة لعدد من المؤشرات الأخرى الحيوية مثل صحة الأطفال, ومعدلات انتشار الأمراض, وزيادة النسل, إذ يرتبط تعليم المرأة بهذه المؤشرات ارتباطاً وثيقاً. وتصل نسبة البطالة في أقل التقديرات وأكثرها تفاؤلاً إلى 15% من القوى العاملة. وتعود أسباب هذه البطالة إما إلى صعوبات هيكلية في بنية الاقتصاد أو سوء التعليم أو سياسات العمالة الحمقاء, وتؤدي إلى آثار اقتصادية وسياسية واجتماعية ونفسية وخيمة. وبالنسبة لمن يعملون هناك شكوى عامة من انخفاض إنتاجيتهم. ويشير تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة عام 2002 إلى أنه بينما كان إنتاج عامل الصناعة في العالم العربي يصل إلى 32% مما ينتجه زميله الأمريكي في عام 1960; انخفضت هذه النسبة إلى حوالي 19% بعد 30 سنة. ويبلغ الإنفاق على البحث العلمي أربعة في الألف من الدخل القومي, وهي نسبة ضئيلة لا تقارن بما تنفقه كوبا (1.3%) أو اليابان ( حوالي 3%). يعاني حوالي ثلث أطفال العرب صنوفًا مختلفة من سوء التغذية, بما يترك تأثيرات بالغة السوء على صحتهم الجسدية والنفسية, وقدرتهم على التعلم. وتنتشر روح السلبية وعدم المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية, فالغالبية العظمي من العرب الذين تتاح لهم فرصة التصويت في الانتخابات لا يذهبون إلى صناديق الاقتراع, ونسبة العرب الذين ينخرطون في أنشطة مدنية قليلة للغاية بالمقارنة ببقية العالم. وهناك أدلة كثيرة على تفاقم مشكلات مثل العنف, وتعاطي المخدرات بين شرائح المراهقين والشباب.

كل هذه مشكلات جوهرية, تمنع النمو والتقدم في مجتمعاتنا. إلا أنها مشكلات لا يمكن شراء حلول جاهزة لها, كما نشتري محطة لتوليد الكهرباء أو جهازاً للأشعة مثلاً, ولا نستطيع استيراد تكنولوجيا تساعد على التقليل منها. إنها مشكلات تمس سلوك البشر في تفاعلهم معاً في إطار ثقافي معين, وحلها يتطلب فهمها في سياقها الثقافي, وابتكار حلول صالحة له, وقد لا تصلح في سياقات ثقافية أخرى. هي مشكلات لا تنتمي - إذا أردنا أن نحدد الطرق المناسبة لحلها - إلى مجال العلوم الطبيعية, وإنما يمكن البحث عن حلول لها في العلوم الاجتماعية.

يعتمد العالم المتقدم كله على هذه العلوم, ويشجعها, ويقدم لها الدعم والإمكانات كي تقوم بدورها في خدمة التنمية. بل إن العقد الحالي في الولايات المتحدة, والذي بدأ في 2001, يسمي بعقد السلوكThe Decade of Behavior. يقول الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في تدشينه لعقد السلوك (إن جذور بعض من أهم التحديات الصحية والاجتماعية - مثل التدخين, وتعاطي المخدرات, والعنصرية, والعنف الأسري - تعود إلى السلوك غير الصحي, وإن للمشكلات السلوكية - إذا تركت دون علاج - عواقب مخيفة- سواء من حيث التكلفة الاقتصادية أو الإنسانية... وتقدم لنا العلوم السلوكية والاجتماعية معونة لا تقدر بثمن في تحديد أسباب هذه المشاكل العويصة, وطرق التخلص منها).

لقد انتهى العصر الذي كانت مسألة علمية وانضباط العلوم الاجتماعية فيه محل جدل ونقاش, وآن لهذا الجدل أن ينتهي في عالمنا العربي.

ولكي نوضح ما نقول نضرب مثالاً لواحدة من أهم المشكلات التي تواجهها أمتنا العربية, مشكلة المياه, حيث تشير الإحصاءات إلى أنه على الرغم من أن بالمنطقة 5% من سكان العالم فإنها لا تمتلك سوى 0.5% (نصف في المائة ) من مصادر الماء العذب. وفي الوقت نفسه تتزايد معدلات استهلاك المياه في المنطقة بمتوسط نسبته 60% في مقابل متوسط زيادة عالمي قدره 8%. ويقدر الخبراء أن نصيب الفرد من الماء سنويًا سينخفض في الفترة من 1960 إلى 2025 من 3430 مترًا مكعبًا إلى 667 مترًا مكعبًا. وهناك مشاكل تقنية معقدة ترتبط بهذه الحقائق وتحتاج إلى تناول بحثي مكثف, مثل زيادة موارد المياه الجوفية, واستخلاص المياه العذبة من المياه المالحة, والاستخدام الأمثل لمياه الأمطار وغير ذلك.. المهم أننا بصدد مشكلة جوهرية يتوقف على حلها حياة الأمة, ولكن هناك جانبًا مهمًا قلّمًا يلتفت إليه في تناولنا لهذه المشكلة, وعادة لانعي أنه بحاجة إلى تناول بحثي علمي جاد. هذا هو جانب سلوك استخدام المياه, وكيفية التحكم فيه.

نحن نلاحظ الكثير من الهدر في استخدام المياه في الحياة اليومية. لماذا يبدد الناس الماء بهذه الطريقة? كيف نستثير دافعيتهم للحفاظ على المياه واستخدامها بحكمة? كيف نجعل أهل مصر والعراق وسوريا يقبلون بتسعير مياه الأنهار? كيف يتقبل المصريون تغيير التركيب المحصولي فبدلا من الأرز يزرعون محاصيل أخرى أقل إهدارا للمياه? وكيف نغير عاداتهم الغذائية فيتحولون عن الأرز قليلا? كل هذه أسئلة بحثية وعلى درجة كبيرة من الأهمية لحل المشكلة المائية, وتدخل في إطار العلوم الاجتماعية.

لنأخذ أيضا مشكلة مثل مشكلة تدخين السجائر. تبلغ معدلات التدخين في بلادنا العربية مستويات خطيرة, ولا تنخفض كما هو الحادث في معظم دول العالم. بل إن تدخين السجائر لدى المراهقين يتزايد مع مرور الوقت. هذه مشكلة متعددة الجوانب لها جوانب اقتصادية, وصحية, واجتماعية. فمن الناحية الاقتصادية نلاحظ أن واردات الدخان تستهلك جزءاً كبيراً من مصادر ثروة البلاد العربية. وتبلغ نسبة الإنفاق على الطباق في احدى البلدان العربية ما قيمته 12% من الإنفاق على الطعام والشراب, وهي نسبة مخيفة بكل المعايير. وهناك آثار صحية وخيمة لتدخين السجائر لعل أهمها أنواع السرطان المختلفة وأمراض التنفس والرئة وغيرها.

نقص فادح

والآن ما ملامح الوضع الراهن للعلوم الاجتماعية في عالمنا العربي. ما حجم الاهتمام الذي يبديه المجتمع للعلوم الاجتماعية? وما حجم الدعم الذي تحصل عليه?

الظاهرة الأساسية التي نلاحظها في هذا السياق هي النقص الفادح في معلوماتنا; ليس عن النشاط العلمي في العلوم الاجتماعية فحسب; بل عن كل الأنشطة التي تحدث في المجتمع. وغني عن البيان أن هذه عقبة كبرى في سبيل التقدم, لا سبيل إليه إلاّ بتجاوزها. سنحاول أن نستخدم ما لدينا من معلومات من مصادر عديدة, وهي فقيرة, وقاصرة, كمؤشرات مبدئية على حال العلم الاجتماعي.

إذا ما نظرنا في هيكل أهم مؤسسة بحثية بمصر- على سبيل المثال العربي - وهي أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا, نجد أنه من بين 19 شعبة بحثية تضمها الأكاديمية, يوجد شعبة واحدة للعلوم الاجتماعية, والباقي موزع بين فروع العلوم الطبيعية الأخرى. وينعكس هذا الحال أيضاً في حجم التمويل المتاح لإجراء البحوث في العلوم الاجتماعية.

فإذا انتقلنا إلى حال العلماء الاجتماعيين, وجدنا نقصاً في التأهيل العلمي, وانشغالاً عن البحث بأنشطة غير بحثية, وضعفاً في الإمكانات المتاحة للنمو العلمي.

ثقافة الاستسهال

من حيث التأهيل العلمي نجد أن معظم الباحثين في العلوم الاجتماعية في عالمنا العربي مؤهلون من الداخل, دون أي فرصة حقيقية للاحتكاك بتيارات البحث المعاصرة في العالم الخارجي, شرقه قبل غربه. ومن الجلي أن الدراسة والاطلاع على النشاط العلمي في البيئات الأكثر تقدماً توفر للباحث فرصة لا تعوض للارتقاء بعلمه وقدراته وتوفر له فرصة للخروج من الأطر المحلية الضيقة, وتطلعه على المناهج والوسائل الحديثة للإجابة عن الأسئلة البحثية المطروحة. فإذا انتقلنا إلى التأهيل المحلي فحدث عن نقاط الضعف دون حرج. جامعات لا تخضع لأي معيار من معايير الجودة في الأداء, ونظام تعليمي تسلطي, ليس فيه محاسبة من أي نوع للقائمين عليه, وغياب للاهتمام بإتقان الأدوات الأساسية للبحث العلمي: المنهج, واللغة, والأخلاقيات. ماذا نتوقع إذن من مثل هذا النظام التعليمي من نواتج?!!

معظم البحث العلمي الاجتماعي يتم في الجامعات, حيث يتركز معظم الباحثين. ولكن معظمهم يعملون بالتدريس, ويدرّسون كثيراً, سواء لنقص في الأعداد في بعض الجامعات, أو الحاجة إلى مزيد من التدريس, لتوزيع مزيد من الكتب, لتحقيق دخل كاف لمعيشة كريمة. ولا يتبقى من الوقت ما يكفي لإجراء البحوث. فإذا توفر بعض الوقت فالبحوث التي تجري محدودة بقدرات هؤلاء الباحثين على تمويلها, إذ إن الجامعات في معظمها لا تمول البحث العلمي الاجتماعي على الإطلاق في معظم الأحيان, وبالفتات في باقي الأحيان.

ويحتاج البحث العلمي الاجتماعي - سواء لإنجازه بشكل متقن أو لتأهيل من هم قائمون عليه - إلى توفر مصادر جيدة للمعلومات, مكتبات على مستوى جيد من حيث التزويد بأحدث الكتب, إلى قنوات للنشر العلمي الجيد, يستطيع فيها الباحث أن ينشر بحوثه على المجتمع العلمي, ويتفاعل مع أصدائها. وهذه عمله نادرة في عالمنا العربي.

أخلاقيات في خطر

ويبقى بعد مهم من أبعاد أزمة البحث العلمي في العلوم الاجتماعية, ويتمثل في مدى الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي في إجراء البحوث الاجتماعية. ويعد الالتزام بمستوى أخلاقي راق في ممارسة كل نشاطات البحث العلمي شرط أساسي لمصداقية العلم. وتتزايد أهمية هذه المشكلة وتتشعب جوانبها في العلوم الاجتماعية بوجه خاص, حيث تتزايد نقاط التفاعل بين الباحث وأفراد المجتمع بمختلف طوائفهم وخصالهم. أضف إلى ذلك أن العلوم الاجتماعية لما ترسخ قيمتها ومدى علميتها في العقل العام بعد, وأي انحراف عن الأخلاقيات السليمة من شأنه أن يضعف من مصداقيتها, ويقلل من قيمتها أمام الرأي العام. ومع الأسف الشديد هناك من جوانب القصور في أخلاقيات البحث العلمي الاجتماعي ما يصعب حصره. ويكفي أن نتصفح أوراق المؤتمر الذي عقده المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1995 عن (أخلاقيات البحث العلمي الاجتماعي) لنكتشف فداحة الأوضاع التي نعيشها, فمن حديث عن تفشي السرقات العلمية بين الباحثين, إلى إضاعة الموارد المخصصة للبحث في بحوث لا طائل من ورائها, إلى نقص المعرفة المتعمقة بأصول التعامل الأخلاقي مع المبحوثين, إلى تزييف نتائج استطلاعات الرأي العام, كل هذه آفات شائعة وغيرها كثير, وتحتاج إلى وقفة بل وقفات, فليس هناك علم يرتبط بتجاوز للأخلاقيات العلمية السليمة.

حال البحث العلمي في العلوم الاجتماعية لا يسر, ويحتاج إلى تناول جاد لمشكلاته, سواء من حيث التمويل والموارد أو البنية المؤسسية أو تأهيل العلماء, أو فرض معايير أخلاقية صارمة. وقبل كل شيء نحتاج إلى وعي مجتمعي بقيمة العلم الاجتماعي وما يمكن أن يسهم به في حل مشكلات المجتمع. كل من هذه القضايا يحتاج إلى تناول مفصل ومنفرد.

 

فيصل يونس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات