الشاعر الرائي

الشاعر الرائي

أعاود قراءة ديوان أمل دنقل «البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة» ولا أعرف عدد المرات التي راجعته فيها من قبل، وكنت في كل مرة أكتشف شيئاً جديداً لم أكن قد تنبهت إليه من قبل، وتلك هي طبيعة الأعمال الفنية الأصيلة،

اكتشفت، في هذه المعاودة الأخيرة، صورة أمل دنقل الشاعر الرائي على نحو خاص. وقد كتبت من قبل عن الإرهاص بالكارثة في شعر أمل، ولكني التفت، هذه المرة، إلى صفة الشاعر الرائي في أعماله، وهي الصفة التي تلازم المبدع الذي يرهص بالأحداث الآتية، ويتنبأ بها، أو يراها من خلف السحب المعتمة المتكاثفة التي تحول دون غيره والنظر إلى ما وراءها، فهو الشاعر الذي يرجع الجذر الدلالي لمسماه إلى المعرفة والفطنة إلى ما لا يفطن إليه غيره. ولذلك قرن العرب القدماء مسمى «الشاعر» والساحر والعراف، وتصوروا «الشعر» قادراً على لمح الغيب، فالشعر معرفة نوعية حدسية، تدرك ما لا يدركه الآخرون، بوصفه نوعاً من الفطنة إلى ما لا يفطن إليه غير الشاعر. وليس من الضروري أن نغالي في قدرات الشاعر بخاصة أو الأديب بعامة، فمن المؤكد أن الرؤية العميقة للواقع، والغوص في علاقاته، يمكن أن تقدّم لذوي العقول والقلوب المرهفة علامات ترهص بالمستقبل، وتومئ إلى حركته سلباً أو إيجاباً.

وفي أدبنا العربي الحديث والمعاصر ما يدل على ذلك، فكل من قرأوا «ميرامار» نجيب محفوظ لفتتهم نهايتها التي تؤكد عجز كل الشخصيات التي أحاطت، طامعة، بالبطلة زهرة، وذلك في مشهد ختامي، أقرب إلى مشاهد النهاية التي لابد أن تعقبها بداية جديدة، حتماً. وقد حدثت النهاية، بعد نشر الرواية بقليل، مصحوبة بزلزال العام السابع والستين الذي كان نهاية زمن وبداية زمن مغاير بالقطع. وقس على ذلك قصيدة «غزاة مدينتنا» للشاعر محمد إبراهيم أبو سنة التي أذكر أنني قرأتها حوالي عام 1965، إن لم تخنّي الذاكرة، فقد كانت القصيدة تتحدث عن غزو قادم، صناعه نحن الذين تركنا مدينتنا لتعاني ما عانته، وأننا انتهكناها قبل أن ينتهكها الآخرون. صحيح أن أمل دنقل أصدر ديوانه «البكاء بين يديّ زرقاء اليمامة» بعد الهزيمة الكابوسية للعام السابع والستين. ولكن الديوان يحتوي قصائد كتبت قبل 1967 بسنوات، منها قصيدة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» التي تشير الكلمات الأخيرة فيها إلى نذير بنهاية قادمة، لا بد أن تترتب على تصاعد استبداد الحكم الفردي الذي يشيع الفساد في ركابه، وينتشر الظلم في أرجاء مملكته، فيغدو الاثنان علامتين على ما يمكن أن يحدث في قابل الأيام التي تحقق رؤيا سبارتاكوس (قناع الشاعر) المصلوب على أبواب مدينته، حين يرى هذه المدينة التي كانت ضمير الشمس قد تعلمت معنى الركوع، فيبدو كما لو كان يتطلع إلى المستقبل الذي يحمل نذر الخراب، ويرى العنكبوت فوق أعناق الرجال، والكلمات تختنق، إلى أن تأتي النار التي تحرق قرطاجة العذراء.

ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا الديباجة التي يفتتح بها أمل دنقل ديوانه:

آه... ما أقسى الجدار
عندما ينهض في وجه المشرق
ربما ننفق كل العمر.. كي ننقب ثغره
ليمر النور للأجيال.. مرة

... ...

ربما لو لم يكن هذا الجدار
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق
عن الظلمة والنور

والحديث عن الجدار وغياب النور وتكاثف الظلمة دال في هذا السياق الذي تفضي فيه «كلمات سبارتاكوس» إلى «أشياء تحدث في الليل». وهي القصيدة المكتوبة عن عودة الإقطاع من جديد، وقتله لمن سعى إلى التصدي للدفاع عن حقوق الفلاحين ضد الإقطاعيين، خصوصا أسرة منهم، توحشت وسعت إلى امتلاك الأرض والناس واستئصال كل من يقف في طريقها، ومنهم الشهيد «صلاح حسين» الذي كان لاغتياله من التأثير ما دفع النظام الناصري إلى تشكيل لجنة جديدة لتصفية بقايا الإقطاع، حماية لمبادئ الثورة التي خربها الانتهازيون الذين تحلقوا حولها، وحالوا بينها وبين أبناء الشعب الذين أعادوا اغتصاب حقوقه، مؤكدين انحراف مبادئ الثورة عن أهدافها، وفتحها الباب للمستغلين الجدد الذين لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل تحقيق مصالحهم الخاصة التي كانت على حساب العدل الاجتماعي الذي لم يكف قادة ثورة يوليو عن الحديث عنه، فكانت النتيجة الدم الساخن الذي تساقط على الأرض، والشمس التي أخذت تأكلها الديدان، بينما كان مبنى الاتحاد الاشتراكي صامتا.

.. منطفئ الأضواء..
تسري إليه من عبير هيلتون القريب
أغنية طروب
أما دماء المضطهدين فكانت علامة على اقتراب النهاية التي لا بد آتية بالوعد:
وفي الصباح، والنشيد الوطني يملأ الأسماع
كان فراش الحقل يبدأ النشيج
وكانت الأصوات في القرى.. جنائزية الإيقاع
ورحلة الموال في الضلوع تفرد القلوع
وأدهم مقتول على كل المروج
أدهم مقتول على الأرض المشاع

وتفضي قصيدة «أشياء تحدث في الليل» إلى قصيدة «العشاء الأخير» المنشورة في ديسمبر سنة 1963. وهو تاريخ دال، فقد كان الحكم الناصري قد دفع إلى معتقلاته رموز اليسار المصري التي ظلت في المعتقلات ما بين سنتي 1959 - 1964. ولم يكن أحد في هذه الفترة يستطيع الاعتراض على شيء، أو التعبير عن رأي أو فكر يخالف توجه القيادة الاستبدادية التي فرضت مبدأ الإجماع بلا هوادة، وصادرت حرية الرأي وحق التعبير المختلف، فلا حرية لأعداء الشعب الذين اتسع مسماهم ليشمل كل من ظلت المعتقلات في انتظارهم، صانعة أبشع الوصمات في تاريخ الحقبة الناصرية التي صادرت كل شيء لمصلحة طبائع الاستبداد التي تصاعدت وتكاثرت كالدود الذي أخذ ينخر في جذع شجرة الوطن التي انهارت من داخلها، قبل أن يسقطها أعداء العروبة في الخامس من يونيو الحزين عام 1967.

وأذكر أن أمل دنقل كتب قصيدته «ديسمبر» عن أصدقائه الذين غيبتهم المعتقلات لست سنوات، وهي قصيدة بالغة الدلالة على وصول الاستبداد إلى حده الأقصى، خصوصاً في هذا المقطع.

أخذوا أصدقائي للسجن
لكنهم في ليالي الحنين
يقبلون، لنشرب كأسين..
في البار ذي الردهة الخالية
فإذا دقت الساعة الثانية
صفق الخدم المتعبون
فاختفى أصدقائي وهم يضحكون
نلتقي ثانية
نلتقي الليلة التالية..

... ... ...

بعدما خرجوا: انقطع الخيط ما بيننا
واستطال السكون
كان ما بينهم: ذكريات.. وخبز مرير
ومسحة حزن
قلت: ها أصبحوا ورقاً ثابتاً في شجرة سجن
فمتى يفلتون
من الزمن المتوقف في ردهات الجنون.

هل كان أمل يشير بالأسطر الأخيرة، على وجه الخصوص، إلى ما يظل ضحايا قمع المعتقلات ينطوون عليه من عذاب نفسي وسوء ظن مستريب بالآخرين، حتى بعد خروجهم من السجن الذي يستبدلون به سجناً أوسع هو الحياة التي لا تخلو من آثار السجن حتى خارجه؟

الأمر ممكن، وقد عالجه يوسف إدريس في روايته البديعة المخيفة في آن «العسكري الأسود».

ويلفت النظر، بعد ذلك، الصورة الرمزية للرخ الذي لا يكف عن حمل الجثث، في عالم هو الموت، أو في عالم يحاصره الموت من كل جانب، فلا يبقى للشاعر سوى أن يترك بيته القديم، وينطلق حيث تلقي به الريح السموم، لا يحمل معه سوى حزنه المقيم وجواز السفر.

العشاء الأخير

هذا الحزن المقيم المطارد بالموت هو ما يطالعنا في قصيدة «العشاء الأخير» التي يحمل عنوانها (خصوصاً في إشارته إلى العشاء الأخير للسيد المسيح، قبيل القبض عليه وصلبه) نذير النهاية الكابوسية لأحلام الوطن الذي رأى في الناصرية أفقاً للخلاص، وبشارة للزمن الآتي بالعدل والحرية والوحدة العربية، فإذا بها تنقلب إلى كابوس من القمع الذي كان لا بد أن تتبعه الهزائم. ولذلك تبدأ القصيدة ببكائية، ينغرس فيها خنجر القمع في صدر المرح:

ويدب الموت، كالقنفذ، في ظل الجدار
حاملاً مبخرة الرعب لأحداق الصغار

فلا نرى سوى الباحث في أعين الموتى عن ظل ندم، يهرب من الموت إلى الصمت الذي ينقر العينين والقلب، ويعوي في ثنايا كل فم دون صوت، في عالم أصابه الرعب بالخرس، فأصبح الصمت هو الوجه الآخر من الموت الذي يجتاح كل شيء، كأنه إحدى علامات فقدان القدرة على مقاومة الرعب الذي ينشره العسكره (خيل المماليك) التي تدق الأرض، نازعة كل بادرة من بوادر المقاومة، فإذا فرغت انطلقت بخيلها الوحشي، والسنبك المجنون يهوي، فيصب الشرر، إلى أن يتوارى القتلة في الحواري الضيقة كنذير الموت الذي يحمله العسكر المجنون، تاركين الرعب والخوف والأكفان، تسري في الدروب، فلا يبقى سوى الشاعر الشاهد الضحية الذي يقول:

التحيات «مساء الموت» يا قلبي
فلا تلقى التحية

وذلك قبل أن يلتوي لسانه بالرعب والخوف وكلمات النفاق التي لا يملك سواها دفعاً للموت الذي يحمله القمع، فيلوذ بالإشارات المتتالية إلى الأساطير، لعلها تخفف الرعب في ظل المسدس، أو تخفف العتم عن شظايا قمر، كان يضيء، لكن حطمته قبضة الطاووس فوق الطرقات، فأحالته إلى رفات بعد أن كان مدفأة للقلب المذعور في غياهب الظلمة. وتمضي القصيدة على هذا النحو، محاصرة بأعين الحراس التي تزرع الحزن الجارح كالشوك، في عالم يموت فيه كل شيء، ولا تنفع فيه أي محاولة لمقاومة الموت.

هكذا ننتقل إلى قصيدة «بكائية الليل والظهيرة» المكتوبة عام 1966، ويلفت الانتباه فيها تكرار الدوال نفسها: الموت، الظلمة، عقم السماء وتكرار المقطع:

يا دقة الساعات
هل فاتنا.. ما فات؟
ونحن مازلنا..
أشباح أمنيات
في مجلس الأموات؟!

وهو مقطع يلفت الانتباه فيه دلالة دقات الساعة على الزمن الضائع الذي لم تتحقق معه الوعود، بل تصاعدت فيه النذر التي أحبطت الآمال فتركت ضحايا الأمل المقموع أشباح أمنيات. ويبدو الموت طاغيا مرة أخرى كأنه نذير على عهد آت بالكارثة التي تجعل الطريق يدير لحن الموت المنسرب حتى في الهواء الذي يتنفسه الجميع، فلا يبقى بارزًا سوى:

ندم الغبار يلح فوق وجوهنا
ونلوذ بالجدران نحفر فوقها أسماءنا.. لكنها تفتتت
الجدران وهم
والرجال الملصقون على مساحة صفحة الإعلان،
والصور الثمينة في المعارض، والنقوش على المعابد
والوسام العسكري لأنبل الشهداء

فلا يبقى سوى تكرار السؤال عن آخر الدقات التي يسائلها الخطاب الشعري عن كل من مات، كما يسأل وجه الزمن نفسه عما يخبئ في حقيبته العتيقة:

أشهادة الميلاد
أم صك الوفاة
أم التميمة تطرد الأشباح من البيت؟!

وتنتهي القصيدة دون إجابة عن الأسئلة التي تظل معلقة كالمصير المحتجز في الغيب، لا تظهر منه سوى نذر تومئ إلى كارثيته وكابوسيته، فهو مصير لايفارق السؤال عن «البكائية» التي تندفع في عمق الظلمة من الليل، وفي وقدة شمس الظهيرة القاتلة.

رؤى الكارثة

وتقودنا أمثال هذه الأسئلة إلى إرهاص بإجابات، أو إلى بعض الرؤيا الكابوسية، التي تؤكد المسار المحتوم في طريق كارثة ليس بعدها كارثة، وذلك في قصيدة «الأرض.. والجرح الذي ينفتح» التي كتبها أمل في مايو 1966، أي قبل أحد عشر شهراً فحسب من يونيو 1967. وتنبني القصيدة على استعارة موسّعة، عمادها تشبيه الأرض بامرأة منتهكة، وذلك في مجرى تقاليد استعارة المرأة للمدن والأوطان، من منظور الوعي بالهزيمة التي تشعر بها النفس المرهفة والعين النافذة والبصيرة الثاقبة، خصوصاً قبل حدوثها، حين تنعكس علاماتها ونذرها على مرآة وعي الشاعر الرائي الذي ينكشف، أمام وجدانه، ما سوف يكون، ولذلك تبدو الأرض في القصيدة على النحو التالي:

- الأرض ما زالت بأذنيها دم من قرطها المنزوع
قهقهة اللصوص تسوق هودجها.. وتتركها بلا زادٍ
تشدُّ أصابع العطش المميت على الرمالِ
تضيع صرختها بحمحمة الخيولْ
- الأرض ملقاة على الصحراء.. ظامئة
وتلقى الدلو مراتٍ.. وتخرجه بلا ماء
وتزحف في لهيب القيظ
تسأل عن عذوبة نهرها
والنهر سممه المغول

على هذا النحو الذي يشي بما سوف يقع على هذه الأرض من كوابيس أشد، تنبني صورة الأرض العربية التي سقطت قبل السقوط، والتي انهزمت بفعل أبنائها قبل أن تنهزم بفعل أعدائها، فالفعل المضارع في الأبيات يمزج بين ما هو حادث وما سوف يحدث، ويناقل ما بين زمن المضارعة وزمن المستقبل، ملحاً على قرائن كابوسية: نهب خيرات الأرض، قهقهة اللصوص الذين ليسوا غرباء، صرخات الأرض التي تضيع وسط صوت خيولهم، بحث الأرض الظامئة عن ماء دون جدوى، فلا يبقى لها سوى الزحف في لهيب القيظ (كأنها تردد بكائيتها في لهيب الظهيرة)، وتنتهي المحاولة بالفشل، فنهرها الذي يمكن أن يكون هو النيل سممه المغول، والمغول جاءوا واستولوا على النهر واغتصبوا الأرض بخيانة أبنائها، ولم تستطع الأرض أن تدافع عن نفسها، وفشل أبناؤها المخلصون في الدفاع عنها، فقد أنهكهم بطش حكامهم الذين ادّعوا حراستها، وكان كل واحد منهم صورة للحجاج الذي ظل يقطع الرءوس التي أينعت، فحان قطافها بالسيف. وماذا يبقى لمثل هذه الأرض من خيراتها، وهي تعاني فساد الحكام المحليين، واستغلال القوى الكبرى التي بسطت عليهم حمايتها، فأصبح خير العرب لغير العرب، وانطوت الأرض العربية كلها في بساط النفط الذي حملته السفائن إلى قيصر العالم الجديد، أما مصر فقد نالها ما هو أفظع على أيدي زناة الترك والسياف الذي لم يكف عن جلدها، كأنه مقدور عليها العذاب من الداخل والخارج، منذ أن فقدت بكارتها، وأسلمت نفسها لمغتصبيها الذين قاومتهم سدى:

وصارت حاملاً في عامها الألفي من ألفين من عشاقها
لا النيل يغسل عارها القاسي.. ولا ماء الفرات
حتى لزوجة نهرها الدموي

والمجاز في السياق مجاز البعضية الذي يدل فيه الجزء على الكل، فتغدو القاهرة مجلى لكل العواصم العربية التي لا تختلف عنها المأساة الجذرية، تماماً كماء النهر الذي يحال بينه وبين طلابه كأنه الماء الذي منع الحسين من وروده، ومات دونه، في عالم لم يعد فيه سوى الظلم والموت، ومدائن مليئة بالذباب الذي يسقي القلوب عصارة الخَدَر المنمق، والطواويس التي نزعت تقاويم الحوائط:

أوقفت ساعاتها
وتجشأت بموائد السفراء..
تنتظر النياشين التي يسمو بها السلطان
فوق أكابر الأغوات.

والنتيجة هي حال لا تكف فيه النجوم العربية عن السقوط والدخول في برج البرامك، فتتكرر صور الهزائم والخيانات وأشكال الضياع في تيه، يبدو بلا نهاية أو بارقة أمل، ولا يبقى سوى السؤال:

يا أرض
هل يلد الرجال؟

والسؤال ينطوي على السخرية التي تتخلل القصيدة في نزوعها إلى الهجاء السياسي الذي هو لازمة من لوام تمردها، وهو هجاء يحمل الإجابة عن السؤال الذي يقود إلى طريق مسدود، فالحق ضائع، والكارثة الماحقة آتية لا ريب فيها. وذلك على نحو ما نقرأ في قصيدة «حديث خاص مع أبي موسى الأشعري» المكتوبة في مارس 1967، أي قبل أقل من ثلاثة أشهر على كارثة الخامس من يونيو 1967.

هل تم درء الفتنة؟

وكل عارف بالتاريخ الإسلامي يعرف أبا موسى الأشعري، فهو الذي تولى مهمة التحكيم في الصراع ما بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وقد قيل إنه كان صنيعة معاوية، وإن عليا انخدع بقبوله حكما. فهو قد انتهى إلى أن كلا الرجلين، معاوية وعلي، يستحقان الخلع بدعوى درء الفتنة، فكان حكمه إشعالاً للفتنة، وتقوية غير مباشرة لمعسكر معاوية الذي سرعان ما أقام ملكاً عضودا، مدمراً مبدأ الشورى الذي انبنى عليه الإسلام. ومؤسساً بداية التسلط أو الحكم المطلق في التاريخ الإسلامي. والقصيدة تعالج شخصية أبي موسى بوصفه نموذجاً قديماً للمثقف المعاصر الذي يجبن عن الفعل وقول الحق واتخاذ المواقف الجذرية، خوفاً أو طمعاً،وكي تؤكد القصيدة ذلك، فإنها تقوم على المزاوجة بين صوتين. صوت مثقف معاصر يؤثر السلامة، وصوت أبي موسى الأشعري أصله القديم. أو نموذجه العتيق، فتبدأ على النحو التالي بصوت المثقف المعاصر الذي يرى جريمة اغتيال لبريء بسيارة عابثة في إحدى الطرقات، فيغدو الشاهد الذي عليه واجب الشهادة على ما رأى، ولكنه يفر من اتخاذ أي موقف إيثاراً للسلامة:

إطار سيارته ملوث بالدم
سار.. ولم يهتم
كنت أنا المشاهد الوحيد
لكنني.. فرشت فوق الجسد الملقى جريدتي اليومية
وحين أقبل الرجال من بعيد
مزقت هذا الرقم المكتوب في وريقة مطوية
وسرت عنهم.. ما فتحت الفم

والأبيات أوضح من أي تعليق عليها، فالصوت المعاصر لأبي موسى الأشعري، شاهد جريمة اغتيال سيارة لمواطن بريء، وهو يكتب رقم السيارة، لكنه عندما يقبل الناس، بعد أن فرّت السيارة التي لم يعبأ صاحبها بما فعل، يمزق رقم السيارة الذي كتبه، ويمضي بعيداً في صمت، مؤثراً السلامة والسلبية التي يظن أنها تحميه، وعندما يتجاوب صوت أبي موسى الأشعري القديم مع صوته المعاصر، نقرأ:

حاربت في حربهما
وعندما رأيت كلا منهما، متهما
خلعت كلا منهما
كي يسترد المؤمنون الرأي والبيعة
لكنهم لم يدركوا الخدعة

والحق أن صاحب الصوت لم يخدع المؤمنين، بل خدع نفسه وخادع الآخرين، فهو جبُنَ عن اتخاذ موقف حاسم، وبرر جبنه بأن كلا المتصارعين متهم في نظره، وأن كليهما يستحق الخلع، فأسكت ضميره وأرضى الطرف الأقوى، طالباً السلامة، كاشفاً عن طمعه وجبنه في آن. وتتتابع مقاطع القصيدة، وكلها تنويعات عصرية على نموذج أبي موسى الأشعري القديم الذي لا نرى منه سوى تكرار الخوف من الفعل وإيثار السلامة. وتتكرر الموازاة لتؤكد الدلالة نفسها في رجعها المتجاوب الذي يشبه فيه نموذج الأشعري الذي يختفي، الصوت المعاصر خلف قناعه في لون من المحاجاة التي تنقلب إلى آلية دفاعية، تصل الذروة فيها إلى لون من السلوك الذي يغدو طراز حياة، ولكن على نحو يؤدي فيه تجاوب السياقات إلى السؤال عن مصير وطن يمكن أن يتحول أبناؤه، أو مثقفوه على الأقل، إلى صور مكرورة من نموذج أبي موسى الأشعري. وتكون الإجابة هي رؤيا لمستقبل آت بالضرورة، في زمن لا يبعث على التفاؤل خصوصاً حين يسهم في صنعه أمثال أبي موسى الأشعري في زماننا الحديث، وتكون الرؤيا على هذا النحو من البشاعة:

ويكون عام.. فيه تحترق السنابل والضروع
تنمو حوافرنا - مع اللعنات - من ظمأ وجوع
يتزاحف الأطفال في لعق الثرى
ينمو صديد الصمغ في الأفواه
في هدب العيون.. فلا ترى
تتساقط الأقراط من آذان عذراوات مصر
ويموت ثدي الأم.. تنهض في الكرى
تطهو - على نيرانها - الطفل الرضيع

ولقد أنهى أمل دنقل كتابة هذه الرؤيا في مارس 1967 كما سبق أن أشرت. فبدت كما لو كانت نبوءة بالجائحة التي عصفت بمصر والعرب في الخامس من يونيو 1967. فحققت معنى الرؤيا التي تجسّدت في الواقع الذي سكت عن انحداره كل من سلكوا مسلك أبي موسى الأشعري، مؤثرين السلامة، فيما عدا قلة قليلة منهم، لم تستطع لهوان مكانتها وضعف تأثيرها أن تحول دون الكارثة، وتمنع تحقق النبوءة أو الرؤيا، فكانت النتيجة أن أطاح الخامس من يونيو بوعينا، وجعلنا مسمرين على معنى المأساة الكبرى ودلالاتها اللاحقة.

ووجه المفارقة المحزنة في الموقف أننا لم نقرأ علامات ما أرهص بالكارثة قبل وقوعها، ولم ننتبه إلى أن طبائع الاستبداد تؤدي إلى خراب الأمم، وظللنا على سلبياتنا، حريصين على إيثار السلامة، فأسهمنا في تفاقم البدايات التي سرعان ما تكاثرت مقدماتها التي صنعت النهاية، التي كانت من صنعنا في النهاية، خصوصاً حين كتمنا الشهادة بالحق، وسرنا بعيداً عن الجرائم دون أن نهتم، فكان لابد أن ندفع الثمن غالياً، وندخل محرقة الهزيمة التي كانت من صنعنا قبل غيرنا.

وأتصور، بعد أن أبرزت دلالات القصائد السابقة في تتابعها الزمني، يمكن أن ألقي نوعاً من الضوء المغاير على قصيدة أمل - العلامة - «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة». فاختيار «زرقاء اليمامة» رمزاً مركزياً يدل على صوت المبدع الذي يختفي وراء الأقنعة، والذي رأى الكارثة قبل وقوعها، وحذر منها، كما حذرت الزرقاء قومها من الغزاة القادمين الذين رأتهم قادمين، ولكنهم سخروا منها، وظلوا في ضلالهم يعمهون إلى أن أفاقوا على جحيم الكارثة.

مصير المواطن المسكين

وإلى جانب الحضور المركزي للزرقاء، نرى الحضور الموازي للمواطن المسكين الذي عانى (كالمثقف صاحب الرأي الحر) عذاب الاستبداد واستعباد الدولة التسلطية إلى أن وقعت الحرب، فطالبوه بأن يذهب إليها، ويبذل روحه في سبيل الانتصار فيها، ناسين أنهم قالوا له «اخرس» فخرس، وعمي، وائتمَّ بالخصيان، وظل في عبيد عبس يحرس القطعان، طعامه الكسرة والماء، وبعض التمرات اليابسة، وهاهو في ساعة الطعان يدعى إلى الميدان، وهو الذي لا حول له ولا شأن، فتكون النتيجة الانكسار العظيم الذي وقع فيه كالشرك، فماذا يفعل مواطن مقموع، في وطن مسجون، لا حرية فيه ولا عدل، في حرب لم يخترها ولم يستشره أحد فيها، فتقدم بالرغم من ذلك إلى القتال، في جيش كان محكوماً عليه بالهزيمة قبل دخوله المعركة، وفي وطن كان محكوماً عليه بالقمع الذي جعل الهزيمة الداخلية تسبق الهزيمة الخارجية. فكانت النهاية قرينة لحظة الكشف التي ينطقها صوت العبد (الجندي، المواطن، المثقف) الذي يقول:

لم يبق إلا الموت
والحطام والدمار
وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار
ونسوة يُسَقنَ في سلاسل الأسر
وفي ثياب العار
مطأطئات الرأس..
لا يملكن إلا الصرخات اليائسة

ويعني ذلك أن «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» كان بكاء بين يدي الرمز المركزي الذي رأى وتنبأ بالكارثة قبل وقوعها، لكن لم ينتبه إلى رؤياه التحذيرية أحد، ولا إلى صيحاته الدالة على نذر الخراب الآتي مسئول، فظل الجميع متعامين عن الرؤية، مغيبي الوعي إلى أن أفاقوا على الكابوس الذي احتوى الجميع، لكن الذي أبصر علاماته الشاعر الرائي لعمق إحساسه بعلاقات الواقع الذي غاص فيه كالعراف فوصل إلى إدراك زمن الكارثة التي ظلت معلقة كالنذير، علامة على حضور الشاعر الرائي، وإشارة إلى دور الأدب الأصيل والفن العظيم في استباق الزمن ورؤية ما يخفيه وراء غيومه.

 

 

جابر عصفور