مذكرات واصف جوهرية تضيء ليل القدس (سقيًا لتلك الأيام) تحسين يقين

مذكرات واصف جوهرية تضيء ليل القدس (سقيًا لتلك الأيام)

لم أكن قد سمعت واصف جوهرية من قبل, حتى أتاني كتاب مذكراته فكان للكلمة سمو على اللحن لأنها المنبئة عنه, على الأقل بالنسبة لي وأمثالي ممن لم يتعرفوا عليه فناناً.

أنبأني عزفه وغناؤه بطول نفسه وحيويته وأحاسيسه الداخلية أنه ربما سيكون كذلك في روايته عن نفسه والموسيقى والغناء والمكان والإنسان, تلك الرواية التي أعلمتني عن أحد أعلام الموسيقيين والمؤرخين في هذا المجال المحدود في فلسطين.

لقارئ المذكرات أن يقرأ ويشاهد بعين واصف جوهرية, عينه الموسيقية للزمان والمكان والناس. لقد أحسن مصمم الغلاف بالتعاون مع المحررين د.سليم تماري ود. عصام نصار في تقديم واصف على غلاف الجزء الأول يحمل عوده الذي أصبح خلفية للقدس, بل نسج علاقة ما بينهما وصلاً وانفصالاً, فظهرت القدس كألحان أصيلة, في حين تقرأ في عينيه مشاهدة ماضي القدس في مقتبل القرن العشرين. إننا أمام عين موسيقي, وعين مراهق, أرخ لفترة 1904 - 1917 أي حتى نهاية الدولة العثمانية, وهي الفترة التي كان فيها واصف طفلاً وفتى مقدسياً, ينتمي لعائلة مسيحية معروفة, من الأعيان إن لم تكن صاحبة قرار في الأحداث, فقد كانت تعيش في مركزها.

قد يكون واصف كتب هذا الجزء متأخراً بعض الشيء عن صباه, لكن روح الكتاب - المذكرات في الجزء الأول هي روح الطفولة والمراهقة, وهي الروح المتأججة بالعواطف, والتقاط الجديد ومحبة الاستطلاع والانطلاق في الحياة.

لكن من سيكتب عن الكتاب, خصوصاً إذا قرأه بعناية وتعمق, سيجد نفسه محتاراً عما يمكن الحديث عنه, ثمة خصوبة ثقافية - تاريخية تغري الكاتب, كما أغرت صاحب المذكرات نفسه.

فواصف جوهرية ليس بسياسي مشهور مثلاً حتى يهتم الناس بمذكراته, إذن من أين نبعت الأهمية - القارئ للمذكرات يستطيع الإجابة, فهو حين يقرأ وصفه للحياة اليومية العادية من وجهة نظر مواطن, وما فيها من مظاهر وأحداث تكون الحياة السياسية خلفية خفيفة الظل لها, فإننا أمام وثيقة صادقة للمجتمع وكيف كانت التأثيرات الفكرية السياسية والثقافية عليه بالإضافة لمدى عمق تلك التأثيرات, وهذا النوع من المذكرات قليل, حيث جرت العادة في كتابة المذكرات أن تكون لشخصيات وفق مقاييس معينة كالشهرة, والمكانة والتأثير (في العرف التقليدي للسيرة والمذكرات).

سقيًا لتلك الأيام والأوقات..

كان يختم بهذه الجملة عشرات بل مئات المواقف والقصص التي رواها ضمن مذكراته في الجزأين الأول والثاني, وهي المعنى ذاته الذي قال الشعراء في مرثياتهم وغزلياتهم ووقوفهم على الأطلال, أطلال الأحبة. وهي تتعمق مع معنى العبارة الشعبية: (ساق الله على أيام زمان أو ساق الله على هذيك الأيام). وقد كان يحب أن يختم بها قصصه المحببة وذكرياته الجميلة في القدس, لأن تلك الأيام ذهبت, وأصبحت بعيدة, هي ومكانها وزمانها.

المذكرات في الجزأين جاءت لتقول شيئاً عن المكان وحيويته وجماله وألفته الإنسانية والفنية بعيداً عن جمود التاريخ.

كنا هنا, معاً, نبدع ونغني, فالمدينة التي لا تغني ميتة, ولم نكن أمواتاً قط رغم الحروب. كنا معاً, في تنوع وتعددية أصيلة لا متكلفة, ولأجل ذلك يمكن اعتبار المذكرات وصية لحمل روح القدس في نفوس الأجيال, قدس واصف جوهرية, الإنسانية وليس الحجارة فقط.

ما بين القدس العثمانية والقدس الانتدابية قضى واصف حوالي 51 عاماً, خبر فيها الكثير, فجاءت الذكريات انعكاساً أصيلاً لما شاهد وشارك فيه عن قرب, أي هو الراوي عن شيء رآه فعلاً, وبهذا فهو لا يقدم مذكراته فقط بل شهادته الصادقة على الحياة التي عاشها كما هي دون رتوش.

في أسلوب المذكرات

إن أهمية المذكرات ثقافياً وأدبياً هي أولاً في عنصر الصدق وعدم الادعاء, فبالرغم من الثغرات في الصياغة والترتيب واللغة, فإن الصدق كان عنصر النجاح الحاسم, فهو يعرض لحياة القدس في صدق الوصف للحياة, وما فيها من جديد, حيث حداثة العصر تدخل حياة الناس, وفي صدق تصوير الحياة الاجتماعية, في تصوير النفوس والرغبات والأحاسيس والمشاعر المادية والمعنوية, فلم يظهر الناس ونفسه قديسين ولا شياطين, بل أظهرهم كما هم بشر.

لغة واصف تدل على ثقافته العربية والإسلامية والمسيحية, والتراث الشعبي, فهو استخدم الأمثال الشعبية والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة, برغم أنه ليس مسلماً, مما يدل على انتمائه للثقافة العربية الإسلامية كثقافة إنسانية اندمج الناس بها. كان واصف محترفاً, وصف كل ما شاهد كأنه خشي أن تضيع الرواية في يوم قادم.

وصف واصف ووثق العديد من الحالات والظواهر خصوصاً لحياة الناس وحياة الحفلات والوظائف, كما تميز بوصف المكان من منظور الجهات المختلفة.

وسعى في غير مكان إلى ذكر تفاصيل الأشياء بدقة متناهية, وضمن الوصف بعض الحوارات بقصد الحيوية والتجديد .. ويمكن للكثير من الحوادث والقفشات بأن تعد قصصاً قصيرة (قصة المشهد). كما اقترب من التوثيق والشكل المقالي خصوصاً في حديثه عن الشخصيات والأحداث المشهورة خصوصاً بعد عام 1946.

كما ظهر لديه التكرار في أكثر من موضع.الوصف هو العنصر الأقوى في المذكرات, ولأن واصف لم يستطع أن يكون صريحاً جداً في وصفه للأيام الأولى, فقد طغى التعميم على أسلوبه, والتعميم يؤثر سلباً في حيوية الوصف, لم يكن صريحاً في الجزء الثاني بما يكفي, لكن ذلك لا يمنع من صراحته في عدد من الأماكن, مثل حديثه عن محمد إسعاف النشاشيبي.

لم يعد واصف إلى الحاضر, لأنه لا يريد هذا الحاضر, بل هو متناقض مع هذا الحاضر, ولم يعد سوى قليلاً مثلما تحدث عن زميل ابنه في الجامعة الأمريكية.

لقد كان الجزء الأول من المذكرات يحمل روح الطفولة والمراهقة, وهي الروح المتحمسة محبة الاستطلاع والانطلاق, حيث كان عمر الراوي يتراوح ما بين 17 - 21 سنة كونه من مواليد عام 1897م. فإن الجزء الثاني حمل معه النضوج والتأريخ والتعبير من منظور مرحلة عمرية مختلفة الاهتمام, تمثلت فيها المسئولية الاجتماعية بشكل واضح.

أسلوب واصف مثير, فهو يبدأ بسرد شيء عادي ثم ما يلبث أن يتعمق في الموضوع, وإنني أذكر مثلاً أبواب قصر توب كابي في استنبول, حيث حين تدخل باباً تحس انك أنهيت المكان, ثم ما تلبث أن تكتشف باباً يفضي لمساحة أكبر وهكذا.

وقد أحسن د. عصام نصار المحرر بالمشاركة في تعبيره عن الكتاب حين قال: (والقدس الجوهرية كأحواش القدس ذات أبواب صغيرة تطل على الشارع لتعطيك الانطباع بأنها أبواب بيت صغير لا أبواب لما يشكل حياً قائماً بذاته ذا حياة خاصة به. سرد الجوهرية بدأ من داخل (الحوش) من بيت واحد صغير لينقلنا إلى حارة السعدية, ومنها إلى القدس القديمة, ثم الجديدة (البلدية, والبيت وحي النيكوفورية, ومقهى الجوهرية في شارع يافا) وقضائها بكل ما به من قرى وبلدات, لتصبح بعد ذلك بعضاً من فصول حكاية فلسطين بأكملها).

الإنجليز: بداية التفتيت

ثمة ارتباط لصورة الإنجليز في القدس بعد الاحتلال وصورة العثمانيين, وقد ذكرنا الشق الخاص بصورة العثمانيين ومشاعر الأهالي تجاههم في الجزء الأول وزوال حكمهم في الجزء الثاني. قد يبدو للقارئ السريع أن هناك تناقضاً في موقف واصف تجاه العثمانيين في مجمل الكتاب بجزأيه, لكن واصف كان منسجماً مع نفسه وفكره وواقعه الاجتماعي وانتمائه الوطني والقومي والثقافي, فقد كره واصف ظلم الأتراك (دار الظالمين خراب) وفرح كغيره بالخلاص من هذا الظلم, لكنه لم ينس إيجابيات العثمانيين من حيث اتصال البلاد ببعضها بعضاً (الأقطار العربية) خصوصاً إقليمي بلاد الشام ومصر, أو من حيث احترام العثمانيين لأصحاب الأديان الأخرى, وخصوصياتهم كما ذكر واصف عن الاحتفالات الدينية. وهو ينسجم مع موقف الناس هنا مسلمين ومسيحيين, في الرغبة بالخلاص من الظلم, وفي الوقت نفسه عدم رغبتهم بسقوط الدولة العثمانية لأن البديل عنها كان الاحتلال الأجنبي.

وهذا ينطبق أيضا على الشعور الفلسطيني وبشكل خاص شعورالمقدسيين الذين عاش معهم واصف إزاء قدوم الإنجليز. فقد ربطوا مجيئهم بالخلاص من الاستبداد العثماني, لكنهم سرعان ما انتبهوا إلى سوء الاحتلال الذي يعمل على تسليم البلاد لليهود لتنفيذ وعد بلفور, ولم تمض سوى بضعة أشهر فقط على تلك الفرحة المزورة.

ويبدو ذلك واضحاً على لسان أبو عيد الدلال المقدسي الذي روى عنه واصف شتائمه على الإنجليز (الله يرحمك يا تركيا .. ويرحم حكمك .. قال إنجليز!! جبنا الأقرع ليونسنا كشف قرعته وخوفنا.. يبلاك بالكسر يا إنجلترا.. ويلحقك بتركيا).

إنه شعور حذر تجاه الإنجليز سرعان ما لمسنا الحنين لعهد تركيا, فالاستبداد والظلم ولا نهب البلاد والاستعمار والوطن القومي اليهودي المزمع إقامته في فلسطين.

يظهر من خلال المذكرات أن الإنجليز لم يعاملوا أهل البلاد معاملة واحدة, بل تحيزوا لليهود, وهذا ما ظهر في تولية اليهود مناصب قيادية في الأمن والأراضي.

القدس العثمانية

المدينة العربية بمحلاتها ووسائل مواصلاتها القديمة, بلباسها وطعامها, والحكواتي فيها, تبدأ بالتطور في جميع المجالات, انتشار المباني خارج السور, دخول الكهرباء, دخول الاتومبيل (دون حصان) الطائرة ... وهو يشهد كيف كانت ردود فعل الأهالي تجاه هذه المخترعات المدهشة, وفي هذا حس أدبي, تاريخي ذكي, يورده بلغة عادية معبرة بحس إنساني حيوي للكوميديا فيه حظ, وهو يتذكر قدوم جمال باشا إلى المدينة عام 1916 وأثر ذلك اجتماعياً.

ليس من السهل لمراجع الكتاب أن يكتب فصوله عن ظواهر مختلفة في المذكرات مهملاً القدس, التي هي عنوان الكتاب (القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية).

وصف الكاتب في هذه الفترة استمرار امتداد العمران خارج السور, وإقامة الإنجليز في القدس, والاصطدامات مع الأهالي, واصطدامات الأهالي مع اليهود. وبدأ بوصف سرور الناس برحيل الأتراك كظالمين, وابتهاج الناس بذلك, حيث كانوا متعطشين للسرور.

ظهرت حداثة القدس في الأسماء الأجنبية للمحلات ودخول الراديو وتأسيس الإذاعة, ووجود السينما والمسرح والعملة الجديدة المرتبطة بالمؤسسات الجديدة, لكن واصف انتقدها كونها تحمل كلمات أرض إسرائيل. كما عرض آثار السياسة الاقتصادية الإنجليزية في منع بعض السلع مثل التمباك.

من المظاهر التي ركز عليها واصف شخصيات القبضايات والظرفاء والباعة, منهم أبو موسى بائع اللحمة المتجول الذي يتذوق الموسيقى, والذي يمثل عارياً في الحمام. وأبو عيد الدلال الذي كان يبتكر طرقاً للاستهزاء بالإنجليز وشتمهم.

وكما صنع جوهرية في الجزء الأول من وضع قوائم بأسماء كثيرة, للمهنيين والأماكن .. فقد وثق في نهاية الكتاب أسماء أعلام وتكايا وقناطر وعقبات وأسواق وحارات وأزقة وأحواش ومآذن وأطباء ومحامين ومقاهٍ.

فقد يخلصها ذلك من صورتها النمطية كمدينة دينية, فالمدينة محطة مهمة لأهل الطرب خصوصاً في مصر, مما يقود إلى الحديث عن الوحدة الشعورية لعرب مصر والشام مثلاً, وقد استغرق واصف في الحديث عن الموسيقى والغناء والكلمات, والمغنين والآلات الموسيقية, فهو مؤرخ موسيقي عاشق لها. إنه يذكر تفصيلات دقيقة عن الحياة والموسيقى والناس, أشبه بالروائي والقاص من أي شيء آخر.

وكما وصف واصف جوهرية حياة القدس, حياته, من منظوره الخاص كموسيقي ومحب .. فإن لنا وغيرنا من المتخصصين في التاريخ والأدب أكثر منا أن يقرأوا الكتاب المذكرات ليحدثونا من خلال منظورهم الشخصي والعلمي عن جوانب أخرى في الكتاب والقدس. إنها مدينة حية تتفاعل فيها العناصر, هي مكانه الوحيد الذي لا يستبدله بمكان آخر, لذلك فحين خرج منها عام 1948, كأنه خرج من الحياة إلا قليلاً.

صورة الفلاح

خلال حديثه عن المكان والقرى حول القدس لعلاقة المدني (الإقطاعي) بالفلاح, لم يكن واصف إلا ذا عين موسيقية, يرصد الأغاني القروية والآلات كالربابة وغيرها, في قرى غرب القدس سريس, كسلا, بيت سوسين ...كان ذلك في الجزء الأول, بينما اختلف ذلك في الجزء الثاني, فقد تحدرت صورة الفلاحين الفلسطينيين ممثلين بقرويي القدس الذين اتصل بهم واصف في شطحاته إلى قرى قالونيا وأبو غوش وغيرهما, فالحميمية التي ذكرها في الجزء الأول وتعلمه الأغاني الشعبية والعزف على بعض الآلات الموسيقية ومصاحبته للسيد حسين الحسيني, لم تعد تلحظها في الجزء الثاني, وربما يرتبط ذلك بطفولة واصف ومراهقته التي أحبت مكان الفلاحين وبراءتهم وفنونهم, حيث كان يطيب له في أوائل شبابه أن يقضي أياماً طويلة في تلك القرى القريبة من القدس مثل بيت سوسين, إلا أن تغير الحال, وارتباط واصف بالمدينة أكثر كونه أصبح موظفاً في دوائر الانتداب وعاش بحبوحة من العيش بعد 1917 غير بعض الشيء من شخصيته رغم أنه كان قريباً من الطبقات الفقيرة, بل وافتخر بذلك, لذلك, فلم يعد ذهابه إلى القرى إلا ضمن شطحة من شطحات الأعيان والأصدقاء للاحتفال والتنزه.

اليهود في القدس

من يطلع على المذكرات المكتوبة بصدق بعيداً عن التكلف أو الاستعداء يجد كيف خربت الصهيونية النسيج المقدسي والفلسطيني بشكل عام بين الناس هناك على اختلاف أديانهم, فبعد أن كان اليهود الفلسطينيون جزءاً أصيلاً من المجتمع الفلسطيني أصبحوا هم والوافدون الجدد (المهاجرون) ينفصلون عن المجتمع الفلسطيني (خصوصاً لليهود الفلسطينيين) تدريجياً حتى وصلت الأمور إلى الانفصال النهائي.

وبسبب انحياز الإنجليز لليهود, بسبب وعد بلفور والتحالف اليهودي الإنجليزي فقد كره الفلسطينيون (مسلمين ومسيحيين) الإنجليز بسبب هذا التحيز ونية تخريب مستقبل فلسطين, كما كرهوا اليهود لارتباطهم بالغازي أيضاً. وخير دليل على ذلك تلك الصور التي قدمها واصف في مذكراته, حيث لم يكن يذكر المواطن اليهودي بأن يسبق وصفه باليهودي فلان, فقط كنا نعرف يهوديته من خلال الاسم, تماماً كما لم يكن مقصودا تقسيم باقي الناس الذين تحدثهم إلى مسلمين أو مسيحيين, وكان يحدث ذلك بشكل تلقائي لمجرد الذكر لا لمقصد عنصري.

نساء المذكرات

في الجزء الأول, ارتبطت النساء بحديث الليل والنشاط الفني, وأصحاب الذوق واللهو, كما ارتبطن بالأعيان من عرب وترك وأجانب, وهن الخليلات المعشوقات العاشقات, فذكر أدوارهن اجتماعياً وجمالياً وسياسياً, وإن أبرزهن واصف كخليلات, وذكر أسماءهن وأسماء الأعيان العشاق. كان للجميلات دور اجتماعي في الهلال الأحمر لتشجيع التبرعات, كما كان لهن دور تنويري لم يفصله واصف, من ذلك علمهن في تقتير الزعتر على سبيل المثال. وقد يستشف القارئ بعض الدلالات في علاقة النساء بالرجال (النخبة) وهي دلالات خفية لها بعد سياسي, لم يحمله واصف أكثر مما يستحق, فلم يتحدث عن أثر النساء اليهوديات مثلاً على رجال النخبة, بل تصرف بذكاء حين جعل لكل الحسان نصيباً في ذلك, كان مبتغى الرجال هو الحب والمتعة كما تتميز به تلك النساء وطوائفهن من تحرر نسبي غير موجود لدى النساء المقدسيات المحافظات.

لقد عمل واصف جندياً وموظفاً في أكثر من نوع من الوظائف من التوثيق إلى المالية إلى سواها, وخلال تنقله بين الدوائر تعرف على الكثير من الناس والمسئولين الفلسطينيين والإنجليز والزوار, وخلال ذلك كان واصف مصدر سرور من حوله, وهؤلاء ينشرون سروره بين معارفهم, فكثر الباحثون عن السرور لدى واصف الذي لم يبخل على أحد من العرب والعجم. تمنى للجميع, وأحب الفن, ولربما كان الفن وسيلة فعالة لاتصاله الحسن مع الآخرين, فقد كان يسهر مع كبار الشخصيات من أعيان القدس ومسئولي حكومة الانتداب, ثم تراه يسهر مع الناس البسطاء, أو الموظفين والمثقفين الصعاليك أمثاله, ولم يكن يجد فرقاً, فلا شعر بامتياز أنه فوق, ولا شعر بغير ذلك حين كان يصاحب الناس العاديين, وذلك لسمو نفسه الإنسانية المحبة للسرور والمحبة. لم يترك واصف وأسرته القدس إلا بعد أن أصبح معرضاً للخطر كما ذكر مفصلاً ستة أسباب لذلك, خلال اشتباكات عام 1948, وكان يأمل كغيره أن يعود. لقد سلبت مجموعته الجوهرية, المتحف والصور, في بيته, في سياق تعرض الممتلكات الثقافية لفلسطين للسلب, كما سلب أصلاً مكانه, بيته وقدسه وجزء كبير من وطنه, لكن واصف أعاد إنشاء المكان والزمان من خلال المذكرات, فبعثها حية كأننا نتجول فيها ونستمع لأغانيه ونصحب زواره. كأنه أراد أن ينتصر على الغازي. اتجه واصف إلى أريحا بعد القدس, كأنه يلجأ إلى العمق طلباً للحنان, بل دخل دير قرنطل مع أسرته, لما لمعنى الدير من دلالة السلام أيضاً.

ومن هنا بدأت مأساته المشتركة مع الشعب الفلسطيني, لقد تأثر بها بشكل كبير, كيف لا وقد أبعدته عن ملعب طفولته ومسرح شبابه وكهولته.

على المستوى الشخصي, كان رحيل فكتوريا نكبة أخرى تضاف لنكبة القدس وفلسطين, حيث تركت فراغاً كبيراً, فقد كانت كل شيء بالنسبة له, حتى ولو لم يبح بكل مشاعره.

يا قَمَراً مَطْلَعُهُ المَغْرِبُ, قد ضاقَ بي, في حبّكَ, المذهبُ
أعتبُ, من ظلمِكَ لي جاهداً, ويغلبُ الشّوقُ, فأستعتِبُ
ألزمتَني الذّنْبَ الذي جئتَهُ, صَدَقْتَ, فاصْفَحْ أيّها المُذنِبُ


(ابن زيدون)

 

تحسين يقين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





واصف جوهرية يتأمل في ذكريات ما كانت عليه القدس قبل أن تلتهمها إسرائيل





بيت جوهرية تتراكم فيها عاديات من العهود العربية التي توالت على القدس





جوهرية وسط عائلته, أولادا وأحفادا