علي محمود طه.. الملاح الرومانسي التائه (شاعر العدد)

علي محمود طه.. الملاح الرومانسي التائه (شاعر العدد)

لم يكن علي محمود طه ملاحا تائها في مسالك الشعر المتشابكة، كما عبر عنه عنوان ديوانه الأول، ولكنه كان شاعرا مطوفا في أجواء الجمال، ملتمساً إياه في كل ما يرى حوله، ومتكئا عليه في إنتاج نصه الشعري، ومتسلحا به في رؤاه للكون وتفصيلاته الكامنة وراء رومانسيته المفرطة في الشعر والحياة.

لكن الرومانسية وحدها لم تستطع تلخيص المعنى الذي ظل الشاعر الرومانسي ينشده على مدى سنوات عمره القصير. فاستمر في تطوافه بين المعاني والقوافي باحثاً عن ذلك المعنى المنشود باجتهاد ومثابرة ووعي كبير، قبل أن يكتفي بالتعبير عن ذاته الجميلة ونفسه الشفيفة احتفاءً بكل ما هو جميل وشفيف.

ولد الشاعر علي محمود طه في مدينة المنصورة عام 1902م، وفي مدارس تلك المدينة المصرية الغافية على بحيرتها الجميلة، وتلقى تعليمه في مراحله المتتابعة إلى أن تخرج في مدرسة الفنون التطبيقية مهندساً، معتزاً بتلك المهنة التي أضافها على اسمه لقباً وقّـع به أغلفة كتبه الشعرية الأولى، فكان «علي محمود المهندس»، قبل أن يتخلى عن ذلك اللقب العلمي لصالح لقبه الشعري الذي رافقه على مدى القصيد كله باعتباره «الملاح التائه»، على الرغم من أنه لم يته أبداً عن شخصيته الشعرية التي تكاملت قصيدة بعد قصيدة، وكتاباً بعد آخر. ولم تشغله عن الاهتمام بتنمية تلك الشخصية وظيفته الحكومية التي تنوعت مسمياتها وفقا للدوائر الحكومية، التي عمل فيها، إلى أن قرر أخيراً أن يتركها متفرغا لمتطلبات القصيدة وحدها، ولم يكد يفعل ذلك حتى وافاه أجله سنة 1949م بعد رحلة قصيرة مع المرض.

لكن علي محمود طه عندما انتهت رحلته في أرجاء الحياة كان قد قطع شوطاً كبيراً في بناء معماره الشعري المتميز بموهبة واقتدار وأناة، فقد كان أحد أعمدة مدرسة أبوللو التي أرست القواعد الرومانسية في القصيدة العربية الحديثة، وفي مجلة أبوللو نشر الملاح التائه الكثير من قصائده الرومانسية، قبل أن تتوقف تلك المجلة الرائدة عن الصدور عام 1935. لكن الشاعر استمر في تأكيد رومانسيته، وكانت رحلاته الصيفية إلى أوربا زاده في تنمية ذائقته الجمالية، وكانت تلك الذائقة زوادته في تغذية رومانسيته التي انعكست على قصائده العبقة بأجواء الطبيعة وسحرها الخلاب، حيث طوّف في فضاءاتها محتفيا بالأقمار الفضية مهتدياً بها إلى دروب المعاني، وباحثا من خلالها عن المرأة التي ظلت بالنسبة إليه حلما عصيا، على الرغم من تعدد علاقاته النسائية. فالشاعر الذي لم يتزوج أبدا ظل في شوق لتلك المرأة المتجلية في قصائده كأبدع ما تكون الأنثى، وأجل ما تكون الحبيبة، وأجمل ما يكون الجسد في هيئته الأنثوية.

لكن المد الرومانسي الذي غرق به رفاق علي محمود طه في تيار أبوللو الشعري لم يستغرقه إلى الحد الذي ينسيه قضايا أمته، ولعله من أوائل الشعراء العرب الذين تنبهوا ونبهوا لخطورة التغلغل الصهيوني في الأراضي العربية، ولم تكد دولة الكيان الصهيوني تعلن عن نفسها على أجزاء من أرض فلسطين عام 1948م حتى أطلق علي محمود طه قصيدته الاستشرافية الحماسية «فلسطين» التي سرعان ما أصبحت نشيداً عربياً قومياً، واستلهمها الكثيرون نداءً لجميع العرب الغافلين عما كان يحدث آنذاك. ولم تكن ثورته القومية تلك، والتي سبقت ثورة 1952 في مصر وما تبعها من مد قومي عارم، هي ثورته الوحيدة، بل كانت إحدى تجليات موهبته الباحثة عن تفردها عبر مسالكها الخاصة في المعنى والمبنى، فقد ثار الشاعر على وحدة الوزن والقافية في القصيدة العمودية التقليدية لمصلحة الوحدة النفسية للقصيدة، ووفقا لتلك الثورة الفنية أنتج نموذجه الشعري الجديد الذي جعل منه أحد أبرز الشعراء العرب الذين ظهروا في أربعينيات القرن الماضي، متأثرا بقراءاته للشعر الفرنسي الحديث، وبتكوينه الشخصي الجمالي الخالص.

ترك علي محمود طه لقراء القصيدة العربية عدة كتب شعرية منها: «الملاح التائه»، و«ليالي الملاح التائه»، و«أرواح وأشباح»، و«شرق وغرب»، و«زهر وخمر»، و«أغنية الرياح الأربع»، و«الشوق العائد».. وغيرها، ومنها نختار مختاراتنا لهذا العدد من أشعاره.

 

 

سعدية مفرح