قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

------------------------------------

تتميز قصة «عم بدوي» لتامر السيد علي من مصر، باقتناص موقف أو لحظات منه، تشكل في جملتها ما يعرض في الحياة اليومية من تناقض سلوكي ولفظي لغوي في الآن نفسه، ويبدو على نحو من سوء تفاهم بين طرفين (أو أكثر)؛ بيد أنه يؤشر في العمق على تناقض وجودي عميق ومتحول، قائم على تحول الرغبات والإرادات والميول الفردية في علاقتها مع الغير، الذي هو بدوره أيضاً، له معادلته الخاصة في هذا التفاعل سلباً وإيجاباً، وهو ما يجعل الكائن المجتمعي يبدو في لحظة ما، غير ما هو عليه، وغير ما كان عليه. ومن جهة أخرى، فإن القصة تحيل انطلاقاً من موقف التناقض وعدم التفاهم البشري، إلى ما يشبه بنية النكتة، أو السخرية عموماً، بيد أنها في هذه السمة لا تخلو من مرارة وجودية، بقدر ما تسبب من صدمة في الموقف وفي عمق الشخصية على السواء.

وتتناول «شمس أيلول»، لأحمد الفطناسي من المغرب، موضوع الهجرة إلى ديار الغربة في أوربا، وهي تيمة معاصرة قوية ومطروقة على أكثر من مستوى، إلا أن ما يميز القصة في تناول هذا الموضوع من الوجهة السردية، هو ربطه بتساؤلات من واقع الحال، ترتبط بالذات (المهاجر) وبالآخر (مواطن البلد المستقبل للمهاجر)، وبخاصة في لحظة العبور الوهمية والعملية في الآن نفسه، وكذا المعاناة المرتبطة بها، وهي الفاصلة ما بين عالمين، أحدهما عالم المهاجر الذي ما تفتأ الشمس تشرق منه «ــ لماذا تشرق الشمس دائماً من هناك!!؟»؛ كما أنها هي اللحظة التي تمثل بالنسبة للمهاجر«إعادة ترسيم (الأنا) و(النحن) وهو الآخر...» ويمكن التاكيد هنا بصفة خاصة، على اللغة القوية في دقتها التعبيرية وعمق دلالتها، والتي جاءت متناسبة مع نوعية الموضوع وتيمته المتميزة، مما أضفى بدوره من هذا المنحى، تكاملا على مجمل المكونات السردية.

وتلمس قصة «موعد في الحديقة»، لإبراهيم فرحان خليل، - سورية - بعمق ولطف، بعداً إنسانياً مهماً في العلاقات البشرية، ويتمثل هذا المنحى في مستويين على الأقل، يتعلق أحدهما بالتواصل عن بعد إذا صح التعبير، إنما بأبسط وسائل الاتصال وهي الصوتية، حيث يتم التعارف بتبادل الحديث، وعبره تبادل ضمني للمشاعر أو تواطؤ وجداني على الأصح، يبدو جد مرهف وخالص (والأذن تعشق قبل العين أحيانا... كما قال بشار). تعزف القصة على وتر عال من الرهافة والدقة، عندما تصور بتنامٍ سردي مدروس ومحدد المقادير، موقف الانتظار في الموعد بين شخصين، يحل كل منهما لملاقاة نظيره، لكن اللقاء لا يتحقق مع أنهما يحلان معاً للقاء، في الزمان والمكان المحددين، يحلان معاً ولا يلتقيان، لمانع لا يقهر... وأكثر من ذلك إنسانية، موقف الرضى (التسليم)، بما لم يتحقق على مرارته... كل ذلك يتم عبر لغة مقتصدة بسيطة ومباشرة.

وتقوم قصة «رسالة بلوثوت»، لبدر العبري ، سلطنة عمان من حيث الموضوع، على دور وسائط الاتصال والتكنولوجيا المعلوماتية في حياة الكائن البشري اليوم، وبخاصة منهم الشباب، وتركز القصة على اللحظة أو سلسلة اللحظات التواصلية، ودورها المتعدد الأبعاد في خلق خصوصية عالم التواصل، سواء من حيث ما يمكن أن ينسبه أي طرف لنفسه من مواصفات، وكأنه يخلق ذاته خلقاً حسب الرغبة والقياس، أو من حيث ما يسببه في الغير المتواصل معه، من حال نفسية متبادلة، يغذيها ويؤطرها سؤال التخيل والغموض: أين الحقيقة؟ كيف تكون؟ ويبلغ التنامي السردي منتهاه، عندما يصبح السعي للكشف ومعرفة الحقيقة محركاً للموقف، بما يتضمنه ذلك من توقع الخيبة على نحو ما، وهي التي تتحقق في النهاية، لكن بنكهة عبثية؛ لغة السرد معبرة عادية.

------------------------------------

عم بدوي
تامر السيد على (مصر)

سارت نحوى.. أقبلت على.. تصورت أنها ستسألني كم الساعة أو عن الطريق إلى مكان ما، ابتسمت فأظهرت على وجهى شيئاً من الاهتمام،ثم نظرت لى بحزن وقالت: لقد سئمت الانتظار.

قلت بدهشة: نعم؟!

قالت: ألم تسمع؟

قلت: معذرة ولكنى لم أفهم.

قالت ثانيةً: لقد سئمت الانتظار.

نظرت خلفى ظننت أنها تخاطب غيرى ولكنى لم أجد غيرى.

حدقت فيها وقلت: انتظار ماذا؟

قالت بصوت حنون: انتظارك.

قلت: وهل كنا على موعد؟

قالت: أنسيت؟

فقلت بدهشة..: وهل تعرفيننى؟

قالت: الآن تتنكر لى؟!

فقلت: يبدو أنك أخطأت.

قالت: ولمَ لا تكون أنت المخطىء؟

فقلت: أنا لا أعرفك.

قالت: بل تعرفنى.. حدق فى وجهى.. انظر لى..

نظرت لها.. صعدت نظرى.. تفحصتها.. لم أخرج إلا بشىء واحد أنها حقاً جميلة ووجهها مألوف كأنى اعرفه..

قطعت شرودى صارخةً: ألم تتذكر؟!

نظرت إلى ساعتى.. مازال أمامى ساعة حتى ميعاد المحاضرة... لا بأس إذن أن أجارى تلك الجميلة.

عادت لحزنها وقالت: يبدو أنك حقاً نسيت.

قلت: لا.. أنا حقاً لا أتذكر اسمك ولكنى أعرفك... أعرفك جيداً صدقيني لقد تذكرت.

قالت: بداية لا بأس بها ولكن لا بد أن تتذكر اسمى.

فقلت: ساعدينى أنت.

قالت: الأمل دائماً موجود.. حاول أنت.

فقلت: لا أتذكر

قالت بحدة: أنت كاذب، انك لم تتذكرني لو كنت تذكرتني لعرفت ان اسمى أمل.

فقلت بحدة مماثلة: تتحدثين هكذا وكأنك حقاً تعرفيننى!

نظرت لى باحتقار وقالت: أيها الكاذب القذر.

فقلت: كفى.. إن كنت صادقة ما اسمى؟

قالت: اسمك أحمد عبدالرحمن طالب بكلية الآداب الفرقة الرابعة.

فقلت: يمكن لأى إنسان أن يعرف ذلك.

قالت: تقطن بمصر القديمة.

فقلت: شىء معروف.

قطع حوارنا شاب أقبل علينا وفى فمه سيجارة وقال: معك كبريت.

فقلت: لا.

فقالت بسرعة: انتظر.

نظرت لى... ودون ان تنزل عينها عن عينى... وضعت يدها فى جيب القميص وأخرجت ولاعتي واعطتها له، تناولها الرجل فى شبه ذهول منى، أشعل سيجارته وأعاد لى الولاعة، قلت وكلى دهشة: كيف؟

قالت: قلت لك إنى أعرفك! أعرفك كلك!

قلت: حتى مكان الولاعة.

قالت: نعم.

قلت: إن كان كذلك فمتى اشتريتها؟

قالت: منذ شهر.

قلت بدهشة: عجيب.. لا يمكن.

قالت: قلت لك أعرفك كلك.

قلت: آه.. هل أنت من بعتها لى؟

نظرت لى باحتقار وقالت: غبى.

تركتنى وسارت وأنا لا أدرى هل حقاً تعرفنى ام لا... هل تكذب؟ ام انها صادقة... جريت خلفها وقلت لها: سؤال واحد: من أنت.

قالت: اسأل عم بدوى.. واختفت وسط الزحام.

تصورت لأول وهلة ان المسألة قد حلت... ولكن الأمر ليس كذلك.. ففى حياتى عشرات يدعون عم بدوى، فجدى وهو لا يزال على قيد الحياة يدعى بدوى ودائما ما يقرن الناس اسمه بكلمة عم... وهناك أيضاً بواب العمارة... وهناك بائع السجائر... وهنالك جارى العزيز... وهناك صديق لى ندعوه بعم بدوى.

ولابد ان هناك عشرات غيرهم مروا بى واختفوا أو نسيتهم.. سألت كل بدوى أعرفة فلم أسمع منه إلا السخرية.. لا أحد يصدق ما حدث.. عدت أدراجى كل يوم فى الميعاد نفسه انتظر الجميلة حتى رأيتها ذات يوم ذهبت إليها ابتسمت.. رسمت على وجهها شيئاً من الاهتمام، قلت لها: لقد سئمت الانتظار.

قالت بدهشة: نعم.

قلت: ألم تسمعى؟

قالت: معذرة ولكنى لم أفهم!!

قلت: لقد سئمت الانتظار.

نظرت خلفها ظنت أنى أحادث أحداً غيرها ولكنها لم تجد غيرها، حدقت فى وقالت: انتظار ماذا؟

قلت بصوت حنون: انتظارك.

قالت بلهجة حائرة: و هل كنا على موعد؟!

قلت: أنسيتنى؟

سئمت منها ورحلت عنها.. جاءت خلفي مهرولة وقالت: سؤال واحد..: من أنت ؟!

قلت بابتسامة عريضة: اسألي عم بدوى.

شمس أيلول
أحمد الفطناسي (المغرب)

من الذي يقوم برحلة العبور؟ أنا أم شخص آخر

في الرقعة..على يميني..على يساري.. أمامي.. ورائي.. طنجة الجبل، وجبل طارق أهو الجبل بالتأكيد، يظلون هنا على امتداد مسافة العبور التي تصل الى ساعتين ونصف الساعة من عمر هذا المجسم الحديدي حتى يتسنى للنظرة أن تكتشف الوهم، وثمة حقيقة أخرى، فكلما حفرت الذاكرة نوافذ البحث داخل وعينا من أجل تأمل اللحظة، لحظة العبور تلك، تزاحمت صور الوقائع أو هكذا يبدو ضجيجها مع الحلم، صور نخطو تجاهها عابرين تفاصيلها كي ندرك هامش الوهم العريض.. عبوري الآن هل هو عبور لهذا الفضاء/الآخر وحينها هل سأكون أنا أم الآخر؟!

- ألهذا الحد يعتبر عبوري حدثا عظيما؟-

تزيد لحظة التفتيش من تعميق سؤال عبوري الاستثنائي، رجل الأمن الذي يتفحص الأوراق، جسدي، ملامحي، وعينيّ..وكأنها لحظة استنطاق للحظتي. كلامه أشبه بالحجر، همهماته تلاعب أعصابي، ماذا لو تغير لون بشرتي عن بشرة الصورة المثبتة بجواز السفر؟!

- الاسم؟ العمل؟ ما هو اتجاهك؟

كنت أجيب وعيناي على مرفأ السفن في لحظة استثنائية جعلتني أتساءل..«هل عبوري يستحق هذا الاستنطاق؟» ولأول مرة بدت ابتسامة خفيفة على محياه. قال مقاطعا لحظة اندهاشي..

- هل أنت ابن هذه القبيلة؟

- لا..

عادت صلابة وجهه الى وضعها المعتاد الآلي، حينها أعدت التفكير في هذا الاسم العائلي وتساءلت في قرارة نفسي أحيانا: يترك لنا الآباء والأجداد وصايا نحملها دون أن يكون لنا الحق في تغييرها أو حتى معرفة جذورها. ظل بصري يحوم على بوابات المرور بالميناء كنت على وشك رؤية الضفة الأخرى لكنني الآن لا أهتم بهذا الآخر إنه شبيه بالذي أمامي..

- تحرك.. خذ جوازك

أمسكت جواز سفري، خطوت خطوتين، أدرت بصري للوراء تبدو طنجة كامرأة بحرية كانت رغبتي أن أزورها من بوابة مقهى صاحب «الخبز الحافي» كنت سأجلس على طاولة المقهى، وسأطلب شايا في كأس وسأنتظر قدومه لأسلم عليه ولأعبر له عن امتنناني وكالعادة سأغادر المقهى لأنه لم يأت..ولن يأتي أبدا- عادت خطواتي ترسم أفق عبوري أنا المتأبط لحرقة الأسئلة،.

مازالت نبضات قلبي تعيد تركيب المشهد، أنا الآن قائد خطواته، أنا الذي أعدت لحظة الشك لجسدي أتساءل ما هو ثابت الآن، هو أنني هنا، أما هو فيوجد في الجهة المقابلة هناك..أمامي طنجة على قمة الجبل تبتعد الآن كي تولد في الأفق، وفي لحظة للاكتشاف بالنسبة لي ولها موعد ثابت. حيث تكون طنجة جسرا وعشا للعابرين للوطن والحالمين بأوطان أخرى

اتجهت لمحطة العبور على الساعة الواحدة والنصف أما هو فاختار الثالثة والنصف بعد الزوال وحينما سأصل سأتجه عبر نفس مسالك عبوره، أرمق ببصري ساعتي المثبتة في معصمي ستكون الساعة حينها الرابعة بعد الزوال علما أن الساعة بالميناء تشير للسادسة، أما هو فحين يرفع عينيه لساعة مفتشية شرطة الحدود فسيكتشف أنها الرابعة فقط بعد الزوال من توقيت بلاد الشمس، وللعبة الزمن حكاية شد وجذب بيني وبينه. لكن «أنا» رسمتها من عالم شفاف، متخيلي الباقي أمامي بكل نتوءاته العابرة، هو العابر من «النحن» وفي عبوري إعادة ترسيم لهوية «أنا» و«النحن» وهو الآخر المتشكك الحضور، هنا بين حدود الشمال والجنوب أنا الصدى لريحهما معا، أنا الحامل لحبيبات الماء والرمل، رمل الجنوب الحار الساخن، والبحر هنا وسيظل لماء الشمال البارد، وكأنها تقاطعات نفسية لحالات الحصار

..كنت هنا وكانت الباخرة التي تنقله لهناك، لا أراه ولا يراني، أشعر بوجوده كشكل ظاهر للعيان، هو الآن في الجهة الغربية من سطح الباخرة ونظره باتجاه الشرق، يتحسس بيديه رطوبة نقط الماء التي تكسو الحبال الغليظة للباخرة وفكره مشغول بسؤال هام..

- لِمَ تشرق الشمس دائما من هناك؟

وجودي بالجهة الشرقية للباخرة ونظري باتجاه الغروب وكعادتي اختلفت مع نعلي الصيفي وتركته حرا طليقا كقدمي العاريتين اللتين تجوبان سطح السفينة ذهابا وإيابا. كلانا ينظر للآخر، يستشعر وجوده، يتحسسه، كلانا سيصل الى الهنالك، هل كان مثلي يسائل حبيبات رذاذ البحر المنعكسة في فضاء السفينة، هو الآن يعيد سؤال «هرقل» الأسطورة مثلي. كلانا في لحظة الصفر، ومنذ أن اجتاح «هرقل» حبيبات الماء قاطعا فضاءات عالمين ملتحمين كانا امتدادا طبيعيا لتربتي، أنا الآن مجبر على تشفير لغة الريح كي يظل هو بقربي، معي، وكي أظل قرب نفسي حتى لا يضطر «هرقل» للرحيل..وعلى باب الجزيرة الخضراء نزلنا كلانا في أول الخطو على أرض ترك لي أجدادي بها رسوما لمعبر خطاي. أعدت نعلي الريفي لقدمي كي لا أخال نفسي مجذوبا بطرف أبواب الأندلس، الشرطي يتفحص جواز سفري، ويتحدث بلغة موليير التي كنت أرد عليه بها بطلاقة الى أن أرغمني تكرار جملته والتي تحمل إيقاعا لحنيا خاصا من الصمت، نهرني هو من الخلف قائلا:

- إنه يطلب منك أن تدلي له بدليل يزكي سبب عبورك؟ فافعل إذن...

موعد في الحديقة
إبراهيم فرحان خليل (سورية)

يبدو أنني قد قطعت الشارع عند الإشارة الخضراء لأنني سمعت من خلفي ضوضاء غير اعتيادية وسائقاً ما يشتم نفسه وحظه وحياته التي كان من الممكن أن تتخذ منحى آخر فقط لو أنه أكمل دراسته ولم يلحق برفقاء السوء فيما كان شرطي المرور يصفر وهو يقترب منه ويحاول جاهداً تهدئته بدل مخالفته.

المهم, لم يستوقفني أحد وبدا أن الأمور انتهت بسلام ودون أية حادثة تذكر. تابعت طريقي متجنباً هذه المرة أن أحيد قيد شعرة عن الرصيف رغم ما يتخلله من أعمدة كهرباء وعلامات طرق وبسطات الباعة المخالفين وأشجار كينا وزنزلخت يحلو لي كلما اصطدمت رأسي بأغصان واحدة منها أن أقطع ورقة أو أكثر فأدعكها بين أصابعي ثم اشم عبيرها الواخز الشهي لتنفتح في أنفي جميع الجيوب المغلقة.

في الحقيقة لم أعد أستغرب شيئاً في هذا البلد. تركب سرافيس النقل الداخلي فتسمع أحاديث الركاب التافهة والمملة حول تفاصيل الحياة اليومية والمعيشة التي تتعسر يوماً بعد يوم مع غلاء أسعار البقول والمحروقات والأقساط المدرسية. يتذكر السائق فجأة أنه قد نسي في غمرة انهماكه تشغيل المسجلة فيشغلها لينطلق صوت منكر بكلمات سوقية ولحن صاخب يتناسب في سرعته مع سرعة السرفيس ولكنه يتنافر تماماً من حيث بهجته مع الأحاديث الدائرة في داخله.

لستُ راضياً عن حياتي تماماً ولكن من جهة أخرى هناك اللغة, هذه الهبة الساحرة التي يمكنها أن تحول الصورة إلى ذبذبات فاعلة يمكنها أن تكون يداً أو رأساً أو وردة أو سكيناً وكان علي لأسباب خارجة عن إرادتي أن أحسن التعامل مع هذه الهبة وإلا تحولت في البيت إلى شيء يشبه كرسياً مكسوراً... إنه بالفعل عالم مليء بالضجيج الذي لا بد منه.

حين وصلت إلى آخر الشارع تناهى إلى سمعي صوت المؤذن, كنت قد وصلت تماماً إلى الشارع الذي يقع فيه جامع سيدنا بلال, علي الآن أن أنحرف إلى اليمين بمقدار عشر خطوات لأعثر على باب الحديقة العامة. دخلت الحديقة ولحسن الحظ لم يكن ثمة أدراج. كان هناك مقعد قريب جداً من الباب وكان هو المقعد المطلوب. أكره الانتظار ولكن ما العمل. لقد قالت لي إنها ستكون هنا في السابعة والنصف تماماً وقطعُ المسافة بين بيتنا والحديقة لا يتطلب أكثر من عشر دقائق. حسبتها بدقة لأن هذا هو موعدنا الأول.

يا الله ما كان أعذب صوتها على الهاتف... أتراها بهذا الجمال؟! على أية حال أظن أنني عشقت صوتها ولن يكون مهماً عندي أن يكون شكلها جميلاً أم قبيحاً.

رغم أنني أخبرتها أن توقيت الموعد سواء عندي الليل والنهار فقد أصرت «ميساء» أن يكون لقاؤنا في السابعة والنصف مساءً لأنها كما قالت ستكون قد فرغت تماماً من أعمالها المنزلية.

مر حوالي ربع ساعة دون أن يتغير شيء ثم حوالي نصف ساعة. وشيئاً فشيئاً تلاشى القلق الذي شعرت به في البداية بسبب غيابها ليحل محله نوع من اللامبالاة قررت استغلاله في الاستمتاع بجو الحديقة الهادئ.

لم أعرف ما الذي منعها من الحضور ولكني شعرت أن وقتاً طويلاً قد مضى علي وأنا أنتظر, ومع صوت المؤذن للمرة الثانية اقترب مني حارس الحديقة وربت على كتفي بحنان قائلاً إن الساعة قد شارفت على التاسعة والنصف وإنه سيغلق الباب.

- حسناً. لم يعد في الحديقة غيري إذن؟! سألته بصوت منكسر

- نعم. هل تنتظر أحداً؟

- لا يهم

- منذ ساعة كانت تجلس بجانبك تماماً فتاة شقراء وكانت هي الأخرى على ما يبدو تنتظر شخصاً ما وقد انصرفت منذ خمس دقائق بعد أن يئست من حضوره.

وفيما كنت أهم بالانصراف أردف الحارس مشفقاً: أظنها كانت عمياء لأنها كانت تحمل عصا.

رسالة بلوتوث
بدر العبري (عمان)

دخل المُجمع التجاري بمفرده وهو يتأكد - وللمرة الأخيرة - من حسن هندامه، وقد كان المكانُ كعادة كل نهاية أسبوع مزدحماً بالكثير من الأفراد..وبالتحديد بالفتيات الجميلات!!

اتجه أكثر نحو منتصف المجمع التجاري متحركاً بعشوائية وراء كل قوامٍ جميل قبل أن يتذكر أنه نسي الخطوة الأهم في (اصطياد) الحسناوات..البلوتوث!! عند تذكره هذه النقطة مد يده بسرعة نحو جيبه وأخرج هاتفه الحديث الطراز نوعاً ما والمكسور الشاشة وراحت أصابعه تضغط بكل سرعة وخبرة لتفتح البلوتوث دون الاستعانة بعينيه واللتين كانتا تنظران لأماكن مختلفة، وبعد لحظات أعاد ناظره للهاتف حتى يتأكد من أنه يحمل الاسم الصحيح بالبلوتوث «بلوتوث إف أم» ومن ثم رقم هاتفه.

كان قد فتح ملاحظات هاتفه وكتب ملاحظة جديدة «هل من الممكن أن نتبادل الملفات؟ لدي أشياء جديدة ونادرة» وهمّ بالبحث عن قائمة أسماء الأجهزة التي قد فُتحت خاصية البلوتوث بها عندما ظهرت على الشاشة رسالة مفادها «هل تود تسلم ملفات من (هيفاء)؟» فقرأ الرسالة مرتين قبل أن يضغط على زر «موافق» ثم يرفع رأسه بتلقائية لينظر لمن هم حوله، من ياترى يكون «هيفاء» هذا؟

قاطع تفكيره هذا صوت هاتفه وهو يعلن وصول رسالة جديدة، وما إن نظر للهاتف حتى أدرك أن الملف أرسلته هيفاء،كان تخمينه صائباً فقد ظهرت عبارة قصيرة على شاشته «فديت الوسيم أنا»..!!

أعاد قراءة الجملة.. مرة.. مرتين..!!

ثم رفع رأسه مستغرباً وراح ينظر في مختلف الاتجاهات،كان المحيطون به مجموعة مختلفة من الشباب والشابات، بعضهم جاء مع عائلته والأغلب مع رفاقه والقلة جاءوا - مثله - بمفردهم، وفيما كان معظم الشباب ممسكين بهواتفهم كانت معظم الفتيات - وخصوصاً أولئك اللواتي يرافقهن أهاليهن - على عكسهم..

توقف في مكانه وأدار ظهره نحو إحدى الرفوف حتى يتمكن من رؤية الجميع واختار بسرعة ملاحظة طويلة تحمل كلمات أغنية للمغني الخليجي الرائع «خالد عبد الرحمن» وأرسلها وانتظر للحظات ثم وصلت الرسالة، رفع رأسه وأرهف سمعه لعل يسمع صوت إحدى أجهزة الهواتف النقالة يعلن وصول رسالته ولكن الأصوات الصاخبة التي تحيط به كانت كثيرة فصعبت عليه ذلك ومن ناحية أخرى فقد فكّر صاحبنا بأن «هيفاء» هذا قد يكون قد وضع هاتفه على الوضع الصامت تحسباً لوضعٍ مثل هذا..!!

ولكن هذا الاستنتاج لم يوهن عزيمة صاحبنا فراح ينظر لمختلف المارين هنا لعله يرى أحداً يقرأ ملاحظة طويلة، تحرك الشاب من مكانه أخيراً، تذكر بأن «هيفاء» قد مدحت وسامته..إذن فهي - أو هو - تعرفه سابقاً وتعرف اسم بلوتوث جهازه أو أنها تتابعه منذ دخوله للمجمع التجاري.

واصل تحركه بطريقة ذكية، اتجه نحو أحد الأماكن الخالية من الزوار تقريباً وهو يدرك أن «هيفاء» هذه ستتبعه على الأرجح، رن الهاتف بسرعة معلناً وصول ملاحظة أخرى «أموت في خالد عبد الرحمن أنا، تسلم على الملاحظة»، بعد هذه الملاحظة اجتاحت مشاعر متعددة قلب صاحبنا كان أبرزها شعوره بأن مرسل الرسالة فتاة (دلوعة) ومُدللة. توقف في مكانه مرة أخرى ونظر لوراءه ليرى ثلاث فتيات يمشين بكل أريحية وبحرية وملابسهن تدل على مدى (انفتاحهن) و (تحررهن)، وقد كانت أوسطهن تنظر إليه بطرف عينيها بطريقة مكشوفة وهي تحدث رفيقتيها في حين كان الهاتف في يدها.. «يا ترى هل تكون هذه هي هيفاء؟»

عاد يرسل لها مرة أخرى: «أحلى شيء في خالد عبد الرحمن أنك تسمعين له»..

«ههه.. تسلم.. هذا من ذوقك»..

«تسلمين والله.. بس أنا أموت أنا أكثر في هيفاء..صحيح اسمك هيفاء؟»..

«(وايدين) يموتون فيّ.. هههه.. أيوه اسمي هيفاء وانت؟»..

«أكيد من حسنك وجمالك..فديتك أنا.. اسمي طلال»..

وهكذا تواصلت رسائل البلوتوث مرة بعد مرة بين الاثنين، دون أن يتمكن الشاب من معرفة من تكون «هيفاء» هذه. كان قد خطط أن يقضي نصف ساعة فقط في المجمع ومن ثم يذهب لرؤية أصحابه في الشاطئ ولكنه - ومع وجود هيفاء- قضى أربعة أضعاف هذا الوقت في الدوران داخل المجمع التجاري، وبعدما تنبه أنه تأخر كثيراً على أصحابه حاول محاولة أخيرة إقناع هيفاء بأن تسمح له برؤيتها أو أن تلاقيه في مكانٍ ما ولكنها أكدت له بأنها برفقة شقيقها وأنها لا تستطيع المخاطرة بإخباره أين هي.

ثم وعدته بأن تكون غداً في نفس المجمع وفي التوقيت نفسه ولكن بمفردها وسيريان بعضهما البعض بكل حرية فهي متشوقة أيضاً لرؤيته.

بهذا الوعد خرج الشاب مبتسماً والدنيا لا تسعه من الفرحة واتجه مباشرة نحو سيارته دون أن ينتبه لرجل الأمن الضخم - والذي تجاوز وزنه المائة كيلو غرام بكل تأكيد - الجالس على كرسي داخل المجمع وهو يمسك هاتفه بحركة تدل على ملله وهو يرسل نفس الرسالة عبر البلوتوث ولكن لشاب آخر.. «فديت الوسيم أنا»..!! قبل أن ينظر الرجل لساعته ثم يزفر بملل بعدما عرف بأنه ما زال متبقياً عليه ساعتان لينهي ورديته!!.
----------------------------
* أكاديمي وروائي من المغرب

 

مبارك ربيع*